مسالة في رجل تفقه في مذهب من المذاهب الاربعة وتبصر فيه واشتغل بعده بالحديث
مسالة في رجل تفقه في مذهب من المذاهب الاربعة وتبصر فيه واشتغل بعده بالحديث

مسالة:
في رجل تفقه في مذهب من المذاهب الاربعة وتبصر فيه، واشتغل بعده بالحديث، فراى احاديث صحيحة لا يعلم لها ناسخا ولا خصما ولا معارضا وذلك المذهب مخالف لها، هل يجوز له العمل بذلك المذهب، او يجب عليه الرجوع الى العمل بالاحاديث ومخالفة مذهبه؟الجواب::
الحمد لله، قد ثبت بالكتاب، والسنة، والاجماع ان الله سبحانه وتعالى فرض على الخلق طاعته وطاعة رسوله، ولم يوجب على هذه الامة طاعة احد بعينه في كل ما يامر به وينهى عنه، الا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى كان صديق الامة وافضلها بعد نبيها يقول: اطيعوني ما اطعت الله، فاذا عصيت الله فلا طاعة لي عليكم.واتفقوا كلهم على انه ليس احد معصوما في كل ما يامر به وينهى عنه الا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ ولهذا قال غير واحد من الايمة: كل احد من الناس يوخذ من قوله ويترك، الا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
وهولاء الايمة الاربعة - رضي الله عنهم -، قد نهوا الناس عن تقليدهم في كل ما يقولونه، وذلك هو الواجب عليهم، فقال ابو حنيفة: هذا رايي فمن جاء براي خير منه قبلناه، ولهذا لما احتج افضل اصحابه ابو يوسف، اتى مالكا فساله عن مسالة الصاع وصدقة الخضراوات، ومسالة الاجناس.
فاخبره مالك بما يدل على السنة في ذلك، فقال: رجعت الى قولك يا ابا عبد الله، ولو راى صاحبي ما رايت لرجع كما رجعت الى قولك يا ابا عبد الله.
ومالك كان يقول انما انا بشر اصيب واخطي، فاعرضوا قولي على الكتاب والسنة.
او كلاما هذا معناه.
والشافعي كان يقول: اذا صح الحديث فاضربوا بقولي الحايط، واذا رايت الحجة موضوعة على الطريق فهي قولي.
وفي " مختصر المزني " لما ذكر انه اختصره من مذهب الشافعي لمن اراد معرفة مذهبه قال: مع اعلامية نهيه عن تقليده وتقليد غيره من العلماء: والامام احمد كان يقول: لا تقلدني ولا تقلد مالكا، ولا الشافعي، ولا الثوري، وتعلم كما تعلمنا فكان يقول لمن قلده: حرام على الرجل ان يقلد في دينه الرجال، وقال: لا تقلد في دينك الرجال، فانهم لن يسلموا من ان يغلطوا.
وقد ثبت في الصحيح: عن النبي - صلى الله عليه وسلم - انه قال: «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين» ولازم ذلك ان من لم يفقهه الله في الدين لم يرد به خيرا فيكون التفقه في الدين فرضا.
والفقه في الدين معرفة الاحكام الشرعية بادلتها السمعية، فمن لم يعرف ذلك لم يكن متفقها في الدين، لكن من الناس من قد يعجز عن معرفة الادلة التفصيلية في جميع اموره، فيسقط عنه ما يعجز عن معرفته، لا كل ما يعجز عنه من التفقه ويلزم ما يقدر عليه، واما القادر على الاستدلال فقيل: يحرم عليه التقليد مطلقا، وقيل: يجوز مطلقا.
وقيل: يجوز عند الحاجة، كما اذا ضاق الوقت عن الاستدلال، وهذا القول اعدل.
والاجتهاد ليس هو امر واحد لا يقبل التجزيء والانقسام، بل قد يكون الرجل مجتهدا في فن، او باب او مسالة دون فن، وباب، ومسالة، وكل احد فاجتهاده بحسب وسعه.
فمن نظر في مسالة تنازع العلماء فيها وراى مع احد القولين نصوصا لم يعلم لها معارضا بعد نظر مثله، فهو بين امرين: اما ان يتبع قول القايل الاخر لمجرد كونه الامام الذي اشتغل على مذهبه، ومثل هذا ليس بحجة شرعية، بل مجرد عادة يعارضها عادة غيره اشتغاله على مذهب امام اخر، واما ان يتبع القول الذي ترجح في نظره بالنصوص الدالة عليه.
وحينيذ فتكون موافقته لامام يقاوم ذلك الامام وتبقى النصوص سالمة في حقه عن المعارض بالعمل فهذا هو الذي يصلح.
وانما تنزلنا هذا التنزل لانه قد يقال: ان نظر هذا قاصر وليس اجتهاده قايما في هذه المسالة لضعف الة الاجتهاد في حقه.
اما اذا قدر على الاجتهاد التام الذي يعتقد معه ان القول الاخر ليس معه ما يدفع به النص، فهذا يجب عليه اتباع النصوص، وان لم يفعل كان متبعا للظن وما تهوى الانفس، وكان من اكبر العصاة لله ولرسوله بخلاف من قد يقول: قد يكون للقول الاخر حجة راجحة على هذا النص وانا لا اعلمها، فهذا يقال له قد قال الله تعالى: { فاتقوا الله ما استطعتم}[التغابن: 16] وقال النبي: «اذا امرتكم بامر فاتوا منه ما استطعتم» والذي تستطيعه من العلم والفقه في هذه المسالة قد دلك على ان هذا القول هو الراجح فعليك ان تتبع ذلك، ثم ان تبين لك فيما بعد ان للنص معارضا راجحا كان حكمك في ذلك حكم المجتهد المستقل، اذا تغير اجتهاده وانتقال الانسان من قول الى قول لاجل ما تبين من الحق هو محمود فيه، بخلاف اصراره على قول لا حجة معه عليه، وترك القول الذي توضحت حجته، او الانتقال عن قول الى قول لمجرد عادة واتباع هوى، فهذا مذموم.
واذا كان الامام المقلد قد سمع الحديث وتركه، لا سيما اذا كان قد رواه ايضا فمثل هذا وحده لا يكون عذرا في ترك النص، فقد بينا فيما كتبناه في " رفع الملام عن الايمة الاعلام " نحو عشرين عذرا للايمة في ترك العمل لبعض الحديث، وبينا انهم يعذرون في الترك لتلك الاعذار، واما نحن فمعذورون في تركنا لهذا القول.
فمن ترك الحديث لاعتقاده ان ظاهر القران يخالفه وان نص الحديث الصحيح مقدم على الظواهر، ومقدم على القياس والعمل، لم يكن عذر ذلك الرجل عذرا في حقه، فان ظهور المدارك الشرعية للاذهان وخفاءها عنها امر لا ينضبط طرفاه، لا سيما اذا كان التارك للحديث معتقدا انه قد ترك العمل به المهاجرون والانصار، من اهل المدينة النبوية وغيرها، الذين يقال انهم لا يتركون الحديث الا لاعتقادهم انه منسوخ او معارض براجح، وقد بلغ من بعده ان المهاجرين والانصار لم يتركوه، بل عمل به طايفة منهم، او من سمعه منهم ونحو ذلك مما يقدح في هذا المعارض للنص.
واذا قيل لهذا المستهدي المسترشد: انت اعلم ام الامام الفلاني، كانت هذه معارضة فاسدة؛ لان الامام الفلاني قد خالفه في هذه المسالة من هو نظيره من الايمة الى نسبة ابي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وابن مسعود، وابي، ومعاذ، ونحوهم من الايمة وغيرهم، فكما ان هولاء الصحابة بعضهم لبعض اكفاء في موارد النزاع، واذا تنازعوا في شيء ردوا ما تنازعوا فيه الى الله والرسول، وان كان بعضهم قد يكون اعلم في مواضع اخر، فكذلك موارد النزاع بين الايمة وقد ترك الناس قول عمر وابن مسعود في مسالة تيمم الجنب، واخذوا بقول من هو دونهما: كابي موسى الاشعري، وغيره، لما احتج بالكتاب والسنة، وتركوا قول عمر في دية الاصابع، واخذوا بقول معاوية لما كان معه السنة ان النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «هذه وهذه سواء» .
وقد كان بعض الناس يناظر ابن عباس في المتعة فقال له قال: ابو بكر وعمر، فقال ابن عباس: يوشك ان تنزل عليكم حجارة من السماء، اقول قال رسول الله: وتقولون قال ابو بكر وعمر، ؟ وكذلك ابن عمر لما سالوه عنها فامر بها فعارضوا بقول عمر، فتبين لهم ان عمر لم يرد ما يقولونه، فالحوا عليه فقال لهم: امر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - احق ان تتبعوا ام امر عمر؟ مع علم الناس ان ابا بكر وعمر اعلمهم من فوق ابن عمر وابن عباس.
ولو فتح هذا الباب لوجب ان يعرض عن امر الله ورسوله، ويبقى كل امام في اتباعه بمنزلة النبي - صلى الله عليه وسلم - في امته، وهذا تبديل للدين يشبه ما عاب الله به النصارى في قوله: {اتخذوا احبارهم ورهبانهم اربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما امروا الا ليعبدوا الها واحدا لا اله الا هو سبحانه عما يشركون}[التوبة: 31] .
What's Your Reaction?






