المسلك الاول لعن رسول الله الواشمة والموشومة
المسلك الاول لعن رسول الله الواشمة والموشومة
ِ.
فَصْلٌ: وَأَمَّا الطَّرِيقُ الثَّانِي فِي إبْطَالِ التَّحْلِيلِ فِي النِّكَاحِ فَهُوَ الدَّلَالَةُ عَلَى عَيْنِ الْمَسْأَلَةِ وَذَلِكَ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ وَالْقِيَاسِ، الْوَاجِبُ عِنْدَ تَسَاوِي الدَّلَالَةِ الِابْتِدَاءُ بِالْكِتَابِ، وَلَكِنْ لِكَوْنِ دَلَالَةِ السُّنَّةِ أَبْيَنَ ابْتَدَأْنَا بِهَا، وَفِي هَذَا الطَّرِيقِ مَسَالِكُ.
الْمَسْلَكُ الْأَوَّلُ مَا رَوَاهُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ ابْنِ قَيْسٍ الْأَزْدِيِّ عَنْ هُذَيْلِ بْنِ شُرَحْبِيلَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ الْوَاشِمَةَ وَالْمَوْشُومَةَ وَالْوَاصِلَةَ وَالْمَوْصُولَةَ وَالْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ وَآكِلَ الرِّبَا، وَمُوْكِلَهُ» .
رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ.
وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ مِنْهُ: «لَعَنَ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ» وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ ، وَالْعَمَلُ عَلَيْهِ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ مِنْهُمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، وَهُوَ قَوْلُ الْفُقَهَاءِ مِنْ التَّابِعِينَ.
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَرَوَاهُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الْوَاصِلِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنْ النَّبِيِّ: «لَعَنَ اللَّهُ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ» وَعَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُرَّةَ عَنْ الْحَارِثِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: «آكِلُ الرِّبَا وَمُوكِلُهُ وَشَاهِدَاهُ وَكَاتِبُهُ إذَا عَلِمُوا بِهِ وَالْوَاصِلَةُ وَالْمُسْتَوْصِلَةُ وَلَاوِي الصَّدَقَةِ وَالْمُتَعَدِّي فِيهَا وَالْمُرْتَدُّ
عَلَى عَقِبَيْهِ أَعْرَابِيًّا بَعْدَ هِجْرَتِهِ وَالْمُحَلِّلُ وَالْمُحَلَّلُ لَهُ مَلْعُونُونَ عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ الْقِيَامَةِ» رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ الشَّعْبِيِّ عَنْ الْحَارِثِ عَنْ عَلِيٍّ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَنَّهُ لَعَنَ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ» .
وَرُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ يَثْعُبُ عَنْ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَعَنَ اللَّهُ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَالْجُوزَجَانِيُّ وَإِسْنَادُهُ جَيِّدٌ، وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ وَعُثْمَانُ بْنُ الْأَخْنَسِ ثِقَةٌ، وَاَلَّذِي رَوَاهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ الْقُرَشِيِّ وَهُوَ ثِقَةٌ مِنْ رِجَالِ مُسْلِمٍ وَثَّقَهُ
الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَيَحْيَى وَعَلِيٌّ وَغَيْرُهُمْ، وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَحْوُ ذَلِكَ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ وَالْجُوزَجَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ عُثْمَانَ بْنِ صَالِحٍ قَالَ سَمِعْت اللَّيْثَ بْنَ سَعْدٍ يَقُولُ قَالَ مِشْرَحُ بْنُ هَاعَانَ قَالَ عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِالتَّيْسِ الْمُسْتَعَارِ؟ قَالُوا بَلَى يَا
رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: هُوَ الْمُحَلِّلُ لَعَنَ اللَّهُ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ» .
وَفِي لَفْظِ الْجُوزَجَانِيِّ: " الْحَالُّ " بَدَلَ " الْمُحَلِّلِ " رَوَاهُ الْجُوزَجَانِيُّ عَنْ عُثْمَانَ.
وَقَالَ كَانُوا يُنْكِرُونَ عَلَى عُثْمَانَ هَذَا الْحَدِيثَ إنْكَارًا شَدِيدًا.
قُلْت: وَإِنْكَارُ مَنْ أَنْكَرَ هَذَا الْحَدِيثَ عَلَى عُثْمَانَ غَيْرُ جَيِّدٍ إنَّمَا هُوَ لِتَوَهُّمِ انْفِرَادِهِ بِهِ عَنْ اللَّيْثِ وَظَنِّهِمْ أَنَّهُ لَعَلَّهُ أَخْطَأَ فِيهِ حَيْثُ لَمْ يَبْلُغْهُمْ عَنْ غَيْرِهِ مِنْ أَصْحَابِ اللَّيْثِ، كَمَا قَدْ يَتَوَهَّمُ بَعْضُ مَنْ يَكْتُبُ الْحَدِيثَ أَنَّ الْحَدِيثَ إذَا انْفَرَدَ بِهِ عَنْ الرَّجُلِ مَنْ لَيْسَ بِالْمَشْهُورِ مِنْ أَصْحَابِهِ كَانَ ذَلِكَ شُذُوذًا فِيهِ وَعِلَّةً قَادِحَةً - وَهَذَا لَا يَتَوَجَّهُ هَاهُنَا لِوَجْهَيْنِ.
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ قَدْ تَابَعَهُ عَلَيْهِ أَبُو صَالِحٍ كَاتِبُ اللَّيْثِ عَنْهُ، رَوَيْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ الْقَطِيعِيِّ أَحْمَدَ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ حَمْدَانَ قَالَ حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْفِرْيَابِيُّ: حَدَّثَنِي الْعَبَّاسُ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ فُرَيْقٍ: وَحَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ: حَدَّثَنِي اللَّيْثُ بِهِ فَذَكَرَهُ، وَرَوَاهُ أَيْضًا الدَّارَقُطْنِيُّ فِي سُنَنِهِ.
وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ الشَّافِعِيُّ: حَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ الْهَيْثَمِ: أَخْبَرَنَا أَبُو صَالِحٍ فَذَكَرَ.
الثَّانِي: أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ صَالِحٍ هَذَا الْمِصْرِيَّ ثِقَةٌ.
رَوَى عَنْهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ.
وَرَوَى عَنْهُ ابْنُ مَعِينٍ وَأَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيّ.
وَقَالَ الشَّيْخُ صَالِحٌ سَلِيمُ النَّاحِيَةِ قِيلَ لَهُ: كَانَ يُلَقِّنُ قَالَ: لَا.
وَمَنْ كَانَ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ كَانَ مَا يَنْفَرِدُ بِهِ حُجَّةً، وَإِنَّمَا الشَّاذُّ مَا خَالَفَ بِهِ الثِّقَاتِ لَا مَا انْفَرَدَ بِهِ عَنْهُمْ، فَكَيْفَ إذَا تَابَعَهُ مِثْلُ أَبِي صَالِحٍ وَهُوَ كَاتِبُ اللَّيْثِ وَأَكْثَرُ النَّاسِ حَدِيثًا عَنْهُ وَهُوَ ثِقَةٌ أَيْضًا وَإِنْ كَانَ قَدْ وَقَعَ فِي بَعْضِ حَدِيثِهِ غَلَطٌ.
وَمُشْرِحُ بْنُ هَاعَانَ قَالَ فِيهِ ابْنُ مَعِينٍ.
ثِقَةٌ، وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ هُوَ مَعْرُوفٌ، فَثَبَتَ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ جَيِّدٌ وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ.
وَقَالَ سَعِيدٌ فِي سُنَنِهِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ نَشِيطٍ الْبَصْرِيُّ: سَأَلْت بَكْرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيّ عَنْ رَجُلٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ أَلْبَتَّةَ قَالَ: «لُعِنَ الْمُحَلِّلُ وَالْمُحَلَّلُ لَهُ» أُولَئِكَ كَانُوا يُسَمَّوْنَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ بِالتَّيْسِ الْمُسْتَعَارِ، وَعَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ قَالَ كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَقُولُونَ هُوَ التَّيْسُ الْمُسْتَعَارُ.
وَقِيَاسُ الْعَرَبِيَّةِ أَنْ يُقَالَ أَوْ مُحِلٌّ كَمَا يَجِيءُ فِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ وَأَمَّا مَا وَقَعَ فِي بَعْضِهَا مِنْ لَفْظِ الْحَالِّ وَوَقَعَ مِثْلُهُ فِي كَلَامِ أَحْمَدَ فَإِنْ كَانَ لُغَةً لَمْ تَبْلُغْنَا، وَإِلَّا فَيَجُوزُ أَنْ يُسَمَّى حَالًّا لِأَنَّهُ قَصَدَ حَلَّ عُقْدَةِ التَّحْرِيمِ فَيَكُونُ الِاسْمُ الْأَوَّلُ مِنْ التَّحْلِيلِ الَّذِي هُوَ ضِدُّ التَّحْرِيمِ وَهَذَا الِاسْمُ مِنْ الْحِلِّ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الْعَقْدِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُسَمَّى حَالًّا عَلَى
مَعْنَى النَّسَبِ مِنْ الْحِلِّ كَمَا يُقَالُ لَابِنٌ وَتَامِرٌ نِسْبَةً إلَى التَّمْرِ وَاللَّبَنِ وَلَمْ يَقْصِدْ بِهِ اسْمَ الْفَاعِلِ مِنْ التَّحْلِيلِ.
وَيُؤَيِّدُ هَذَا: أَنَّهُ إذَا قِيلَ وَالْمُحَلَّلُ لَهُ وَلَمْ يَقُلْ الْمَحْلُولُ لَهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ قَصَدَ تَحْلِيلَهَا لِغَيْرِهِ بِوَاسِطَةِ حِلِّهَا لَهُ وَحِلِّهِ لَهَا فَيَكُونُ اسْمُ الْفَاعِلِ مِنْ حَلَّ يَحِلُّ فَهُوَ حَالٌّ ضِدُّ حَرُمَ يَحْرُمُ.
وَلِأَنَّهُ تَوَسَّطَ أَنْ يَكُونَ حَلَالًا لَهَا إلَى أَنْ تَصِيرَ حَلَالًا لِلْغَيْرِ ثُمَّ وَجَدْنَاهُ لُغَةً مَنْقُولَةً ذَكَرَهَا ابْنُ الْقَطَّاعِ فِي أَفْعَالِهِ وَغَيْرِهِ يُقَالُ حَلَّ الْمَرْأَةَ لِزَوْجِهَا وَأَحَلَّهَا وَحَلَّهَا لَهُ إذَا تَزَوَّجَهَا لِيُحِلَّهَا.
فَهَذِهِ سُنَنُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيِّنَةٌ فِي أَنَّهُ لَعَنَ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ وَذَلِكَ مِنْ أَبْيَنِ الْأَدِلَّةِ عَلَى أَنَّ التَّحْلِيلَ حَرَامٌ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ لَعَنَ الْمُحَلِّلَ فَعُلِمَ أَنَّ فِعْلَهُ حَرَامٌ؛ لِأَنَّ اللَّعْنَ لَا يَكُونُ إلَّا عَلَى مَعْصِيَةٍ، بَلْ لَا يَكَادُ يَلْعَنُ إلَّا عَلَى فِعْلِ كَبِيرَةٍ إذْ الصَّغِيرَةُ تَقَعُ مُكَفَّرَةً بِالْحَسَنَاتِ إذَا اُجْتُنِبَتْ الْكَبَائِرُ.
- وَاللَّعْنَةُ هِيَ الْإِقْصَاءُ وَالْإِبْعَادُ عَنْ رَحْمَةِ اللَّهِ وَلَنْ يَسْتَوْجِبَ ذَلِكَ إلَّا بِكَبِيرَةٍ.
وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: كُلُّ ذَنْبٍ خُتِمَ بِغَضَبٍ أَوْ لَعْنَةٍ أَوْ عَذَابٍ أَوْ نَارٍ فَهُوَ كَبِيرَةٌ رَوَاهُ عَنْهُ ابْنُ أَبِي طَلْحَةَ، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى بُطْلَانِ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ الْمُحَرَّمَ بَاطِلٌ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، كَيْفَ وَقَدْ حَمَلُوا نَهْيَهُ أَنْ تُنْكَحَ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا أَوْ عَلَى خَالَتِهَا عَلَى التَّحْرِيمِ وَالْفَسَادِ، وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ اسْتِقْصَاءِ ذَلِكَ.
ثُمَّ إنَّهُ لَعَنَ الْمُحَلَّلَ لَهُ فَتَبَيَّنَ بِذَلِكَ أَيْضًا أَنَّهَا لَمْ تَحِلَّ لَهُ بِذَلِكَ التَّحْلِيلِ إذْ لَوْ حَلَّتْ لَهُ لَكَانَ نِكَاحُهُ مُبَاحًا فَلَمْ يَسْتَحِقَّ اللَّعْنَ عَلَيْهِ، فَعُلِمَ أَنَّ الَّذِي فَعَلَهُ الْمُحَلِّلُ حَرَامٌ بَاطِلٌ، وَأَنَّ تَزَوُّجَ الْمُطَلِّقِ ثَلَاثًا لِأَجْلِ هَذَا التَّحْلِيلِ حَرَامٌ بَاطِلٌ.
وَمَعَ أَنَّ مُجَرَّدَ تَحْرِيمِ عَقْدِ النِّكَاحِ كَافٍ فِي بُطْلَانِهِ فَفِي خُصُوصِ هَذَا الْحَدِيثِ مَا يَدُلُّ عَلَى فَسَادِ الْعَقْدَيْنِ لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَعَنَ الْمُحَلَّلَ لَهُ، فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ حَلَّ لِلثَّانِي تَزَوُّجُهَا، وَإِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ حَلَّ، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَعَنَهُ وَلَوْ كَانَتْ قَدْ حَلَّتْ لَهُ لَكَانَ تَزَوُّجُهُ بِهَا جَائِزًا وَلَمْ يَجُزْ لَعْنُهُ فَتَعَيَّنَ
الثَّانِي، وَإِذَا لَمْ تَكُنْ حَلَالًا لِلثَّانِي فَكُلُّ امْرَأَةٍ يَحْرُمُ التَّزَوُّجُ بِهَا فَالْعَقْدُ عَلَيْهَا بَاطِلٌ.
وَهَذَا ثَابِتٌ بِالْإِجْمَاعِ الْمُتَيَقَّنِ بَلْ بِالْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ مِنْ الدِّينِ.
وَذَلِكَ أَنَّ مَحَلَّ الْعَقْدِ كَالْمَبِيعِ وَالْمَنْكُوحَةِ إذَا لَمْ يَكُنْ مُبَاحًا كَالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَالْمُعْتَدَّةِ وَالْمُزَوَّجَةِ كَانَ الْعَقْدُ عَلَيْهِ بَاطِلًا بِالضَّرُورَةِ وَالْإِجْمَاعِ.
وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهَا لَمْ تَحِلَّ لِلثَّانِي وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْعَقْدُ الْأَوَّلُ عَلَيْهِ بَاطِلًا؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ صَحِيحًا لَحَصَلَ بِهِ الْحِلُّ كَسَائِرِ الْأَنْكِحَةِ الصَّحِيحَةِ وَالْكَلَامِ الْمَحْفُوظِ لَفْظًا وَمَعْنًى فِي قَوْلِهِ: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ}[البقرة: 230] وَمَنْ قَالَ إنَّ النِّكَاحَ صَحِيحٌ وَهِيَ لَا تَحِلُّ بِهِ فَقَدْ أَثْبَتَ حُكْمًا بِلَا أَصْلٍ وَلَا نَظِيرٍ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ.
وَقَوْلُهُمْ تَعَجَّلَ مَا أَجَّلَ اللَّهُ فَعُوقِبَ بِنَقِيضِ قَصْدِهِ، قُلْنَا إنْ كَانَ الْمُتَعَجَّلُ بِهِ مِمَّا لَا يُمْكِنُ إبْطَالُهُ كَالْقَتْلِ قَطَعْنَا عَنْهُ حُكْمَهُ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ مِمَّا لَا يُمْكِنُ رَفْعُهُ كَالطَّلَاقِ فِي الْمَرَضِ فَإِنَّا نَقْطَعُ عَنْهُ حُكْمَهُ، وَالْمَقْصُودُ رَفْعُهُ وَهُوَ الْإِرْثُ وَنَحْوُهُ، وَأَمَّا النِّكَاحُ فَإِنَّهُ عَقْدٌ قَابِلٌ لِلْإِبْطَالِ فَيَبْطُلُ، ثُمَّ إذَا عَاقَبْنَا الْمُحَلَّلَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ تَعَجَّلَ الْمُؤَجَّلَ فَكَيْفَ لَا
نُعَاقِبُ الْمُحَلِّلَ الَّذِي هُوَ مُعَجِّلُ الْمُؤَجَّلَ، وَهُوَ أَحَقُّ بِالْعُقُوبَةِ لِعَدَمِ الْغَرَضِ لَهُ فِي هَذَا الْفِعْلِ، وَإِذَا انْتَفَى الدَّاعِي إلَى الْمَعْصِيَةِ كَانَتْ أَقْبَحَ كَزِنَا الشَّيْخِ وَزُهُوِّ الْفَقِيرِ وَكَذِبِ الْمَلِكِ.
فَإِنْ قِيلَ: إلَّا أَنَّ التَّحْرِيمَ وَإِنْ اقْتَضَى فَسَادَ الْعَقْدِ فَإِنَّمَا ذَاكَ إذَا كَانَ التَّحْرِيمُ ثَابِتًا مِنْ الطَّرَفَيْنِ، فَإِذَا كَانَ التَّحْرِيمُ مِنْ أَحَدِهِمَا لَمْ يُوجِبْ الْفَسَادَ كَبَيْعِ الْمُصَرَّاةِ وَالْمُدَلِّسِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَهُنَا التَّحْلِيلُ الْمَكْتُومُ إنَّمَا هُوَ حَرَامٌ عَلَى الزَّوْجِ الْمُحَلِّلِ، فَأَمَّا الْمَرْأَةُ وَوَلِيُّهَا فَلَيْسَ حَرَامًا عَلَيْهِمَا إذَا لَمْ يَعْلَمَا بِقَصْدِ الزَّوْجِ فَلَا يَكُونُ الْعَقْدُ فَاسِدًا كَمَا ذَكَرْنَا مِنْ
النَّظَائِرِ، إذْ فِي إفْسَادِهِ إضْرَارُ الْمَغْرُورِ مِنْ الْمَرْأَةِ وَالْوَلِيِّ، وَصَارَ هَذَا كَمَا لَوْ اشْتَرَى سِلْعَةً لِيَسْتَعِينَ بِهَا عَلَى مَعْصِيَةٍ وَالْبَائِعُ لَا يَعْلَمُ قَصْدَهُ فَإِنَّ هَذَا الْعَقْدَ لَا يُحْكَمُ بِفَسَادِهِ وَإِنْ حَرُمَ عَلَى الْمُشْتَرِي وَكَذَلِكَ الْمُسْتَأْجِرُ وَنَحْوُهُ، فَالْمُوجِبُ لِلتَّحْرِيمِ كِتْمَانُ أَحَدِهِمَا لِنَقْصِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ أَوْ كَذِبِهِ فِي وَصْفِهِ، وَإِذَا كَانَ هَذَا الْعَقْدُ غَيْرَ فَاسِدٍ أَثْبَتَ الْحِلَّ؛
لِأَنَّهُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ الصَّحِيحِ.
ثُمَّ قَدْ يُقَالُ تَحِلُّ بِهِ لِلْأَوَّلِ عَمَلًا بِالْعُمُومِ اللَّفْظِيِّ وَالْمَعْنَوِيِّ وَطَرْدًا لِلنِّظَامِ الْقِيَاسِيِّ، وَقَدْ يُقَالُ بَلْ لَا تَحِلُّ لَهُ كَمَا قَالَهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ وَغَيْرُهُ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ السَّبَبَ مَعْصِيَةٌ وَالْمَعْصِيَةُ لَا تَكُونُ سَبَبًا لِلِاسْتِحْقَاقِ، وَالْحِلُّ وَإِنْ حُكِمَ بِصِحَّةِ الْعَقْدِ وَوُقُوعِ السَّبَبِ إذَا كَانَ مُمْكِنًا لَا يُمْكِنُ إبْطَالُهُ كَالطَّلَاقِ وَالْقَتْلِ لِلْمُوَرِّثِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ حِلِّهَا لِلزَّوْجِ
الْمُحَلِّلِ حِلُّهَا لِلزَّوْجِ الْمُطَلِّقِ؛ لِأَنَّ الْحِلَّ الْأَوَّلَ حَصَلَ ضَرُورَةَ تَصْحِيحِ الْعَقْدِ لِأَجْلِ حَقِّ الْعَاقِدِ الْآخَرِ وَمَتَى صَحَّ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمَرْأَةِ فَقَدْ اسْتَحَقَّتْ الصَّدَاقَ وَالنَّفَقَةَ وَاسْتَحَلَّتْ الِاسْتِمْتَاعَ؛ وَلَا يَثْبُتُ هَذَا إلَّا مَعَ اسْتِحْقَاقِ الزَّوْجِ مِلْكَ النِّكَاحِ وَاسْتِحْلَالِهِ الِاسْتِمْتَاعَ بِخِلَافِ الْمُطَلِّقِ فَإِنَّهُ لَا ضَرُورَةَ هُنَاكَ تَدْعُو إلَى تَصْحِيحِ عَقْدِهِ.
وَيُؤَيِّدُ هَذَا الْقَوْلَ: أَنَّ بَعْضَ السَّلَفِ مِنْهُمْ عُمَرُ وَعَطَاءٌ وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُمْ جَوَازُ إمْسَاكِ الثَّانِي لَهَا إذَا حَدَثَتْ لَهُ الرَّغْبَةُ وَمَنَعُوا عَوْدَهَا لِلْأَوَّلِ.
قُلْنَا: إذَا انْفَرَدَ أَحَدُ الْعَاقِدَيْنِ بِعِلْمِهِ بِسَبَبِ التَّحْرِيمِ؛ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ التَّحْرِيمُ لِأَجْلِ حَقِّ الْعَاقِدِ الْآخَرِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ لِحَقِّ اللَّهِ مَثَلًا، فَإِنْ كَانَ لِأَجْلِ حَقِّ الْعَاقِدِ الْآخَرِ كَمَا فِي بَيْعِ الْمُدَلِّسِ وَالْمُصَرَّاةِ وَنِكَاحِ الْمَعِيبَةِ الْمُدَلِّسَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَهَذَا الْعَقْدُ صَحِيحٌ فِي حَقِّ هَذَا الْمَغْرُورِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا بِحَيْثُ يَحِلُّ لَهُ مَا مَلَكَهُ بِالْعَقْدِ وَإِنْ عَلِمَ فِيمَا بَعْدَ أَنَّهُ كَانَ
مَغْرُورًا، وَإِمَّا فِي حَقِّ الْقَارِّ فَهَلْ يَكُونُ بَاطِلًا فِي الْبَاطِنِ بِحَيْثُ يَحْرُمُ عَلَيْهِ الِانْتِفَاعُ أَوْ لَا يَكُونُ بَاطِلًا أَوْ يُقَالُ مَلَكَهُ مِلْكًا حِسِّيًّا؟ هَذَا مِمَّا قَدْ يَخْتَلِفُ فِيهِ الْفُقَهَاءُ، وَمَسْأَلَتُنَا لَيْسَتْ مِنْ هَذَا الضَّرْبِ، وَإِنْ كَانَ التَّحْرِيمُ لِغَيْرِ حَقِّ الْمُتَعَاقِدَيْنِ بَلْ لِحَقِّ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، أَوْ لِحَقِّ غَيْرِهِمَا مِثْلَ أَنْ يَبِيعَهُ مَا لَا يَمْلِكُهُ وَالْمُشْتَرِي لَا يَعْلَمُ، أَوْ يَبِيعَهُ لَحْمًا يَقُولُ هُوَ
ذَكِيٌّ وَهُوَ ذَبِيحَةُ مَجُوسِيٍّ أَوْ وَثَنِيٍّ، وَمِثْلَ أَنْ يَتَزَوَّجَ امْرَأَةً وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهَا أُخْتُهُ مِنْ الرَّضَاعَةِ وَهِيَ لَا تَعْلَمُ ذَلِكَ؛ أَوْ يَكُونُ أَحَدُ الْمُبَايِعَيْنِ مَحْجُورًا عَلَيْهِ وَهُوَ يَعْلَمُ بِالْحَجْرِ وَالْآخَرُ لَا يَعْلَمُ أَوْ بِالْعَكْسِ، أَوْ لَا يَعْلَم أَنَّ هَذَا الْحَجْرَ يُبْطِلُ التَّصَرُّفَ، أَوْ يَكُونُ الْعَقْدُ مُشْتَمِلًا عَلَى شَرْطٍ أَوْ وَقْتٍ أَوْ وَصْفٍ، أَوْ أَحَدُهُمَا لَا يَعْلَمُ حُكْمَهُ وَالْآخَرُ يَعْلَمُ.
إلَى نَحْوِ هَذِهِ الصُّوَرِ الَّتِي يَكُونُ الْعَقْدُ لَيْسَ مَحَلًّا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ.
أَوْ الْعَاقِدُ لَيْسَ أَهْلًا مِنْ الطَّرَفَيْنِ فَهُنَا الْعَقْدُ بَاطِلٌ فِي حَقِّ الْعَالِمِ بِالتَّحْرِيمِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا.
وَإِنْ كَانَ الْفُقَهَاءُ قَدْ اخْتَلَفُوا هَلْ تَسْتَحِقُّ الْمَرْأَةُ فِي مِثْلِ هَذَا مَهْرًا، وَفِيهِ عَنْ أَحْمَدَ رِوَايَتَانِ.
إحْدَاهُمَا: تَسْتَحِقُّهُ وَأَظُنُّهُ قَوْلَ الشَّافِعِيِّ.
وَالْأُخْرَى: لَا تَسْتَحِقُّهُ وَأَظُنُّهُ قَوْلَ مَالِكٍ فَإِنَّمَا ذَاكَ عِنْدَ مَنْ أَوْجَبَهُ لِئَلَّا يَخْلُوَ الْوَطْءُ الْمُلْحِقُ لِلنَّسَبِ عَنْ عِوَضٍ، وَوُجُوبُ الْمَهْرِ وَالْعِدَّةِ وَالنَّسَبِ لَيْسَتْ مِنْ خَصَائِصِ الْعَقْدِ الصَّحِيحِ فَإِنَّمَا يَثْبُتُ فِي وَطْءِ الشُّبْهَةِ.
أَفَلَمْ يَكُنْ فِي إيجَابِ مَنْ أَوْجَبَ الْمَهْرَ مَا يَقْتَضِي صِحَّةَ الْعَقْدِ بِوَجْهٍ مَا كَمَا أَنَّهُمْ يُوجِبُونَ الْعِدَّةَ فِي مِثْلِ هَذَا وَيُلْحِقُونَ بِهِمْ النَّسَبَ مَعَ بُطْلَانِ الْعَقْدِ.
بَلْ كُلُّ نِكَاحٍ فَاسِدٍ يَثْبُتُ فِيهِ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ مُجْمَعًا عَلَى فَسَادِهِ.
وَأَمَّا فِي حَقِّ مَنْ يَعْلَمُ التَّحْرِيمَ كَالزَّوْجِ وَالْمُشْتَرِي الْمَغْرُورَيْنِ فَالْعَقْدُ فِي حَقِّهِمَا بَاطِلٌ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمَا بُطْلَانَهُ، وَمَا عَلِمْت أَحَدًا مِنْ الْعُلَمَاءِ يَصِفُهُ بِالصِّحَّةِ مِنْ وَجْهٍ مَا، وَإِنْ كَانَ مُقْتَضَى أُصُولِ بَعْضِ الْكَلَامِيِّينَ أَنْ يَكُونَ صَحِيحًا فِي حَقِّ الْمُشْتَرِي إمَّا ظَاهِرًا وَإِمَّا بَاطِنًا.
لَكِنَّ الْفُقَهَاءَ عَلَى أَنَّهُ فَاسِدٌ، فَلَا يَثْبُتُ لَهُ بِهَذَا الْعَقْدِ مِلْكٌ وَلَا إبَاحَةُ شَيْءٍ كَانَ حَرَامًا عَلَيْهِ فِي الْبَاطِنِ، لَكِنَّهُ لَا يُعَاقَبُ بِالْوَطْءِ وَلَا بَانَ بِالِانْتِفَاعِ بِمَا ابْتَاعَهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ التَّحْرِيمَ، وَكَوْنُهُ لَمْ يَعْلَمْ التَّحْرِيمَ لَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ مُبَاحًا لَهُ كَمَا أَنَّ مَنْ لَمْ يَعْلَمْ تَحْرِيمَ الزِّنَا وَالْخَمْرِ وَتَنَاوَلَهُمَا لَا نَقُولُ إنَّهُ فَعَلَ مُبَاحًا لَهُ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ مَا أَبَاحَ هَذَا لِأَحَدٍ قَطُّ
لَكِنْ نَقُولُ فَعَلَ مَا لَمْ يَعْلَمْ تَحْرِيمَهُ.
وَيَتَحَرَّرُ الْكَلَامُ فِي مِثْلِ هَذَا بِنَظَرَيْنِ.
أَحَدُهُمَا: فِي الْفِعْلِ فِي الْبَاطِنِ هَلْ هُوَ حَرَامٌ أَوْ لَيْسَ بِحَرَامٍ بَلْ مُبَاحٌ؟ وَالثَّانِي: فِي الظَّاهِرِ هَلْ هُوَ مُبَاحٌ أَوْ لَيْسَ بِحَرَامٍ بَلْ عَفْوٌ؟ النَّظَرُ الْأَوَّلُ: هَلْ يُقَالُ الْفِعْلُ حَرَامٌ عَلَيْهِ فِي الْبَاطِنِ لَكِنَّهُ لَمَّا لَمْ يَعْلَمْ التَّحْرِيمَ عُذِرَ لِعَدَمِ عِلْمِهِ.
وَالْفُقَهَاءُ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ وَمَنْ يَخُوضُ مَعَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَنَحْوِهِمْ يَتَنَازَعُونَ فِي مِثْلِ هَذَا، فَكَثِيرٌ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ وَبَعْضُ الْفُقَهَاءِ يَقُولُونَ: هَذَا لَيْسَ بِحَرَامٍ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْحَالِ أَصْلًا، وَإِنْ كَانَ حَرَامًا فِي الْأَصْلِ وَفِي غَيْرِ هَذِهِ الْحَالِ كَالْمَيْتَةِ لِلْمُضْطَرِّ؛ لِأَنَّ التَّحْرِيمَ هُوَ الْمَنْعُ مِنْ الْفِعْلِ وَالْمَنْعُ لَا يَثْبُتُ حُكْمُهُ إلَّا بِإِعْلَامِ الْمَمْنُوعِ أَوْ
تَمَكُّنِهِ مِنْ الْعِلْمِ وَهَذَا لَمْ يَعْلَمْ التَّحْرِيمَ وَلَا أَمْكَنَهُ عِلْمُهُ فَلَا تَحْرِيمَ فِي حَقِّهِ، قَالُوا وَالتَّحْرِيمُ الثَّابِتُ فِي الْبَاطِنِ دُونَ الظَّاهِرِ لَا يُعْقَلُ فَإِنَّ حَدَّ الْمُحَرَّمِ مَا ذُمَّ فَاعِلُهُ أَوْ عُوقِبَ أَوْ مَا كَانَ سَبَبًا لِلذَّمِّ أَوْ الْعِقَابِ أَوْ مَا اسْتَحَقَّ بِهِ ذَمًّا أَوْ عِقَابًا، وَهَذَا الْفِعْلُ لَمْ يَثْبُتْ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْخَصَائِصِ.
نَعَمْ وَهَذَا الْقَوْلُ يَقْوَى عِنْدَ مَنْ لَا يَرَى التَّحْرِيمَ وَالتَّحْلِيلَ يُوجِبُ إلَّا مُجَرَّدَ نِسْبَةٍ وَإِضَافَةٍ تَثْبُتُ لِلْفِعْلِ لِتَعَلُّقِ الْخِطَابِ بِهِ، وَهَذَا أَيْضًا قَوْلُ مَنْ يَقُولُ كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ بَاطِنًا وَظَاهِرًا.
ثُمَّ إنْ كَانَ قَدْ اسْتَحَلَّهُ بِنَاءً عَلَى إمَارَةٍ شَرْعِيَّةٍ قَالُوا هُوَ حَلَالٌ بَاطِنًا وَظَاهِرًا حِلًّا شَرْعِيًّا، وَإِنْ اسْتَحَلَّهُ لِعَدَمِ الْمُحَرَّمِ قَالُوا لَيْسَ بِحَرَامٍ بَاطِنًا وَلَا ظَاهِرًا.
وَلَمْ يَقُولُوا هُوَ حَلَالٌ، وَأَمَّا أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ فَيَقُولُونَ إنَّهُ حَرَامٌ عَلَيْهِ فِي الْبَاطِنِ، لَكِنَّ عَدَمَ التَّحْرِيمِ مَنَعَ مِنْ الذَّمِّ وَالْعِقَابِ لِفَوَاتِ شَرْطِ الذَّمِّ وَالْعِقَابِ الَّذِي هُوَ الْعِلْمُ، وَتَخَلُّفِ الْمُقْتَضِي عَنْ الْمُقْتَضَى لِفَوَاتِ شَرْطٍ أَوْ وُجُودِ مَانِعٍ لَا يَقْدَحُ فِي كَوْنِهِ مُقْتَضِيًا.
وَهَذَا يَنْبَنِي عَلَى حُكْمِ الْعِلَّةِ إذَا تَخَلَّفَ عَنْهَا لِفَوَاتِ شَرْطٍ أَوْ وُجُودِ مَانِعٍ هَلْ يَقْدَحُ فِي كَوْنِهَا عِلَّةً وَيُؤْخَذُ مِنْ الشَّرْطِ وَعَدَمِ الْمَانِعِ قُيُودٌ تُضَمُّ إلَى تِلْكَ الْأَوْصَافِ فَيَجْعَلُ الْجَمِيعَ عِلَّةً وَلَكِنْ يُضَافُ التَّخَلُّفُ إلَى الْمَانِعِ وَفَوَاتِ الشَّرْطِ.
وَهَذِهِ مَسْأَلَةُ تَخْصِيصِ الْعِلَّةِ وَفَسَادِهَا بِالنَّقْضِ مُطْلَقًا خُيِّرَ أَوْ لَمْ يُخَيَّرْ، وَالنَّاسُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ مُخْتَلِفُونَ خِلَافًا مَشْهُورًا.
فَمَنْ قَالَ بِتَخْصِيصِهَا فَرَّقَ بَيْنَ الشَّرْطِ وَجَزَاءِ الْعِلَّةِ وَعَدَمِ الْمَانِعِ وَقَالَ قَدْ تَقَدَّمَ الْحُكْمُ مَعَ بَقَائِهَا إذَا صَادَفَهَا مَانِعٌ أَوْ تَخَلَّى عَنْهَا الشَّرْطُ الْمُعَيَّنُ.
وَمَنْ لَمْ يُخَصِّصْهَا فَعِنْدَهُ الْجَمِيعُ شَيْءٌ وَاحِدٌ وَمَتَى تَخَلَّفَ عَنْهَا الْحُكْمُ لَمْ يَكُنْ عِلَّةً بِحَالٍ بَلْ يَكُونُ بَعْضَ عِلَّةٍ.
وَفَصْلُ الْخِطَابِ أَنَّ الْعِلَّةَ الْمُوجِبَةَ - وَهِيَ الْعِلَّةُ التَّامَّةُ الَّتِي يَجِبُ وُجُودُ مَعْلُولِهَا عِنْدَ وُجُودِهَا - فَهَذِهِ لَا تُخَصَّصُ، وَيُقَالُ عَلَى الْعِلَّةِ الْمُقْتَضِيَةِ وَإِنْ كَانَتْ نَاقِصَةً - وَهِيَ مَا مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تَقْتَضِيَ وَلَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ تُصَادِفَ مَحَلًّا لَا يَعُوقُ - فَهَذِهِ تُخَصَّصُ، فَالنِّزَاعُ عَادَ إلَى عِبَارَةٍ كَمَا تَرَاهُ، وَيَعُودُ أَيْضًا إلَى مُلَاحَظَةٍ عَقْلِيَّةٍ وَهُوَ أَنَّهُ عِنْدَ تَخَلُّفِ
الْمَعْلُولِ لِأَجْلِ الْمُعَارِضِ هَلْ يُلَاحَظُ فِي الْعِلَّةِ وَصْفُ الِاقْتِضَاءِ مَمْنُوعًا بِمَنْزِلَةِ الْحَجَرِ الْهَابِطِ إذَا صَادَفَ سَقْفًا.
وَبِمَنْزِلَةِ ذِي الشَّهْوَةِ الْغَالِبَةِ بِحَضْرَةِ مَنْ يَهَابَهُ؟ أَوْ يُلَاحِظُ مَعْدُومًا بِمَنْزِلَةِ الْعَيْنَيْنِ وَبِمَنْزِلَةِ الْعَشَرَةِ إذَا نَقَصَ مِنْهَا وَاحِدٌ فَإِنَّهَا لَمْ تَبْقَ عَشَرَةً، فَإِذَا كَانَ النِّزَاعُ يَعُودُ إلَى اعْتِبَارٍ عَقْلِيٍّ.
أَوْ إلَى إطْلَاقٍ لَفْظِيٍّ لَا إلَى حُكْمٍ عَمَلِيٍّ أَوْ اسْتِدْلَالِيٍّ فَالْأَمْرُ قَرِيبٌ، وَإِنْ كَانَ هَذَا الْخِلَافُ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ إصْلَاحٌ جَدَلِيٌّ وَهُوَ أَنَّهُ هَلْ يُقْبَلُ مِنْ الْمُسْتَدِلِّ خَبَرُ النَّقْضِ بِالْفَرْقِ بَيْنَ صُورَةِ النِّزَاعِ وَصُورَةِ النَّقْضِ، أَوْ لَا يُقْبَلُ مِنْهُ ذَلِكَ بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ بِوَصْفٍ يَطَّرِدُ لَا يُنْتَقَضُ أَلْبَتَّةَ وَمَتَى انْتَقَضَ انْقَطَعَ فِيهِ أَيْضًا اصْطِلَاحَانِ لِلْمُتَجَادِلَيْنِ.
وَكَانَ الْغَالِبُ عَلَى أَهْلِ الْعِرَاقِ فِي حُدُودِ الْمِائَةِ الرَّابِعَةِ قَبْلَهَا وَبَعْدَهَا إلَى قَرِيبٍ مِنْ الْمِائَةِ الْخَامِسَةِ إلْزَامَ الْمُسْتَدِلِّ بِطَرْدِ عِلَّتِهِ فِي مُنَاظَرَاتِهِمْ وَمُصَنَّفَاتِهِمْ، وَأَمَّا أَهْلُ خُرَاسَانَ فَلَا يُلْزِمُونَهُ بِذَلِكَ بَلْ يُلْزِمُونَهُ تِبْيَانَ تَأْثِيرِ الْعِلَّةِ وَيُجِيزُونَ النَّقْضَ بِالْفَرْقِ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي غَلَبَ عَلَى الْعِرَاقِيِّينَ بَعْدَ الْمِائَةِ الْخَامِسَةِ، وَتَجِدُ الْكُتُبَ الْمُصَنَّفَةَ لِأَصْحَابِنَا
وَغَيْرِهِمْ فِي الْخِلَافِ بِحَسَبِ اصْطِلَاحِ زَمَانِهِمْ وَمَكَانِهِمْ، فَلَمَّا كَانَ الْعِرَاقِيُّونَ فِي زَمَنِ الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَالْقَاضِي عَبْدِ الْوَهَّابِ مِنْ مِصْرَ وَأَبِي إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيِّ وَنَحْوِهِمْ يُوجِبُونَ الِاطِّرَادَ غَلَبَ عَلَى أَقْيِسَتِهِمْ تَحْرِيرُ الْعِبَارَاتِ وَضَبْطُ الْقِيَاسَاتِ الْمُطَرَّدَاتِ وَيُسْتَفَادُ مِنْهَا الْقَوَاعِدُ الْكُلِّيَّاتُ، لَكِنْ تَبَدُّدُ الذِّهْنِ عَنْ نُكْتَةِ الْمَسْأَلَةِ يُحْوِجُ الْمُتَكَلِّمَ أَوْ
الْمُسْتَمِعَ إلَى أَنْ يَشْتَغِلَ بِمَا لَا يَعْنِيهِ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ عَمَّا يَعْنِيهِ.
وَلِهَذَا كَانُوا يُكَلِّفُونَ بِأَنْ يَأْتِيَ بِقِيَاسٍ مُطَّرِدٍ وَلَا يَظْهَرُ خُرُوجُ وَصْفِهِ عَنْ جِنْسِ الْعِلَلِ الشَّرْعِيَّةِ وَإِنْ لَمْ يُقِمْ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْوَصْفَ عِلَّةٌ لِلْحُكْمِ وَرُبَّمَا غَلَا بَعْضُهُمْ فِي الطَّرْدِيَّاتِ، وَلَمَّا كَانَ الْعِرَاقِيُّونَ الْمُتَأَخِّرُونَ لَا يُلْزِمُونَ هَذَا فَتَحُوا عَلَى نُفُوسِهِمْ سُؤَالَ الْمُطَالَبَةِ بِتَأْثِيرِ الْوَصْفِ وَطَوَائِفُ مِنْ مُتَقَدِّمِي الْخُرَاسَانِيِّينَ فَيُسْتَفَادُ مِنْ طَرِيقِهِمْ
الْكَلَامُ فِي الْمُنَاسَبَاتِ وَالتَّأْثِيرَاتِ بِحَسَبِ مَا أَحَاطُوا بِهِ مِنْ الْعِلْمِ أَثَرًا وَرَأْيًا، وَهَذَا أَشَدُّ عَلَى الْمُسْتَدِلِّ مِنْ حَيْثُ احْتِيَاجُهُ إلَى إقَامَةِ الدَّلِيلِ عَلَى تَأْثِيرِ الْوَصْفِ، وَالْأَوَّلُ أَشَدُّ عَلَيْهِ مِنْ حَيْثُ احْتِيَاجُهُ إلَى الِاحْتِرَازِ عَنْ النَّقْضِ، وَلِهَذَا سَمَّى بَعْضُهُمْ الْأَوَّلِينَ أَصْحَابَ الطَّرْدِ، وَسَمَّى الْآخَرِينَ أَصْحَابَ التَّأْثِيرِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِكَوْنِهِمْ أَصْحَابَ الطَّرْدِ أَنَّهُمْ
يَكْتَفُونَ بِمُجَرَّدِ الْوَصْفِ الْمُطَّرِدِ الَّذِي لَا يَظْهَرُ فِيهِ اقْتِضَاءٌ لِلْحُكْمِ وَلَا دَلَالَةَ عَلَيْهِ وَلَا إشْعَارَ بِهِ.
فَإِنَّ هَذَا يُبْطِلُهُ جَمَاهِيرُهُمْ وَلَمْ يَكُنْ يَقُولُ بِهِ وَيَسْتَعْمِلُهُ إلَّا شِرْذِمَةٌ مِنْ الطَّارِدِينَ.
وَفِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ الطَّرِيقَتَيْنِ مَا يُقْبَلُ وَيُرَدُّ.
وَلَا يُمْكِنُ هُنَا تَفْصِيلُ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ، لَكِنَّ الرَّاجِحَ فِي الْجُمْلَةِ قَوْلُ مَنْ يُخَصِّصُ الْعِلَّةَ لِفَوَاتِ شَرْطٍ أَوْ لِوُجُودِ مَانِعٍ فَإِنَّ مُلَاحَظَتَهُ أَقْرَبُ إلَى الْمَعْقُولِ وَأَشْبَهُ بِالْمَنْقُولِ، وَعَلَى ذَلِكَ تَصَرُّفَاتُ الصَّحَابَةِ وَالسَّلَفِ مِنْ أَئِمَّةِ الْفُقَهَاءِ وَغَيْرِهِمْ، وَلِهَذَا رَجَعَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى فِي آخِرِ عُمُرِهِ إلَى ذَلِكَ، وَذَكَرَ أَنَّ أَكْثَرَ كَلَامِ أَحْمَدَ يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَهُوَ كَمَا
قَالَ.
وَغَيْرُهُ يَقُولُ إنَّهُ مَذْهَبُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ مَنْ تَأَمَّلَ مُنَاظَرَتَهُمْ عَلِمَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَخُصُّونَ التَّعْلِيلَ بِوُجُودِ الْمَانِعِ، وَأَنَّهُمْ كَانُوا يُجِيزُونَ النَّقْضَ بِالْفَرْقِ بَيْنَ الْفَرْعِ وَبَيْنَ صُورَةِ النَّقْضِ إذَا كَانَ الْفَرْقُ مَغْلُوسًا فِي الْأَصْلِ الْمَقِيسِ عَلَيْهِ أَيْ أَنْ يَكُونَ الْوَصْفُ الْقَائِمُ بِصُورَةِ النَّقْضِ مَانِعًا غَيْرَ مَوْجُودٍ فِي الْأَصْلِ كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ بِمَوْجُودٍ فِي
الْفَرْعِ إذْ لَوْ كَانَ مَوْجُودًا فِي الْأَصْلِ لَمْ يَكُنْ مَانِعًا وَلَوْ كَانَ مَوْجُودًا فِي الْفَرْعِ لَمْ يَجُزْ النَّقْضُ وَهَذَا عَيْنُ الْفِقْهِ.
بَلْ هُوَ عَيْنُ كُلِّ عِلْمٍ بَلْ هُوَ عَيْنُ كُلِّ نَظَرٍ صَحِيحٍ وَكَلَامٍ سَدِيدٍ.
نَعَمْ فِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلَانِ مُتَطَرِّفَانِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ: قَوْلُ مَنْ يُجَوِّزُ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ تَخْصِيصَ الْعِلَّةِ لَا لِمَانِعٍ وَلَا لِفَوَاتِ شَرْطٍ بَلْ بِمُجَرَّدِ دَلِيلٍ كَمَا يَخُصُّ الْعُمُومَ اللَّفْظِيَّ، وَقَوْلُ مَنْ يَقُولُ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ إنَّ الْعِلَّةَ الْمَنْصُوصَةَ إذَا تَخَصَّصَتْ بَطَلَ كَوْنُهَا عِلَّةً وَعُلِمَ أَنَّهَا جُزْءُ الْعِلَّةِ.
فَهَذَانِ قَوْلَانِ ضَعِيفَانِ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي؛ لِأَنَّ الْمَذْهَبَ الْمُخَصِّصَ مُسْتَلْزِمٌ لِمَانِعٍ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْهُ فَإِنَّ هَذَا إنَّمَا يَكُونُ لَهُ وَجْهٌ أَنْ لَوْ كَانَتْ الْعِلَّةُ عُلِمَتْ بِنَصٍّ وَالْمُخَصِّصُ لَهَا نَصٌّ فَهُنَاكَ لَا يَضُرُّنَا أَنْ لَا نَعْلَمَ الْمَانِعَ الْمَعْنَوِيَّ عَلَى نَظَرٍ فِيهِ، إذْ قَدْ يُقَالُ إنْ كَانَ التَّمَسُّكُ بِالْعُمُومِ اللَّفْظِيِّ فَلَا كَلَامَ، وَإِنْ كَانَ التَّمَسُّكُ بِالْعُمُومِ الْمَعْنَوِيِّ فَقَدْ عَلِمْنَا
انْتِفَاءَهُ مَعَ مَانِعٍ مَجْهُولٍ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْعَامِّ إذَا اُسْتُثْنِيَ مِنْهُ شَيْءٌ مَجْهُولٌ.
فَمَا مِنْ صُورَةٍ مُعَيَّنَةٍ إلَّا وَيُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ دَاخِلَةً فِي الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ.
وَيُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ دَاخِلَةً فِي الْمُسْتَثْنَى فَلَا يَجُوزُ إدْخَالُهَا فِي أَحَدِهِمَا بِلَا دَلِيلٍ، كَذَلِكَ كُلُّ صُورَةٍ تَفْرِضُ وُجُودَ الْعِلَّةِ فِيهَا إذَا كَانَتْ مُخَصَّصَةً بِنَصٍّ فَلَا بُدَّ أَنْ يَشْتَمِلَ عَلَى مَانِعٍ مَعْنَوِيٍّ فَإِنَّ تِلْكَ الصُّورَةَ جَازَ أَنْ تَكُونَ مُشْتَمِلَةً عَلَى ذَلِكَ الْمَانِعِ وَجَازَ أَنْ تَكُونَ لَمْ تَشْتَمِلْ عَلَيْهِ، وَلَا يُقَالُ اشْتِمَالُهَا عَلَى الْمُقْتَضِي مَعْلُومٌ وَاشْتِمَالُهَا عَلَى الْمَانِعِ
مَشْكُوكٌ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْمُقْتَضِيَ الَّذِي يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ هُوَ مَا لَمْ يَغْلِبْ عَلَى الظَّنِّ مُصَادَمَةُ الْمَانِعِ لَهُ وَهَذِهِ الْعِلَّةُ مُنْتَفِيَةٌ هُنَا، وَهَذَا الْمَقَامَ أَيْضًا مِمَّا اخْتَلَفَ فِيهِ الْعُلَمَاءُ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ وَهُوَ جَوَازُ التَّمَسُّكِ بِالظَّوَاهِرِ قَبْلَ الْبَحْثِ عَمَّا يُعَارِضُهَا، وَالْمُخْتَارُ عِنْدَنَا - وَعَلَيْهِ يَدُلُّ كَلَامُ أَحْمَدَ وَكَلَامُ غَيْرِهِ مِنْ الْأَئِمَّةِ - أَنَّهُ مَا لَمْ يَغْلِبْ عَلَى الظَّنِّ عَدَمُ
الْمُعَارِضِ الْمُقَاوِمِ وَإِلَّا فَلَا يَجُوزُ الْجَزْمُ بِمُقْتَضًى يَكُونُ جَوَازُ تَخَلُّفِهِ عَنْ مُقْتَضِيهِ وَعَدَمُ جَوَازِهِ فِي الْقَلْبِ سَوَاءً، وَتَمَامُ الْكَلَامِ فِي هَذِهِ الْقَوَاعِدِ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ، وَإِنَّمَا نَبَّهْنَا عَلَيْهِ لِيَظْهَرَ الْمَأْخَذُ فِي قَوْلِهِمْ أَنَّهُ يَكُونُ الشَّيْءُ حَرَامًا فِي الْبَاطِنِ، وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ مُقْتَضَى التَّحْرِيمِ فِي حَقِّ مَنْ لَمْ يَبْلُغْهُ لِلْعُذْرِ فَإِنَّ التَّخَلُّفَ هُنَا لِفَوَاتِ شَرْطٍ وَلَا يَقْدَحُ فِي
كَوْنِ الْفِعْلِ مُقْتَضِيًا لِلْعِقَابِ فِي الْجُمْلَةِ، وَلِهَذَا لَمَّا كَانَ أَكْثَرُ عُقُولِ الْفُقَهَاءِ بَلْ أَكْثَرُ عُقُولِ النَّاسِ بَلْ عَامَّةُ الْعُقُولِ الَّتِي لَمْ يُكَدِّرْ صَفَاهَا رَهَجُ الْجَدَلِ وَيَرَى صِحَّةَ كَوْنِ الشَّيْءِ بِصِفَةِ الِاقْتِضَاءِ، وَإِنْ كَانَ مَعُوقًا عَنْ عَمَلِهِ صَارُوا فِي عَامَّةِ مَا يَفْعَلُونَهُ وَيَقُولُونَهُ يَنْتَهِجُونَ مَنَاهِجَ الْقَائِلِينَ بِتَخْصِيصِ الْعِلَّةِ لِمَانِعٍ إذْ هَذَا ثَابِتٌ فِي كُلِّ مَا يَتَكَلَّمُ فِيهِ
الْآدَمِيُّونَ، وَإِنْ كَانُوا قَدْ يَكُونُونَ مِمَّنْ خَالَفَ فِي ذَلِكَ إذَا جَرَّدُوا الْأُصُولَ، فَلِهَذَا كَانَ الْغَالِبُ عَلَى النَّاسِ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَغَيْرِهِمْ مَنْ يَقْبَلُ عَقْلُهُ كَوْنَ الشَّيْءِ حَرَامًا فِي الْبَاطِنِ لَكِنَّ انْتِفَاءَ حُكْمِ التَّحْرِيمِ فِي حَقِّ هَذَا الْمُعَيَّنِ لِفَوَاتِ شَرْطِ الْعِقَابِ أَوْ لِوُجُودِ مَانِعٍ فِيهِ.
وَهَذَا قَوِيٌّ إذَا قِيلَ: إنَّ الْحِلَّ وَالْحُرْمَةَ قَدْ تَكُونُ لِمَعَانٍ فِي الْأَفْعَالِ تُنَاسِبُ الْحُكْمَ وَيَقْتَضِيهِ، وَإِنَّ الْعِلَلَ الشَّرْعِيَّةَ لَيْسَتْ مُجَرَّدَ عَلَامَاتٍ وَإِمَارَاتٍ كَمَا قَدْ يُجِيبُ بِهِ فِي الْمَضَايِقِ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّهُ يَنْصُرُ السُّنَّةَ أَنَّهُ يَرُدُّ الْأَحْكَامَ إلَى مَحْضِ الْمَشِيئَةِ.
فَإِنَّ مَنْ تَأَمَّلَ دَلَالَةَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعَ السَّابِقِينَ عَلَى تَوْجِيهِ الْأَحْكَامَ بِالْأَوْصَافِ الْمُنَاسِبَةِ وَالنُّعُوتِ الْمُلَائِمَةِ.
بَلْ دَخَلَ مَعَ الْأَئِمَّةِ فِيمَا يَشْهَدُهُ بِنَظَائِرِهَا مِنْ الْحِكَمِ الْبَاهِرَةِ الْمَنْظُومَةِ فِي الْأَحْكَامِ الظَّاهِرَةِ وَالْمَصَالِحِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ الَّتِي جَاءَتْ بِهَا هَذِهِ الشَّرِيعَةُ الْحَنِيفِيَّةُ الَّتِي قَدْ أَرْبَى نُورُهَا عَلَى الشَّمْسِ إضَاءَةً وَإِشْرَاقًا وَعَلَى إحْكَامِهَا عَلَى الْفُلْكِ انْتِظَامًا وَاتِّسَاقًا ثُمَّ نَازَعَ بَعْدَ هَذَا فِي أَنَّ الْأَسْبَابَ وَالْعِلَلَ فِيهَا اقْتِضَاءٌ وَمُلَاءَمَةٌ وَرَأَى مَا فِي الدَّلِيلِ
الصَّرْفِ فَهُوَ أَحَدُ رَجُلَيْنِ: إمَّا مُعَانِدٌ يَقُولُ بِلِسَانِهِ مَا لَيْسَ فِي قَلْبِهِ وَمَا أَكْثَرُ السَّفْسَطَةِ مِنْ بَنِي آدَمَ عُمُومًا وَمِنْ الْمُنَاظِرِينَ فِي الْعِلْمِ خُصُوصًا فِي جُزْئِيَّاتِ الْمُقَدِّمَاتِ وَإِنْ كَانُوا مُجْمِعِينَ أَوْ كَالْمُجْمِعِينَ عَلَى فَسَادِهَا فِي الْأَنْوَاعِ الْكُلِّيَّاتِ.
وَإِمَّا ذَاهِلٌ جَاهِلٌ حَقِيقَةَ مَا يَقُولُهُ مِنْ أَنَّ الْعِلَلَ مُجَرَّدُ أَمَارَاتٍ مُصَرِّفَاتٍ لَمْ يَجْمَعْ بَيْنَ مَعْنَى هَذَا الْقَوْلِ وَبَيْنَ مَا هُوَ دَائِمًا يَرَاهُ وَيَقُولُهُ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ.
وَإِنَّمَا قُلْنَا إنَّ هَذَا الْقَوْلَ قَوِيٌّ إذَا رَأَيْنَا مَا فِي الْأَفْعَالِ الْمُحَرَّمَةِ مِنْ الْمَفَاسِدِ؛ لِأَنَّ الْمَفْسَدَةَ ثَابِتَةٌ فِي أَكْثَرِ الْأَفْعَالِ وَإِنْ لَمْ يُدْرَ الْفَاعِلُ.
أَلَا تَرَى مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ التَّحْرِيمَ فَإِنَّ فَسَادَهَا مِنْ زَوَالِ الْعَقْلِ وَتَوَابِعِهِ ثَابِتٌ فِي حَقِّهِ إنْ لَمْ يَعْلَمْ، نَعَمْ الْعُقُوبَةُ الْحَدِّيَّةُ وَتَوَابِعُهَا فِي الدُّنْيَا وَالْعُقُوبَةُ الْأُخْرَوِيَّةُ مَشْرُوطَةٌ بِقِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ، وَهَذَا الْوَصْفُ وَإِنْ كَانَ اقْتِضَاءَ التَّحْرِيمِ مَثَلًا مَشْرُوطٌ بِجَعْلِ الشَّارِعِ أَوْ بِالْحَالِ الَّتِي جَعَلَهُ الشَّارِعُ فِيهَا مُقْتَضِيًا فَقَدْ وُجِدَ هَذَا الْجَعْلُ وَالْحَالُ
الَّتِي حَصَلَ فِيهَا هَذَا الْجَعْلُ.
وَهُنَا أُمُورٌ أَرْبَعَةٌ.
أَحَدُهَا: الْوَصْفُ الثَّابِتُ الْمُقْتَضِي لِلْحُرْمَةِ فِي الْحَالِ الَّتِي اقْتَضَاهَا.
وَالثَّانِي: عِلْمُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ بِهَذَا الْوَصْفِ الْمُقْتَضِي.
وَالثَّالِثُ: حُكْمُ اللَّهِ الَّذِي هُوَ التَّحْرِيمُ مَثَلًا فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا عَلِمَ مَا فِي الْفِعْلِ مِنْ الْمَصْلَحَةِ وَالْمَفْسَدَةِ حَكَمَ بِمُقْتَضَى عِلْمِهِ، وَهَذِهِ الْإِضَافَةُ تَرْتِيبٌ ذَاتِيٌّ عَقْلِيٌّ لَا تَرْتِيبٌ وُجُودِيٌّ زَمَانِيٌّ كَتَرْتِيبِ الصِّفَةِ عَلَى الذَّاتِ وَتَرْتِيبِ الْعِلْمِ عَلَى الْحَيَاةِ وَالتَّرْتِيبِ الْحَاصِلِ فِي الْكَلَامِ الْمَوْجُودِ فِي آنٍ وَاحِدٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَشْهَدُ الْعَقْلُ مُلَازَمَتَهُ تَرْتِيبًا اقْتَضَتْهُ
الْحَقِيقَةُ وَكُنْهُ ذَلِكَ مَغِيبٌ عَنْ عِلْمِ الْخَلْقِ.
وَالرَّابِعُ: الْمَحْكُومُ بِهِ الَّذِي هُوَ الْحُرْمَةُ الْقَائِمَةُ بِالْفِعْلِ سَوَاءٌ جُعِلَتْ صِفَةً عَيْنِيَّةً أَوْ جُعِلَتْ إضَافَةً مَحْضَةً أَوْ جُعِلَتْ عَيْنِيَّةً مُضَافَةً، فَالْمُوجِبُ لِلْعُقُوبَةِ هُوَ التَّحْرِيمُ، وَسَبَبُ التَّحْرِيمِ هُوَ عِلْمُ اللَّهِ بِمَا فِيهِ مِنْ الْمَفْسَدَةِ لَا نَفْسُ الْمَفْسَدَةِ حَتَّى لَا تُعَلَّلَ صِفَاتُ اللَّهِ الْقَدِيمَةِ بِالْأُمُورِ الْمُحْدَثَةِ كَمَا اعْتَقَدَهُ بَعْضُ مَنْ نَازَعَ فِي هَذَا الْمَقَامِ، بَلْ يُضَافُ حِكْمَةُ
التَّحْرِيمِ إلَى عِلَّةِ سَبَبِ التَّحْرِيمِ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ، فَهَذَا الْمُوجِبُ لِلْعُقُوبَةِ مِنْ الْعِلْمِ وَالْحُكْمِ ثَابِتٌ بِكُلِّ حَالٍ لَكِنْ بِشَرْطِ حُصُولِ مُوجِبِهِ وَهُوَ قِيَامُ الْحُجَّةِ عَلَى الْعِبَادِ كَمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ}[النساء: 165] - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالتَّحْرِيمُ الَّذِي هُوَ حُكْمُ اللَّهِ، وَالْحُرْمَةُ
الَّتِي هِيَ صِفَةُ الْفِعْلِ سَوَاءٌ جُعِلَتْ إضَافَةً أَوْ عَيْنِيَّةً، وَالْمُقْتَضِي لِلتَّحْرِيمِ الَّذِي هُوَ عِلْمُ اللَّهِ.
وَالْمُقْتَضِي لِلْحُرْمَةِ الَّتِي هِيَ الْوَصْفُ الَّذِي هُوَ مَعْلُومُ اللَّهِ حَتَّى يُضِيفَ الْحُكْمَ الَّذِي هُوَ وَصْفُ اللَّهِ إلَى عِلْمِهِ وَيُضِيفَ الْمَحْكُومَ بِهِ الَّذِي يُسَمَّى حُكْمًا أَيْضًا وَهُوَ صِفَةُ الْفِعْلِ إلَى مَعْلُومِهِ، فَهَذِهِ الْأُمُورُ الْأَرْبَعَةُ ثَابِتَةٌ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ الْمُكَلَّفُ بِالتَّحْرِيمِ، فَظَهَرَ مَعْنَى قَوْلِ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ وَذَوِي الْفِطَرِ السَّلِيمَةِ أَنَّ هَذَا مُحَرَّمٌ بَاطِنًا لَا ظَاهِرًا، وَالْمِثْلُ
هَذَا الْكَلَامُ بِعَيْنِهِ إلَى مَسْأَلَةِ اخْتِلَاطِ أُخْتِهِ بِأَجْنَبِيَّةٍ، وَالْمَيْتَةِ بِالْمُذَكَّى، وَكُلُّ مَوْضِعٍ اشْتَبَهَ فِيهِ الْحَلَالُ بِالْحَرَامِ عَلَى وَجْهٍ يَجِبُ اجْتِنَابُهُمَا جَمِيعًا.
وَكَذَلِكَ مَسْأَلَةُ اشْتِبَاهِ الْوَاجِبِ بِغَيْرِهِ كَمَنْ نَسِيَ إحْدَى صَلَاتَيْنِ لَا يَعْلَمُ عَيْنَهَا.
فَإِنَّ الْفُقَهَاءَ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ يُطْلِقُونَ أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَيْهِ الْعَيْنَانِ.
وَتَجِبُ عَلَيْهِ الصَّلَاتَانِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ الْمُحَرَّمُ أَحَدُهُمَا وَإِنْ وَجَبَ الْكَفُّ عَنْهُمَا وَالْوَاجِبُ أَحَدُهُمَا وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ فِعْلُهُمَا، ثُمَّ مِنْ الْأَوَّلِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ مَنْ يُنْكِرُ هَذَا الْقَوْلَ وَيَقُولُ انْتِفَاءُ التَّحْرِيمِ مَلْزُومُ انْتِفَاءِ الْحَرَجِ وَالْحَرَجُ هُنَا حَاصِلٌ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا فَكَيْفَ يَكُونُ الْوُجُوبُ وَالتَّحْرِيمُ مُنْتَفِيَانِ؟ وَهَذَا الْإِنْكَارُ مُسْتَقِيمٌ مِمَّنْ يُنْكِرُ
الْوُجُوبَ وَالتَّحْرِيمَ فِي الْبَاطِنِ دُونَ الظَّاهِرِ كَمَا ذَهَبَتْ إلَيْهِ النَّافِيَةُ لِلْحُكْمِ الْبَاطِنِ الْجَاعِلَةُ حُكْمَ اللَّهِ تَعَالَى فِي حَقِّ كُلِّ مُجْتَهِدٍ مَا اقْتَضَاهُ اجْتِهَادُهُ وَأَنَّهُ يَتْبَعُ الِاعْتِقَادَ وَيَكُونُ مِنْ مُوجِبَاتِهِ وَمُقْتَضَيَاتِهِ، وَهَذَا أَصْلٌ فَاسِدٌ مُخَالِفٌ لِمَا كَانَ عَلَيْهِ الْقُرُونُ الْمَاضِيَةُ الْفَاضِلَةُ وَتَابِعُوهُمْ، وَأَمَّا مَنْ أَقَرَّ بِالْإِيجَابِ وَالتَّحْرِيمِ الْبَاطِنَيْنِ فَمَعْنَى قَوْلِ مَنْ قَالَ الْحَرَامُ
أَحَدُهُمَا وَالْوَاجِبُ أَحَدُهُمَا يَعْنِي بِهِ الْحَرَامَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ أَحَدُهُمَا وَالْوَاجِبَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ أَحَدُهُمَا.
كَمَا إذَا اشْتَبَهَ الطَّاهِرُ بِالنَّجِسِ فَإِنَّ النَّجِسَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ أَحَدُهُمَا وَكَمَا أَنَّ الْمَيِّتَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ أَحَدُهُمَا وَالْأُخْتَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ أَحَدُهُمَا وَالْآخَرُ إنَّمَا حَرُمَ ظَاهِرًا فَقَطْ، نَعَمْ يُبَالِغُ هَذَا الْقَائِلُ فَيَقُولُ لَا أَصِفُ الْمُشْتَبِهَةَ بِتَحْرِيمٍ أَلْبَتَّةَ وَإِنْ أَوْجَبْتُ الْإِمْسَاكَ عَنْهَا كَمَا لَا أَصِفُهَا بِنَجَاسَةٍ وَلَا بُنُوَّةٍ وَلَا مَوْتٍ.
فَهُنَا ثَلَاثُ مَنَازِلَ طَرَفَانِ وَوَسَطٌ، إمَّا أَنْ يُقَالَ هُمَا جَمِيعًا حَرَامَانَ مُطْلَقًا وَاجِبَانِ مُطْلَقًا، أَوْ يُقَالَ لَيْسَ الْوَاجِبُ وَالْمُحَرَّمُ إلَّا أَحَدُهُمَا، أَوْ يُقَالَ الْوَاجِبُ وَالْمُحَرَّمُ بَاطِنًا وَظَاهِرًا أَحَدُهُمَا وَالْآخَرُ مُحَرَّمٌ أَوْ وَاجِبٌ ظَاهِرًا لَا بَاطِنًا.
عَلَى أَنَّهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ مَنْ وَصَفَ بِالتَّحْرِيمِ إحْدَاهُمَا فَقَطْ مُطْلَقًا مَعَ إيجَابِهِ الْكَفَّ عَنْهُمَا أَقْرَبُ مِمَّنْ أَنْكَرَ عَلَيْهِ وَأَنْكَرَ عَلَى مَنْ خَصَّ بِالتَّحْرِيمِ إحْدَاهُمَا.
وَذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ تَنَاوَلَهُمَا مَعًا لَمْ يُعَاقَبْ عُقُوبَةَ مَنْ فَعَلَ مُحَرَّمَيْنِ بَلْ مَنْ فَعَلَ مُحَرَّمًا وَاحِدًا.
وَكَذَلِكَ مَنْ لَمْ يَفْعَلْ الصَّلَاةَ الْمُشْتَبِهَةَ إنَّمَا يُعَاقَبُ عَلَى تَرْكِ صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ.
وَالْمَسْأَلَةُ وَإِنْ كَانَ قَدْ يَظُنُّ أَنَّهَا مُسْتَمَدَّةٌ مِنْ مَسْأَلَةِ مَا لَا يَتِمّ