الفقه المستفاد من حديث إن الدين يسر

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ ص قَالَ : " إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلا غَلَبَهُ فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا و أَبْشِرُوا وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ "وَفِي لفظ «والقصد القصد تبلغوا»

الفقه المستفاد من حديث إن الدين يسر

حديث إن الدين يسر

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ قَالَ :

" إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلا غَلَبَهُ فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا و أَبْشِرُوا وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ "وَفِي لفظ «والقصد القصد تبلغوا» . ( صحيح البخارى 39 )

ظاهر الحديث يدل على أن الدين يسر و ليس بعسر و على طلب الرفق فيه و الكلام عليه من وجوه .

الوجه الأول

الوجه الأول :

قوله عليه السلام : " إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ " يحتمل أن يكون هما معا الإيمان وهو التصديق و الاسلام هو الانقياد و الأظهر أن يكون المراد هما معا بدليل قوله تعالى وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا [الحجرات : 14] و إذا كان المراد هما معاً فنحتاج إذاً إلى بيان يسرهما

- فأما الإيمان فيكفى فيه من التيسير حديث الجارية المشهور و هو حين سألها النبى صلى الله عليه و سلم : أين الله فقالت فى السماء فقال لها من أنا قالت رسول الله فقال لصاحبها اعتقها فإنها مؤمنة . فاقتنع صلى الله عليه و سلم منها بأنها أقرت بأنه رسول و أن الله موجود .

-و أما الإسلام فيكفى فيه من التيسير حديث ضمام فقد ورد في صحيح البخاري و مسلم ، أن أعرابيا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله عن الإسلام ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( خمس صلوات في اليوم والليلة ) ، فقال : هل علي غيرها ؟ ، قال : ( لا ، إلا أن تطوع ) ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( وصيام رمضان ) ، قال : هل علي غيره ؟ ، قال : ( لا ، إلا أن تطوع ) ، وذكر له رسول الله صلى الله عليه وسلم الزكاة ، قال : هل علي غيرها ؟ ، قال : ( لا ، إلا أن تطوع ) ، قال : فأدبر الرجل وهو يقول : والله لا أزيد على هذا ولا أنقص ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أفلح إن صدق ) .

و الفلاح هو من بلغ فى الآخرة ما يؤمل فإذا اجتزى فى الإسلام بهذا القدر و كان صاحبه من المفلحين فهو يسر لا شك فيه .

الوجه الثانى :

قوله صلى الله عليه و سلم : " وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلا غَلَبَهُ " فإن شدد في دينه بحيث لم يبلغ به حد المغالبة فقد خرج عن هذا النهى و كان من القسم المحمود لأن ذلك قوة فى الدين و رفعة فى الهمم لقوله صلى الله عليه و سلم :" المؤمن القوى خير من المؤمن الضعيف و فى الكل خير . و هذا يدل بأن المطلوب الكمال الذي هو القوة و الترفق فمن لم يقدر على الكمال فحينئذ يرجع إلى من هو أدون منه قليلا بقدر طاقته و يحذر أن يأخذ فى طرف الكمال حتى يبلغ به الحال إلى حد المغالبة فيغلبه الدين لأنه إن تعمق فى أحد الوجهين المذكورين الذين هما الإيمان و الإسلام فالدين قد غلبه بالضرورة مثال ذلك فى الإيمان من يريد أن يوفى ما يجب للربوبية على العبودية من الحقوق فهذا يفنى عمره و هو لم يبلغ معشار ما أمل لأن الله عز و جل يقول فى كتابه العزيز يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ [آل عمران : 102] وهذا لا يطيق البشر بعضه إلا و ينقطع و يكفى فى هذا بيانا حديث عبد الله بن عمر حين أراد أن يقوم الليل و يصوم النهار فقال له صلى الله عليه و سلم إنك لا تطيق ذلك هذا ما هو إلى في أمرين من أمر الدين فكيف به فى باقى أجزائه على مقتضى التعظيم فصدق عليه بالضرورة أن الدين غلبه و إنما الطريق المخلص و الحال المحمود هو الأخذ بالكمال دون أن يصل إلى هذه المبالغة . و كيفية ذلك فى الإيمان أن يأخذ أولا إيمانه بالجزم و التصديق على ما طلب منه و ينفى عنه الشكوك فإذا تحصلت له هذه القاعدة و خلصت فحينئذ يأخذ فى النظر و الاستدلال على مقتضى ما أمر الله تعالى فى كتابه من النظر إلى ملكوت السموات و الأرض ليكون ذلك دليلا على وحدانيته عز و جل و من ذلك ما فى السماء من الكواكب على اختلافها و الشمس و القمر و غير ذلك و ما فى الأرض من البقع و اختلافها كما قال تعالى وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ [الرعد : 4] و كذلك ما فيها من المياه عذبها و مالحها كما قال تعالى هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ [فاطر : 12] و كذلك ما فيها من الثمار و اختلاف طعمها مع كونها تسقى بماء واحد و تنبت فى بقعة واحدة كما قال تعالى يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ [الرعد : 4] و هذا النظر والاستدلال على ما أشرنا إليه يكفى فى كمال الإيمان لأن الله عز و جل جعل ذلك لخليله عليه السلام سببا لعلم اليقين وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ [الأنعام : 75] و لهذا العلم أشار عليه السلام بقوله : تعلموا اليقين فإني أتعلمه . و لم يقل ذلك في الإيمان و لا طلبه جزما ابتداء فلما كان الأصل و هو الخليل لم يصل لعلم اليقين إلا بالدليل الذي ذكره عز و جل فى كتابه اتخذه النبى صلى الله عليه وسلم حالا و دل عليه سبيلا لقوله تعالى إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ [آل عمران : 68] فمن أراد الزيادة على هذا الحد الذي يبلغ علم اليقين فقد دخل في المبالغة و هو لا يطيق ذلك فيغلبه الدين بالضرورة إما لقصر الزمان مع كثرة الأدلة و إما لشك يعرض له أو شبهة و كيفية ذلك في الإسلام أن يأخذ أولا بالفرض من كل الجهات حتى يوفيه ثم يأخذ من المندوب بقدر استطاعته و لا يغالى في طرف من الواجب أو طرف من المندوب حتى يخل بالآخر لأن هذه هي المغالبة في الأعمال و هي تئول إلى الخسارة إلا أن يتداركه الله باللطف و التوبة. كمن بات يصلي الليل كله ويغالبه النوم إلى أن غلبته عيناه في آخر الليل فنام عن صلاة الصبح في الجماعة أو إلى أن خرج الوقت المختار أو إلى أن طلعت الشمس فخرج وقت الفريضة و يشهد لهذا ما رواه البخاري والنسائي دخل الرسول صلى الله عليه وسلم المسجد يوما فإذا حبل ممدود بين الساريتين، فقال: ( ما هذا الحبل ؟ قالوا: حبل لزينب، فإذا فترت تعلقت به، فقال صلى الله عليه وسلم: لا، حلوه، ليصل أحدكم نشاطه، فإذا فتر فليقطع ). ودخل الرسول صلى الله عليه وسلم يوما على زوجه عائشة وعندها الحولاء بنت تويت، وكانت تذكر من عبادتها وأنها لا تنام الليل، فردها الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المنهج الوسط قائلا: ( مه، عليكم من الأعمال ما تطيقون، فإن الله لا يملّ حتى تملوا، وكان أحب الدين إلى الله ما داوم عليه صاحبه ) رواه البخاري ومسلم. و كذلك أيضا إن طالب نفسه بتوفية العبادات من كل الجهات إلى حد الكمال فهذا أيضا يقع فى المبالغة من وجهين :

أحدهما العجز لقوله صلى الله عليه و سلم أن المنبت لا أرضا قطع و لا ظهرا أبقى لأن البشرية لا تحمل ذلك .

الثانى أنه قد يجتمع عليه فى وقت أو فى جل الأوقات أنواع من الواجبات و المندوبات فى وقت واحد و لا يقدر إلا على أحدها فقد حصل فى المبالغة لأجل ما أخذ نفسه به و إنما حال الكمال فى هذا أن يأخذ نفسه أولا بما أشرنا إليه. والقائل لما لم يقل عليه السلام لن يشاد رجل أو امرأة و قال بدله أحد قيل له ذلك يدل على فصاحته صلى الله عليه و سلم و بلاغته لأن أحدا فى اللفظ أقل كلاما و أكثر فائدة لأنه يطلق على الذكر و الأنثى و القوى و الضعيف و الحر و العبد و العالم و الجاهل و العلى و الدنى على اختلاف أحوال العالم .

الوجه الثالث :

قوله عليه السلام : " فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا " احتمل أن يكون هذان اللفظان لمعنى واحد فيكون المراد بهما الأخذ بالحال الوسط لأن السداد و التقريب هو ما قارب الأعلى و لم يكن بالدون فهو متوسط بينهما و يحتمل أن يكون لمعنيين فيكون المراد بسددوا الأخذ بالحال الوسط وهو ما نص النبي صلى الله عليه و سلم فى حديث عبد الله ابن عمر حين قال له النبي صلى الله عليه و سلم :صم و افطر و قم و نم و إن لنفسك عليك حقا و لأهلك عليك حقا . ثم عمم له بعد ذلك فقال و أعط لكل ذي حق حقه . فهذا هو السداد و هو أن يمشى المرء فى الأمور كلها على ما فرض و ندب من غير تفانى و لا تقصير فى جهة من الجهات و يكون المراد بقاربوا أى من لم يبلغ منكم إلى حد السداد الذى هو ما ذكرناه و يعجز عن ذلك لعذر به فليقارب منه لأن ما قرب من الشيء أعطى حكمه و هذا بشرط أن لا يقع بهذا التقريب خلل و لا نقص فى شيء من الواجبات لأن الواجب{الصلاة} إذا كان فيه شىء من ذلك لم يجز و غيره من المندوبات لا يقوم مقامه بل أنه لا يطلق عليه أنه قارب إلى السداد إلا بعد توفية الواجبات من كل الجهات ثم يأخذ من المندوب بعد ذلك ما يستطيع عليه و يعجز عن الوصول إلى حد السداد المذكور لعجز ما بمرض أو غيره فحينئذ يطلق عليه أنه قارب . و قد نص عز و جل على هاتين الطائفتين معا فى كتابه فقال تعالى فى حق الطائفة الأول التى أخذت بالسداد وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ [الواقعة 10 : 11] و قال فى حق الطائفة الثانية التى لم تستطع الوصول لذلك المقام لكنهم قاربوا فيه إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا [النساء : 31] و قد نضرب لهذا مثلا ليكون أسرع للفهم أعنى فى كيفية السداد و فى كيفية التقريب فمثال ذلك أن يأتى الطالب أولا لطلب العلم و يعمل جهده على أن يكون من العلماء فإن قدر على ذلك فبها و نعمت لأنه يحصل بذلك الطائفة التى أخذت بالكمال و هو السداد فإن عجز عن ذلك فلا يخلى نفسه من طرف منه بحسب ما استطاع لأن النبي صلى الله عليه و سلم قال : طلب العلم فريضة على كل مسلم . فيكون قد أخذ بالتقريب حين عجز عن التسديد و كذلك أيضا يأخذ نفسه فى التعبد بعد توفية الفرائض و إن قدر أن يكون من العابدين فليفعل لأن الله عز وجل يقول على لسان نبيه صلى الله عليه و سلم ( لا يزال العبد يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به و بصره الذي يبصر به و يده التى يبطش بها ) فإن عجز أن يكون من العابدين فلا يخلى نفسه من طرف منه لإخباره عليه السلام أنه إذا كان يوم القيامة ينظر إلى صلاة العبد فإن وفى فقد افلح وان نقص قال تعالى انظروا إن كان له نافلة فأكملوها له منها و كذلك فى جميع الفرائض إذا نقص منها شيء ينظر فى النفل الذي هو من جنس ذلك الفرض الذي نقص فيجبر منها فالمقتصر على الفرض التارك للأخذ بالتقريب الذي أشرنا إليه هنا يخاف عليه من عدم التوفية . فيستحق العذاب ويدل على ذلك ما رواه أبو داود ، والترمذي ، والنسائي عن أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : ( إِنَّ أَوَّلَ مَا يُحَاسَبُ بِهِ الْعَبْدُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ عَمَلِهِ صَلَاتُهُ فَإِنْ صَلُحَتْ فَقَدْ أَفْلَحَ وَأَنْجَحَ وَإِنْ فَسَدَتْ فَقَدْ خَابَ وَخَسِرَ ، فَإِنْ انْتَقَصَ مِنْ فَرِيضَتِهِ شَيْءٌ قَالَ الرَّبُّ عَزَّ وَجَلَّ : انْظُرُوا هَلْ لِعَبْدِي مِنْ تَطَوُّعٍ فَيُكَمَّلَ بِهَا مَا انْتَقَصَ مِنْ الْفَرِيضَةِ ؟ ثُمَّ يَكُونُ سَائِرُ عَمَلِهِ عَلَى ذَلِكَ ) ، وصححه الألباني في " صحيح سنن الترمذي ". قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث : ( ثُمَّ يَكُونُ سَائِرُ عَمَلِهِ عَلَى ذَلِكَ ) أَيْ إِنِ انْتَقَصَ فَرِيضَةً مِنْ سَائِرِ الْأَعْمَالِ تُكَمَّلُ مِنَ التَّطَوُّعِ ".

الوجه الرابع :

قوله عليه السلام : " و أَبْشِرُوا " البشارة هنا على ضربين

أحدهما معلوم محدود و الثانى معلوم لا حد له

فأما المعلوم المحدود فهو ما يرجى من قبول الأعمال و الثواب عليها لأن الثواب عليها قال عز و جل فى كتابه فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزلزلة 7 : 8] وقال عز و جل وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ [الأنبياء ]

و أما المعلوم الذى هو غير محدود فهو ما وعد عز و جل فى كتابه حيث قال وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ [النور ] فالزيادة معلومة وحدها مجهولة عندنا و فيه دليل على أن البشارة إنما تكون للعاملين لأنه عليه السلام لم يقل ابشروا إلا بعد ما نص على العمل الذى يوجب البشارة و هو التسديد و التقريب لمن عمل بها فأتى بالبشارة للعاملين بذلك و هو مثل قوله تعالى فى كتابه إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ [ البقرة :218 ]

فنص عز و جل على أن من فعل ما ذكره من الأعمال هو الذى يرجو رحمته عز و جل . و كذلك فيما نحن بسبيله من أخذ بالتسديد و التقريب على نحو ما تقدم هو الذى يستبشر . و القائل لم قال عليه الصلاة و السلام أبشروا و لم يقل أيقنوا و الجواب من وجهين الأول

أن الإيقان قطع بالأمر و القطع لا يكون إلا لله وحده و إنما لغيره قوة الرجاء لا غير لأنه ليس للعبيد حق وجوب على الله و إنما هو من طريق الفضل و المن و ما كان من طريق الفضل و المن فلا يطمع فيه إلا بقوة الرجاء لا أنه يكون حتما . و قد قال الله تعالى فى كتابه وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ [التوبة : 111] فتكون قوة الرجاء فى هذا الوعد بحسب ما يرجى من عظيم الفضل اللائق بالجلال و الكمال

الثاني أن ذلك سد للذريعة لأنه لو قال أيقنوا لحصل به للضعفاء اغترار و هو عين الهلاك و ربما يكون ذلك سببا للتقصير فى العمل مع كونه مهلكا و هذا بخلاف البشارة لأن البشارة رجاء و نفس الرجاء يشرح الصدر و ينشط للعمل و تنتعش به الروح الأبية.

الوجه الخامس :

قوله عليه السلام : " وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ "

الاستعانة هنا تنقسم إلى ثلاثة أقسام مستعين و مستعان به و مستعان عليه

فالمستعين هو المؤمن و المستعان به أصله إعانة بعض لبعض لغرض ما من الأغراض كما روى فى الحديث :و يعين الرجل على دابته يحمل عليها أو يرفع عليها متاعه صدقة أي يحمله له حتى يبلغه له للموضع الذي أمل و الاستعانة هنا على وجهين : استعانة بالزمان و استعانة بالعمل فأما الاستعانة بالزمان فهي ما فى طرفي النهار من اعتدال الهواء و نشط النفس فيهما و ما روى أن العمل فيهما أزكى مما فى غيرهما . قال عز و جل وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ [الكهف : 28] وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فيما يرويه عن ربه :

[ ابن آدم اذكرني بعد الفجر وبعد العصر ساعة أكفك ما بينهما ] رواه مسلم وأبو نعيم و الدلجة أيضا كذلك لأن الدلجة هو آخر الليل وهوأقوى للبدن لأنه قد أخذ راحته من النوم و الغذاء و قد ورد فيه من الفضل كثير فمن ذلك قوله عليه الصلاة و السلام : " ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا " و في رواية كل ليلة في ثلث الليل الآخير فيقول هل من داع فاستجيب له هل من مستغفر فأغفر له هل من تائب فأتوب عليه " .فإذا كان عز و جل ينادى هكذا كل ليلة في آخره فمحال أن يدعو أحد أو يتوب أو يستغفر فيرد لأن الله لا يخلف الميعاد . و أما الاستعانة بالأعمال فهي أن تعمر هذه الأوقات المذكورة بأنواع الطاعات و إذا عمرت بذلك لم يبق بعدها إلا الأوقات التى جعلت للراحات و هى ما نص عز و جل عليها فى كتابه حيث قال يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ [النور : 58]

فعلى هذا فمفهوم هذا الحديث ما نص عليه السلام عليه فى حديث آخر حيث قال " روحوا القلوب ساعة بعد ساعة " لكنه عليه السلام زاد فى الحديث الذي نحن بسبيله تعيين الأوقات التى جعلت للعبادة أي جعلت العبادة فيها أفضل من غيرها من سائر الأوقات و إذا قلنا بهذا و هو أن المطلوب عمارة هذه الأوقات بالطاعات فهل ما يعمر به من الأعمال معين أو غير معين احتمل الوجهين معاً فإن قلنا بالتعيين فهي الصلاة لأنها هى التى تسبق للذهن و إذا قلنا بأنها الصلاة فما الحكمة فى تعيينها دون غيرها فنقول و الله أعلم إنما اختصت بهذه الأوقات و جعلت سبباً للإستعانة لما فيها من التعظيم لله و الافتقار إليه و الدعاء و ما فيها من أنواع الخير على ما سيأتي بيانه فى موضعه إن شاء الله و إن قلنا بعدم التعيين فيكون ذلك من باب التنبيه بالأعلى على الأدنى ثم قال:" ألا أخبرك برأس الأمر وعموده وذِروة سَنَامِهِ؟ قلت: بلى يا رسول الله. قال: " رأس الأمر الإسلامُ، وعَمُوده الصلاةُ ... " [رواه الترمذي] وقال: حديث حسن صحيح.

و هذا هو الأظهر و الله أعلم لأنه قد تفرض فى بعض الأوقات أعمال تكون أفضل من الصلاة بحسب الأحوال و هي كثيرة تتعدد فعلى ما ذكرناه من هذا التعليل يترتب عليه من الفقه وجهان أحدهما إغتنام نشاط النفس و خلو الشغل فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اغتنم خمسا قبل خمس حياتك قبل موتك وصحتك قبل سقمك وفراغك قبل شعلك وشبابك قبل هرمك وغناك قبل فقرك) رواه الإمام احمد والحاكم والبيهقي. و الثاني اغتنام حسن الزمان و اعتداله لأن ذلك مما يعين على العبادة و قد نص عليه السلام على ذلك حيث قال " ابردوا بالصلاة " .

و أما المستعان عليه فهو يحتمل وجوها

-الأول : و هو أعمها و هو صلاح الحال فى الدنيا و الفلاح فى الآخرة و هو بلوغ ما يؤمل من الخير على ما نص عليه العلماء .

-الثانى أن يكون عائداً على التسديد و التقريب.

- الثالث: أن يكون عائدا على البشارة و ما يتضمن إلى غير ذلك من الوجوه على مقتضى ما يحتمله الحديث على ما أذكره بعد إن شاء الله تعالى هذا ما تضمنه البحث على هذا الوجه إن كان المراد بالدين الإيمان و الإسلام معا ثم نرجع الآن على ما اشترطنا إلى بيان .

الوجه الثانى

الأول منه قوله صلى الله عليه و سلم : " إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ " قد يراد به الإسلام دون غيره و هي أفعال الدين ذلك أن الخطاب بالحديث إنما كان للمؤمنين و الإيمان قد كان حاصلاً و إذا كان المراد به الإسلام فالكلام على بقية ألفاظ الحديث يتضمنه الكلام على الوجه قبله فأغنى عن إعادته .

الوجه الثانى :

قوله عليه السلام : " إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ " قد يراد به أن الشيء الذي وعدتم أنكم تتخلصون به من الأعمال و ضمنت لكم به النجاة هو توفية ما فرض عليكم .

الوجه الثالث :

قوله صلى الله عليه و سلم : " وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلا غَلَبَهُ " أي لا توغلوا في المندوبات فيؤول بكم الأمر إلى أن تخلوا بالفرائض فيغلبكم الدين و مثال هذا من يكثر في طرف من المندوب و يترك شيئا واجباً عليه من طرف آخر لم يفعله و كذلك أيضاً من يوسوسن في الطهارة حتى يفضى به الأمر إلى إيقاع الخلل فيها و كذلك في سائر العبادات إن تعمق فيها حتى يخل بالفرض منها فقد غلبه الدين لأن الأصل الذى يتقرب به إلى ربه قد أخل به و لا يسوغ أن يتقرب بالفرع مع عدم توفية الأصل عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : (إِنَّ اللهَ تَعَالَى قَالَ: مَنْ عَادَى لِي وَلِيَّاً فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالحَرْبِ. وَمَا تَقَرَّبَ إِلِيَّ عَبْدِيْ بِشَيءٍ أَحَبَّ إِلِيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُهُ عَلَيْهِ. ولايَزَالُ عَبْدِيْ يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِيْ يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِيْ يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِيْ بِهَا. وَلَئِنْ سَأَلَنِيْ لأُعطِيَنَّهُ، وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِيْ لأُعِيْذَنَّهُ) رواه البخاري. و في هذا إشارة إلى التربية بالتدريج في السلوك و الترقي و منع الأخذ بالقوة أولا فى التعبدات من نوافل الليل و النهار و غير ذلك لأن من يأخذ بذلك فى بداية أمره يغلبه الدين بالضرورة ومثل هذا ما روى مالك عن ابن شهاب عن أبي بكر بن سليمان بن أبي جثمة: أن عمر بن الخطاب فقد سليمان بن أبي جثمة في صلاة الصبح وأن عمر بن الخطاب غدا إلى السوق ومسكن سليمان بين السوق والمسجد النبوي فمر على الشفاء أم سليمان فقال لها: لم أر سليمان في الصبح فقالت: إنه بات يصلي فغلبته عيناه فقال عمر: لأن أشهد صلاة الصبح في الجماعة أحب إلى من أن أقوم ليلة. وهو خبر صحيح،. فانظر كيف فضل حضور الصلاة فى الجماعة على قيام الليل كله مع أن قيام الليل فيه من المشقة ما هو معلوم لكن لما أن كان ذلك القيام كله من جنس المندوب و آل أمره إلى أن أوقع الخلل فى المفروضات كرهه عمر رضي الله عنه فلو قام من الليل بعضه و نام بعضه و حضر الصلاة فى جماعة لكان من الآخذين بالكمال و لم يقع عليه بذلك غلبة فى نقص فضيلة و لا غيرها فإذا أخذ المرء أولا نفسه بالرفق في تعبداته حتى يصير له ما أخذ من ذلك عادة كانت العبادة عليه يسيرة لا مشقة عليه فيها حتى يبلغ بها النهاية و هو كأنه لم يزد على نفسه شيئا كان ثابت البناني –رحمه الله -:

يقوم الليل ويصوم النهار ، وكان يقول: ما شيء أجده في قلبي ألذ عندي من قيام الليل.! صفة الصفوة (3/262).

الوجه الرابع :

قوله عليه الصلاة السلام : " فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا " أي قاربوا الجد و لا تأخذوا الأخذ الكلى الذي تصلون به إلى المشادة فيغلبكم الدين و سددوا أى ليكن جد كل شخص على ما تقتضيه بنيته و طاقته و مزاجه و من هذا الباب راح كثير من العباد لأنهم يأخذون أنفسهم أولا بأن يعاندوا من ليس مثلهم من أهل النهايات فيأخذوا مأخذهم و يسلكوا مسلكهم فيقطع بهم فى الحال عنهم لأنه قد يكون من أرادوا التشبه به أكثر قوة فى بدنه منهم و أعدل مزاجا عن عمرُ بن الخطاب - رضي الله عنه - حيث يقول: "أَمَرَنا رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يومًا أن نتصدَّق، فوافَق ذلك مالاً عندي، فقلت: اليوم أسْبِق أبا بكر إن سبقتُه يومًا، فجِئْت بنصف مالي، فقال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((ما أبقيتَ لأهلك؟))، فقلت: مثلَه، قال: وأتَى أبو بكر بكلِّ ما عنده، فقال له رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((ما أبقيتَ لأهلك؟))، قال: أبقيت لهم الله ورسوله، قلتُ: لا أُسابقك إلى شيءٍ أبدًا"

فعلى هذا فالشأن الذي يبلغ به المقصود إن شاء الله و يكون صاحبه من أهل السداد أن يحكم أولا الخمس التى فرضت عليه و هي اليسر بواجباتها و مندوباتها و المحافظة عليها فإذا رجع له ذلك مزاجا أخذ إذ ذاك بالرفق و السداد على ما أشرنا إليه فى النوافل .

الوجه الخامس :

قوله عليه السلام : " و أَبْشِرُوا " البشارة هنا هي لمن زاد على الفرض و لم يقتصر عليه لأن الفرض قد جاء فيه ما جاء من الوعد الجميل فى الكتاب و السنة فى غير ما موضع فإن حملنا البشارة هنا على ذلك فهو تحصيل حاصل و إنما يحمل كل لفظ على فائدة أو فوائد دون غيره من الألفاظ إن وجد لذلك سبيلا و كفى فى هذا دليلا قوله تعالى فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [السجدة : 17] و ذاك في النفل دون الفرض و البشارة هنا على معنيين الأول هو أنه إذا أخذ بعد الفرض باليسير من النفل فليستبشر بالزيادة لمقتضى قوة البشارة حتى يبلغ ما أمل من الأحوال الشريفة و المنازل المنيعة بلا كلفة لأن حقيقة البشارة لا تكون إلا فى المستقبل و البشارة بما قد وعد و إنما سميت بشارة مجازا لا حقيقة و إنما البشارة الحقيقية مثل ما تضمنه إخباره عليه الصلاة والسلام لكعب بن مالك أحد الثلاثة الذين خلفوا: أبشر يا كعب بخير يوم طلعت عليك فيه الشمس . هذه هي البشارة الحقيقية و هي خفية دقيقة لأن ظاهر اللفظ قد استشكله بعض العلماء و قال كيف يكون هذا خير يوم طلعت عليه فيه الشمس و قد تقدمه يوم إسلامه و هو خروجه من الكفر إلى الإيمان و هذا القائل قد توهم أن هذا إشكال فى الحديث و ليس ذلك بإشكال وبيان ذلك أنه أعقب يوم إسلامه بهذا الذنب العظيم الذي استوجب به هجر النبي صلى الله عليه و سلم له و الصحابة فلما تاب الله عليه هذه التوبة التى علم النبي صلى الله عليه و سلم أنها لا معصية بعدها أخبره عليه السلام بأن ذلك خير يوم طلعت فيه الشمس لأنه لم يقع منه بعد ذلك معصية و لا مخالفة و التزم الصدق و العبادة حتى قبضه الله إليه على أحسن حال فلو أراد النبي صلى الله عليه و سلم البشارة الماضية لقال أبشر فقد غفر لك و تاب الله عليك و تحصل بذلك الكفاية و لكن لما أن أراد عليه الصلاة و السلام البشارة في المستقبل أتى بصيغة ما ذكر و لأجل ما فهم الصحابي من هذه البشارة خلع إذ ذاك ثيابه و لم يكن ليملك غيرها فأعطاها في البشارة لعلمه بعظيم ما بشر به و كل بشارة وردت مبهمة فالمراد بها ما ذكرناه من مقتضى هذه البشارة . و لهذا قال أهل السلوك فيمن بلغ بعض المنازل فداوم عليه بأدبه فإنه يترقى إلى ما هو أعلى منه فما دام على هذا الحال لا يزال فى ترق حتى يبلغ غاية المنازل الرفيعة عملا منهم على مقتضى البشارة .

الثاني هو أنه إذا أخذ نفسه بتوفية الفرض و ما تيسر عليه من النفل فداوم على ذلك و لم يزد في عمله شيئا فهي البشارة ويؤيد هذا قوله عليه السلام حين أخبر عن الأخوين الذين مات أحدهما قبل صاحبه بأربعين ليلة فذكرت فضيلة الأول بين يديه عليه السلام فقال عليه السلام عن الآخر : و ما يدريكم ما بلغت به صلاته إنما مثل الصلاة كمثل نهر عذب غمر بباب أحدكم يقتحم فيه كل يوم خمس مرات فما ترون ذلك يبقى من درنه فإنكم لا تدرون ما بلغت به صلاته . و لهذا قال أهل السلوك الدوام على الحال زيادة فيه و ترق عملا على الحديث الذي أوردناه .

الوجه السادس :

قوله عليه السلام : " وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ " استعينوا بالغدوة أي بصلاة الضحى و الروحة أي الصلاة التى بين الظهر و العصر و الدلجة أي قيام آخر الليل فإن قال قائل لم عم عليه السلام الوقتين جميعا { بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ }و جعل من الثالث{ الدُّلْجَةِ } البعض قيل له أن هذين الوقتين قريبان محدودان و هما معاً جزء من النهار و آخر الليل جزء من الليل لكنه غير محدود و إن كان عليه الصلاة و السلام قد حد الفضل فيه روى البخاري ومسلم عن عَبْد اللَّهِ بْن عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ : ( أَحَبُّ الصَّلاَةِ إِلَى اللَّهِ صَلاَةُ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ ، وَأَحَبُّ الصِّيَامِ إِلَى اللَّهِ صِيَامُ دَاوُدَ ، وَكَانَ يَنَامُ نِصْفَ اللَّيْلِ وَيَقُومُ ثُلُثَهُ وَيَنَامُ سُدُسَهُ ، وَيَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا ) .. فالحد إنما حصل على الأفضلية و ما نحن بسبيله إنما وقع على الأجزاء الذي به تحصل الإستعانة فمن قدر على الأخذ بالأفضل فبها و نعمت و إلا فقد أخذ بالأجزاء الذي يستعين به و هذا من باب التوسعة لأن ذلك وقت نوم و أعذار و ليس النهار كذلك و فى هذا دليل على التحريض على تعمير هذه الأوقات بأنواع العبادات إذ أن ذلك مما يستعان به و لا يترك لأنه إن ترك ما يستعين به خيف عليه أن لا يبلغ ما أمل و لهذا استحب له الابتداء أولا باليسير و يعمل عليه و يكون ذلك دأبه لئلا يخلى نفسه من الاستعانة فإن وجد النهاية لم يتركها و إن حدث له ضعف أو شغل لم يترك قدر ما يطلق عليه اسم الاستعانة و قد نص عليه الصلاة والسلام على هذا المعنى الذي أبديناه فى غير هذا وفي الطحاوي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن لكل عابد شِرَّة ولكل شرة فترة فإما الى سنّة وإما إلى بدعة، فمن كانت فترته إلى سنتي فقد اهتدى، ومن كانت فترته إلى غير ذلك فقد هلك)) [أخرجه الترمذي. وأحمد قال أحمد شاكر : إسناده صحيح]. و السنة التى هى الفترة هي الأخذ بالتعبد فى هذه الأوقات اليسيرة فسبحان من منَّ علينا بالخير به و على يديه و في هذا دليل لأهل السلوك و التربية حيث يستحبون أن تكون البداية أولا فى الليل و فى النهار ركعتين ركعتين ثم يزيد على ذلك ما يشاء و بحسب النشاط لئلا يخلى نفسه من الاستعانة كما تقدم حتى يبلغ بالتدريج ما أمل لأن من أخذ هذه الأوقات بقدر طاقته من العبادات ترقى إلى ما شاء من المراتب السنية و لا يدركه فى ذلك تعب فإذا أخذ بذلك كان في ترق بالزيادة تاركا للنقص حتى يبلغ بذلك إلى نهاية ما يقتضيه حال البشرية و ذلك مثل } ما حكى{ عن بعض الفضلاء أنه أتاه أخ له يزوره فوجده يصلى الظهر فجلس ينتظر فراغه من صلاته فلما فرغ من الصلاة قام إلى النفل فجلس ينتظر فراغه من التنفل فما زال كذلك إلى صلاة العصر فصلى العصر ثم جلس للذكر فخاف أن يقطع عليه ذكره فجلس ينتظر فراغه فما زال كذلك إلى صلاة المغرب فقام إلى الصلاة فلما فرغ منها قام إلى التنفل فخاف أن يقطع عليه تنفله فجلس ينتظر فراغه فما زال كذلك إلى صلاة العشاء فلما فرغ منها قام إلى التنفل فجلس ينتظر فراغه من التنفل فما زال كذلك إلى الصباح فقام إلى صلاة الصبح فلما فرغ منها جلس الى الذكر فجلس ينتظر فراغه فبينما هو جالس فى مصلاه لذكره غلبته عيناه قليلا ثم استيقظ من حينه فجعل يمسح عينيه و يقول استغفر الله أعوذ بالله من عين لا تشبع من النوم فانظر لما صار به من الحال و هو يتنعم بذلك لأنه لولا الحلاوة التى وجدها فى العبادة لما جعل هذه السنة من النوم -التى لا تنقض الطهارة- ذنبا يستغفر منه فزال عنه التعب و المشقة اللذان يدركان البشر من ذلك و رجع له عوض الحلاوة و التنعم و ذلك ببركة الرفق و الرياضة فى التربية و السلوك فنسأل الله أن يمن علينا بما من به عليهم و أن يعيد علينا من بركاتهم ثم نرجع الآن إلى البحث المتقدم و الكلام على

الوجه الثالث

الوجه الأول :

قوله عليه السلام : " إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ " قد يريد به أن ما تدينتم به بالنسبة إلى من كان قبلكم يسر و ما كلفتم إلا بما تطيقون لأن الله عز وجل قد رفع عن هذه الأمة الإصر الذي كان قد جعل على الأمم الماضية فجعل لهم عند الضيق المخرج . مثال ذلك : ما شرع لنا في التوبة و هو الندم و الاقلاع و الاستغفار و قد كانت لمن قبلنا بالقتل و كذلك أيضا النجاسة طهارتها لنا بالغسل و لمن قبلنا بالقطع و المقراض و كذلك أيضا تحلة اليمين بالله شرعت لنا و لم تشرع لمن كان قبلنا و كذلك أيضا أكل الميتة عند الاضطرار و قد كانت محرمة إلى غير ذلك و هو كثير بفضل الله عز و جل و منته عافانا فلم يكلفنا إلا قدر استطاعتنا فقال تعالى لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة : 286] ومن كلف قدر وسعه فهو يسر عليه لا تعسير و مثال ذلك أنه عز و جل عفا عن الخطأ و النسيان و حديث النفس و ما استكرهنا عليه و كذلك أيضا شرع لنا عز و جل عند العجز عن القيام فى الصلاة القعود و عند العجز عن القعود الاضطجاع و عند العجز عن التحرك الإيماء و كذلك شرع لنا عز و جل التيمم عند عدم الماء و قصر الصلاة فى السفر و الفطر فيه إلى غير ذلك و هو كثير موجود فى كتب الفروع و قال عليه السلام : " إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه "

الوجه الثانى :

قوله صلى الله عليه و سلم : " وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلا غَلَبَهُ " يريد أن من شدد على نفسه بالأخذ بالأشد و ترك ما رخص له فيه فقد شاد الدين ومن ذلك من شدد على نفسه فترك اليمين المشروع و حلف بالمشي إلى مكة و الطلاق و العتاق و ترك التيمم عند العجز عن الطهارة و أراد الطهارة بالماء و أراد القيام فى الصلاة مع العجز عنه إلى غير ذلك و هو كثير فيريد الأخذ بالكمال فى كل الجهات و يترك الرخص فمن فعل هذا فقد شاد الدين فيغلبه الدين لأجل ما أدخل على نفسه و قد ذم عز و جل من فعل ذلك من الأمم الماضية قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ [الأنعام140]

الوجه الثالث :

قوله عليه السلام : " فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا" قاربوا أي قاربوا أولا بالجد و قوة العزم على الأخذ بالحزم و الحزم هو ترك المحذور و العمل على براءة الذمة و الأعلى من المراتب و الأفضل من الأحوال فإن وقع لكم عجز أو غفلتم أو وقعتم فى شيء مما نهيتم عنه فسددوا أي أصلحوا حالكم بالخروج على المخارج التى جعلت لكم و لأخذ الرخص التى تصدق بها عليكم إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا [النساء : 29]

الوجه الرابع :

قوله عليه السلام : " و أَبْشِرُوا " أي أبشروا فإن ذلك مخلص لكم و مبلغكم إلى رضاء مولاكم و حسن العاقبة لكم يؤيد هذا" قول بعض السلف: إن العبد ليعمل الذنب يدخل به الجنة ويعمل الحسنة يدخل بها النار قالوا كيف قال: يعمل الذنب فلا يزال نصب عينيه خائفاً منه مشفقاً وجلاً باكياً نادماً مستحياً من ربه تعالى ناكس الرأس بين يديه منكسر القلب له فيكون ذلك الذنب سبب سعادة العبد وفلاحه حتى يكون ذلك الذنب أنفع له من طاعات كثيرة بما ترتب عليه من هذه الأمور التي بها سعادة العبد وفلاحه حتى يكون ذلك الذنب سبب دخوله الجنة". ابن القيم فى الوابل الصيب [ 9- 10 ]

الوجه الخامس :

قوله عليه الصلاة و السلام : " وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ " الاستعانة هنا هي أن من واظب على الأعمال فى الأوقات المذكورة يرزق بها العون على ما أخذ بسبيله من أفعال الطاعات و ييسر له ما عسر عليه من أمر دينه و يزداد قوة في إيمانه فيتبين له قدر ما لطف به و ماذا أريد منه و هذا من أكبر أسباب العون فإن به يسهل العمل و تسمو الهمم إلى المراتب العلية.

قال الشيخ ابن جبرين رحمه الله في شرح الواسطية :

ومن المعلوم ان الله قد سبقت رحمته غضبه ومن ذلك المضاعفة , فقد ذكر ان الحسنات تضاعف , من جاء بالحسنة فله عشر امثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى الا مثلها وهم لايظلمون .

فويل!! لمن غلبت آحاده عشراته فاذا كانت سيئاته التي هي واحدة وواحدة قد غلبت حسناته التي هي عشر عشر وزادت عليها فهو من اهل الشقاء " و لهذا قال يقولُ ابنُ القيّم رحمه الله في إغاثةِ اللهفان : " وتركُ المحاسبة والاسترسالُ وتسهيلُ الأمورِ وتمشيتُـها ، فإنَّ هذا يقولُ بهِ إلى الهلاكِ ، وهذه حالُ أهلِ الغرور ، يُغْمضُ عينيهِ عن العواقبِ ويُمَشّي الحال ، ويتكلُ على العفو ، فيهملُ محاسبة نفسهِ والنظرُ في العاقبة ، وإذا فعلَ ذلكَ سَهُلَ عليه مواقعةُ الذنوبِ وأنِسَ بها وعَسُرَ عليه فِطامُها ولو حَضَرَه رُشْدَه لعلِم أنّ الحميةَ أسهلُ من الفِطام وتركُ المألوف والمعتاد "

فيحق لمن غفل عن نفسه و ألزمها هذا التغالى المذكور أو غفل عن المحاسبة ذلك الوعيد العظيم أعاذنا الله و إياكم من ذلك بمنه فينبغى للعاقل أن يعين نفسه بما أشار الشارع عليه السلام إليه و أن يقيم على نفسه ميزان الشرع و لا يغفل عن محاسبة نفسه و لا يشاد دينه لئلا يهلك بأحد هذه الوجوه ثم نرجع الآن إلى البحث المتقدم و الكلام على

الوجه الرابع

الوجه الأول منه قوله صلى الله عليه و سلم : " إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ " قد يريد به أنه يسر على من عرفه لأن من جهله عسر عليه بمقتضى أدلته بجهله به فيكون هذا مثل قوله تعالى شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُو َ [آل عمران : 18] شهادته لنفسه هي ما أظهر في جميع مخلوقاته من آثار قدرته الدالة على وحدانيته و عظمته فيكون الحاصل من هذا الحث على علوم الدين بمقتضى الكتاب و السنة على ما أشرنا إليه قبل

الوجه الثانى :

قوله صلى الله عليه و سلم : " وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلا غَلَبَهُ " المشادة هنا هي أن من أراد أن يأخذ علوم الدين بغير هذين الطريقين و هما الكتاب و السنة إما بعلم العقل أو ما شابهه و اقتصر على ذلك فيغلبه الدين إذ ذاك بالضرورة لأنه إذا فعل ذلك عاد عليه مقام الحق مشكلا و مقام الحقيقة محتملا به فانقلب بصفقة خاسرة خسر الدنيا و الآخرة

الوجه الثالث :

قوله عليه السلام : " فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا" السداد هنا بمعنى سداد الحال يقال سدد فلان حاله إذا أصلحه . سدد الله فلانا أي أصلح الله فلانا .سدد القاضي أي حكم بينهم بالعدل بمقتضى الشريعة و صلاح الحال هنا هو صلاحه فى الدين بمعرفته و معرفة أحكامه و العمل على ذلك و أتباعه يشهد لهذا قوله عليه السلام : " طلب العلم فريضة على كل مسلم " قال العلماء المحققون معناه ما وجب على المرء عمله وجب عليه العلم به لأنه لا يمكنه توفية ما أمر به إلا بالعلم بحدوده و قد اختلفوا فيمن عمل العمل بغير علم فصادف عمله لسان العلم على ثلاثة أقوال فمن قائل يقول بأن له الثواب على عمله و احتج بأن قال هذا عمل و قع على ما أمر به و من فعل ما أمر به كان له الثواب على الامتثال و من قائل يقول بأن عليه الإثم فى ذلك و احتج بأن الله عز و جل لا يتعبد بالجهل و إنما يجوز له الإقدام على العمل بالعلم به و أما مع الجهل فلا قال الله تعالى فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ [النحل : 43] فلما قدم على العمل بغير علم كان مرتكبا للنهى و من ارتكب النهى أثم و من قائل يقول بأنه ليس له ثواب و ليس عليه عقاب و احتج بأن قال إنه لم يقع بعمله فى شيء مما نهى عنه فلم يكن مأثوماً و أمر بأن لا يقدم على العمل إلا بالعلم فلم يفعل ذلك لم يكن له أجر عليه فإن و قع العجز عن هذا السداد الذي هو صلاح الحال بالعلم كما تقدم فليأخذ بما تضمنه قوله عليه السلام " قاربوا " و معناه السؤال لأهل العلم كما تقدم لأن الله عز و جل يقول فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ [النحل : 43] و النبي صلى الله عليه و سلم يقول : شفاء العى السؤال .

الوجه الرابع :

قوله عليه السلام : " و أَبْشِرُوا " البشارة هنا هي أن من أخذ بالطريق المذكور الذي أبديناه فليستبشر بأن الله يرفعه فى الدنيا و الآخرة و يرزقه من حيث لا يحتسب إذا كان ذلك لله خالصا يشهد لهذا

ما أخرجه الترمذي بسنده من حديث أنس بن مالك ، قال:" كان أخوان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فكان أحدهما يأتي النبي صلى الله عليه وسلم ، والآخر يحترف ، فشكا المحترف أخاه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال: لعلك ترزق به . قال أبو عيسى : هذا حديث حسن صحيح . " . و هو عز و جل قد تكفل برزق الخلق كلهم لكن فائدة هذه الأخبار البشارة لطالب العلم بأن الله تعالى قد رفع عنه التعب فى طلب الرزق و الكد عليه و يسره له و سهله عليه من غير تعب يدخل عليه فى ذلك و لا مشقة

الوجه الخامس :

قوله عليه الصلاة و السلام : " وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ " الاستعانة هنا هي أن من عمر هذه الأوقات المنصوص عليها بالتعبد فإن الله عز و جل يعينه على ما أخذ بسبيله من التعلم و يفهمه و ينور بصيرته و هذا قد وجده كل من عمل ذلك بإخلاص و صدق و قد قال عز و جل فى كتابه وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [العنكبوت : 69]

ثم نرجع إلى البحث المتقدم و الكلام على

الوجه الخامس

الأول منه قوله صلى الله عليه و سلم : " إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ " قد يريد به أن ما كلفتم به بالنص لا يمكن فيه التأويل يسر و إن الأكثر مما كلفتم به محتمل للتأويل و قابل له و إذا كان القابل للتأويل المحتمل له هو الأكثر فهو تيسير و توسعة من المولى على عبيده و قد يشير إلا شيء من ذلك بالنص على مسائل مما يحتمل التأويل لينتبه بها لما ذكرناه فمن ذلك حديث بني قريظة الحديث المشهور الذي قال فيه عليه الصلاة و السلام للصحابة " لا يصلين أحد العصر إلا فى بنى قريظة " فأدركهم العصر فى الطريق فقال بعضهم لا نصلى حتى نأتيها و قال بعضهم بل نصلى لم يرد منا ذلك فذكر ذلك النبي صلى الله عليه و سلم فلم يعنف أحداً منهم و من ذلك اختلاف الفقهاء فى معنى قوله تعالى فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ [النحل : 98] فمن قائل يقول به على الإطلاق فى الصلاة و فى غيرها و من قائل يقول مثل الأول لكنه قيدها بأن لا تكون إلا قبل القراءة و من قائل يقول بأنها لا تكون إلا بعد القراءة .

- و من ذلك اختلافهم فى معنى قوله تعالى فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا [المائدة : 6] فمن قائل يقول به على العموم و من و من قائل يقول به على الخصوص و من قائل يقول بجواز التيمم به منقولا{ التراب المنقول ، كأن يتيمم بالحائط } كان أو غير منقول و من قائل يقول بعدم الجواز عند النقل .

- و من ذلك أيضاً اختلافهم فى قوله تعالى : وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ [النساء : 23] فمن قائل يقول بتحريمها ابتداء و من قائل يقول بعدم التحريم حتى تكون فى حجره و يكون كفيلا لها .

-و من ذلك اختلافهم فى الربا ما العلة فيه فخرج كل واحد منهم على ما أعطاه اجتهاده من التأويل فى الإحتمال الذي في الآية أو الحديث و هذا الإختلاف توسعة و رحمة و قد كان بعض من لقيته من الفضلاء الجلة يقول لا يحل لأحد أن يتدين إلا بالمشهور و لا يفتى إلا به و تكون فائدة الخلاف فى أمر إذا وقع و فات و لم يكن تلافيه على المشهور فيخرج إذ ذاك على قول قائل لأنه أحسن من خرق الإجماع و لقد أحسن هذا فى الفتوى لأن به يستعمل جميع الوجوه فيكون الأخذ أولاً بالكمال فى الدين و هو القوة عملا على قوله عليه الصلاة السلام :" المؤمن القوى خير من المؤمن الضعيف و فى الكل خير" فإن تعسر عليه الأخذ بالكمال رجع إلى الخلاف و أخذ بالتيسير فيكون بينه و بين المحارم حاجزا كبيراً لأنه إن تعذر عليه الأخذ بالكمال وجد لماذا يرجع من غير أن يخرق الإجماع بخلاف من يأخذ أولا نفسه بالعمل على الرخص لأنه إن تعذر عليه الأمر فى وقت ما فلا يجد حيلة إلا الوقوع فى المحارم و قد قال عليه الصلاة و السلام : " إن لكل ملك حمى ألا و إن حمى الله محارمه فمن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه " متفق عليه.ل

الوجه الثانى :

قوله صلى الله عليه و سلم : " وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلا غَلَبَهُ " معناه أن من يريد الأخذ بالكمال فيريد أن يعمل فى كل مسائله بالإجماع فيغلبه الدين لأجل ما ألزم نفسه لأنه يجد كثيرا من المسائل لا ينعقد عليها إجماع .

الوجه الثالث :

قوله عليه السلام : " فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا" السداد هنا على معنيين .

الأول : أن يكون بمعنى صلاح الحال بالأخذ بما عليه الجمهور و هم الصحابة و الصدر الأول لقوله تعالى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى [النساء : 115] قال العلماء هم الصدر الأول وقد ثبت في الصحيحين عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " خيرُ الناسِ قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ، فلا أدري في الثالثة أو في الرابعة قال : ثم يَتَخَلَّفُ من بَعْدِهِم خَلًفٌ تَسْبِقُ شهادةُ أحدهم يمينَه ويمينُه شهادتَه " .

الثاني : أن يكون الآخذ بالأظهر من الأدلة و بالوجه الراجح من الوجوه المحتملات فى اللفظ الواحد و لا يلتفت إلى الشواذ من الطرفين طرف التشديد و طرف الرخص و إنما الشأن الأخذ بالوسط كما قال الخليفة أبو جعفر لمالك حين أشار عليه بتأليف الموطأ يا أبا عبد الله إنه لم يبق على وجه الأرض أعلم مني ومنك وإني قد شغلتني الخلافة فضع أنت للناس كتابا ينتفعون به تجنب فيه رخص ابن عباس وشدائد ابن عمر ووطئه للناس توطئة قال مالك فوا الله لقد علمني التصنيف يومئذ "و يكون معنى التقريب هنا عند العجز عن الأخذ بما أشرنا إليه في السداد لأجل العذر فيخرج على قول قائل عند العذر و لا يأخذ بطرف التشديد و لا بطرف الرخص مع عدم العذر و يكفى في هذا ما روى عن سليمان بن يسار "أن رجلا يقال له صبيغ قدم المدينة فجعل يسأل عن متشابه القرآن فأرسل إليه عمر وقد أعد له عراجين النخل فقال من أنت قال أنا عبد الله صبيغ فأخذ عمر عرجونا من تلك العراجين فضربه وقال أنا عبد الله عمر فجعل له ضربا حتى دمي رأسه فقال يا أمير المؤمنين حسبك قد ذهب الذي كنت أجد في رأسي" و لا ذاك إلا أنه من يطلب ذلك في الغالب عليه أن يعمل على أحد الطرفين إما بطرف التشديد فيأخذ بالمشادة و يترك السداد و إما بطرف الرخص فيكون له ذريعة لأن يقع في المحارم و يترك الأخذ بالتقريب .

الوجه الرابع :

قوله عليه السلام : " و أَبْشِرُوا " معنى البشارة هنا هي أن من عمل بما ذكرناه فليستبشر بأن الله يجعل له عند العسر يسرا و عند الضيق مخرجا يؤيد هذا قوله تعالى

وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا  وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ[الطلاق : 2 ، 3 ] و قوله تعالى وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا [الطلاق : 5] و قد حصل له زيادة لتلك البشارة أن الله عز و جل قد جعله من المتقين و لأجل الجهل بمعنى هذه البشارة دخل بعض الناس عند ما ضاق عليهم شىء من الدنيا فى المكروهات و المحرمات و يقولون بأنهم معذورون لأنهم لا يجدون سببا على زعمهم غير ما هم فيه و هذا من العلامات الدالة على اقتراب الساعة لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" بين يدي الساعة يظهر الربا والزنا والخمر ". رواه الطبراني وهو صحيح لغيره . (انظر صحيح الترغيب والترهيب 2 / 378 ) فنعوذ بالله من العمى و الضلال فانظر إلى هذا العمى الكلى و الصمم السرمدي كأنهم لم يسمعوا قط هذه البشارة و لم يعرفوا مقتضاها و كأنهم لم يروا فى الكتاب أو لم يسمعوا منه الآيتين المتقدمتي الذكر و كأنهم لم يسمعوا قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن روح القدس نفث في روعي أن نفسا لن تموت حتى تستكمل أجلها ، و تستوعب رزقها ، فاتقوا الله ، وأجملوا في الطلب ، ولا يحملن أحدكم استبطاء الرزق أن يطلبه بمعصية الله ، فإن الله تعالى لا ينال ما عنده إلا بطاعته ) رواه أبو نعيم في الحلية من حديث أبي أمامة ، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (2085) . كل هذا يدل على أن من طلب الرزق بغير طاعة فقد طلب الشىء من غير بابه و من طلب الشىء من غير بابه تعب فى طلبه و رجع بصفقة خاسرة و قد نشير إلى شىء من مآثر من مضى حيث كانوا يطلبون الرزق بطاعة ربهم لينتبه بذلك لما أردنا بيانه . فمن ذلك ما روى عن بعضهم أنه إذا كان ذا عيال و ضاق عليه الوقت و لم يقدر على شيء فوقع في باله الأخذ بالطاعة التي هي سبب للرزق فخرج إلى مسجد خرب فنظفه و بقى يتعبد فيه فيخرج غدوة و يخبر أهله أنه يتسبب ثم يجيء عشية فيقولون له أين الأجرة فيقول الذي خدمت عنده كريم فاستحييت أن أطلبه حتى يكون هو الذي يعطيني فبقى ذلك أياما يسيرة ثم أتى ليلة على العادة إلى منزله فلما كان بقربه شم روائح طعام عطرة فتعجب من ذلك لأجل أنه يعلم أن جيرانه في ضعف بحيث لا يقدرون على ذلك فلما أتى منزله فإذا بما شم من ذلك في منزله فتعجب من ذلك أكثر من تعجبه أولا ثم نظر فإذا في بيته طعام و ادام و قماش و دراهم ووجد أهله مكسوة حسنة ثم سألهم من أين لكم هذا فقالوا له إن الكريم الذي أنت تخدم عنده بعث إليك بما ترى و هو يقول لك لا تقطع الخدمة فقال أجل فانظر من طلب الشيء من بابه كيف نجح سعيه و ظفر بمراده .

الوجه الخامس :

قوله عليه الصلاة و السلام : " وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ " الاستعانة هنا هي التعرض لنفحات الله تعالى في هذه الأوقات المذكورة و تجد إذ ذاك لطفه بك كثيرا و خيره عليك عميماً يؤيد هذا قوله عليه الصلاة و السلام : "إذا سألت فاسأل الله" و قوله عز و جل على لسان نبيه عليه السلام " ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا في الثلث الأخير من الليل فيقول هل من تائب فأتوب عليه هل من مستغفر فأغفر له هل من داع فأستجيب له " فكيف يقول عز و جل هذا و يستغفر أحد إذ ذاك أو يتوب أو يدعو فيرد ذلك محال من طريق قوة الرجاء في فضله سبحانه و منته. و مما يزيد هذه الأوقات شرفا و ترغيبا فى المحافظة عليها قوله تعالى : وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [الكهف : 28] فمن رغب في هذه الأوقات و حافظ عليها أعين على ما أخذ بسبيله ثم زاده على ذلك بشارة و أي بشارة ترتاح لها نفوس العاملين العارفين و هى ما أخبر عز وجل فى كتابه حيث قال : وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ [محمد : 17] يا لها من بشارة ارتاحت لها نفوس الموفقين و سكن بها حزن الخائفين و تسابقت لها أقدام السابقين منحنا الله منها من فضله ما يليق بفضله ثم نرجع الآن إلى البحث المتقدم و الكلام على

الوجه السادس

الوجه الأول منه قوله صلى الله عليه و سلم : " إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ " قد يريد به أن ما طلب منكم و هو الإذعان و الاستسلام يسر يشهد لهذا قوله عليه السلام للصحابة حين أنزل عليهم: وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ [البقرة] " فشق ذلك عليهم فقال لهم :لا تكونوا مثل بنى اسرائيل و لكن قولوا آمنا بالله و ما أنزل فآمنوا و أذعنوا فأنزل الله إذ ذاك آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة: 286] فجاءهم هذا الفرج العظيم لاستسلامهم و إذعانهم لأمر ربهم و الإذعان و الاستسلام يسر لا شك فيه لأنه عمل بالقلب دون جارحة تتحرك فيه .

الوجه الثانى :

قوله عليه السلام : " وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلا غَلَبَهُ " معناه أن من لم يرض بالمقدور و لم يقع منه الإذعان و الاستسلام لما فرض عليه و يرى أن ما كلفه من باب المشقة فقد شاد دينه و إذا شاد دينه غلبه . وذلك مثل ما حكى عن بنى اسرائيل حين أمروا بالقتال فأبوا و قالوا لنبيهم: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ [المائدة : 24] فشدد عليهم حين لم يرضوا و لم يذعنوا بما كلفوا به فابتلوا لأجل ذلك بالتيه أربعين سنة حتى مات فيهم كبارهم و نشأ فيه صغارهم. و يزيد هذا إيضاحا قوله تعالى : وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ [البقرة : 157.156.155] فمن رزق الإذعان للمقدور و الصبر عند نزوله عظم أجره و لطف به و إن ضجر و سخط كان أثماً و المقدور لم يتغير فشاد دينه فغلبه الدين نعوذ بالله من ذلك .

الوجه الثالث :

قوله عليه السلام : " فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا" السداد هنا بمعنى صلاح الحال في توطين النفوس للتسليم و الانقياد . و المقاربة هنا أي إن لم تبلغوا هذا المقام فقاربوا إليه لأن ما قرب من الشيء أعطى حكمه .

الوجه الرابع :

قوله عليه السلام : " و أَبْشِرُوا " البشارة هنا هي أن من فعل ما ذكرناه ووطن على ذلك و استسلم فليستبشر بما تضمنه بقية الآية الموردة إلى آخر السورة و هو قوله عز و جل : رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [البقرة : 286]

الوجه الخامس :

قوله عليه السلام : " وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ " الاستعانة هنا هي أن من عسر عليه العمل بما ذكرناه من نفسه فليقف بالباب الجليل في هذه الأوقات المعينة و ملازم ذلك يرزق العون إذ ذاك على النفس و يظفر بالنجاح و لأجل تضييع هذه الإستعانة غلبت بعض الناس نفوسهم فلا يحصل منهم ما أؤيد منهم من الإذعان و التسليم لأجل أنهم وكلوا إلى أنفسهم لكونهم لم يستعينوا بما شرع لهم الإستعانة به و مثل هذا ما جاء عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم" قال بادروا بالأعمال فتنا كقطع الليل المظلم يصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافرا أو يمسي مؤمنا ويصبح كافرا يبيع دينه بعرض من الدنيا" و هذه الفتن قد كثرت و تكاثرت و القليل النادر من أخذ بالدواء الذى يعينه على النجاة منها لا جرم أن الهالك قد كثر و الناجي قد قل لقلة الامتثال لما به قد أمر فبادر أيها المسكين للعمل و اترك الكسل .

الوجه السابع

الوجه الأول منه قوله عليه السلام " إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ " قد يريد به الأخذ بأقرب الوجوه التى اختلف فيها دون تعمق في أحد الطرفين طرف التشديد و طرف الرخص و ترك الالتفات و المبادرة إلى الامتثال و إذا كان المراد هذا و هو المبادرة إلى الامتثال و ترك الالتفات فهو يسر لا شك فيه .

الوجه الثانى :

قوله عليه السلام : " وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلا غَلَبَهُ " أي لا يشدد أحد على نفسه إلا و يشدد الله عليه لأجل تنطعه أو تسامحه في دينه و ذلك مثل ما حكى عن بني إسرائيل في البقرة التي أمروا بذبحها لو أخذوا في امتثال ما به أمروا و ذبحوا البقرة دون سؤال عن كيفيتها لأجزأت عنهم و كانوا بذلك ممتثلين للأمر و لكنهم شددوا فسألوا عن صفتها و كيفيتها فشدد عليهم فيها فطلبوها فلم يجدوها زمانا ثم وجدوها بقرة واحدة عند شخص واحد فطلبوها منه للشراء فأبى عليهم فما زالوا به إلى أن أنعم لهم بالبيع فاشتروها منه بملء جلدها ذهبا و فضة قيل مرة و قيل عشرا ً فشددوا فشدد الله عليهم و لأجل هذا كان النبي صلى الله عليه و سلم يكره كثرة السؤال و يذم فاعله خيفة التشديد حتى كان الصحابة رضي الله عنهم يتمنون أن يقدم على النبي صلى الله عليه و سلم غريب يسأله فيسمعون الجواب وهذا المعنى إنما كان الخوف منه في زمن النبي صلى الله عليه و سلم لأن الأحكام كانت إذ ذاك تتجدد في كل وقت و حين انتقل إلى ربه طاهرا مطهرا صلى الله عليه و سلم زال ذلك لكن بقى في بعض الناس ما يشبه ذلك و هو كثير فمن ذلك الوسواس الذي لبعضهم في شيء من تعبداتهم حتى يخلوا بلسان العلم فيه فيبقى في تعبده على ضلال و هو يحسب أنه يحسن صنعا و قد قال يمن بن رزق الإمام فى الطريقين رحمه الله : إن الشيطان يأتى لابن آدم فيرغبه فى المعاصى هذا بعد عجزه عن أن يوقع له شبهة فى عقيدته فإن قدر عليه فهو مقصوده و إن لم يقدر عليه رجع إليه من طريق الوسواس فى تعبده حتى يجعله يخل بشىء من لسان العلم فإذا نال ذلك منه قنع به ثم تركه و حبب إليه العبادة و مد له فى الصوت و ربما تعرض له بعد ذلك مارد من الشياطين يريد أن يغويه فيقول له دعه فإنه بعملى يعمل فشاد دينه فغلبه الدين فانقلب بصفقة خاسرة نعوذ بالله من العمى و الضلال .

الوجه الثالث :

قوله عليه السلام : " فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا" سددوا أي سددوا حالكم بإتباع السنة و السنن و قاربوا أي إن لم تقدروا على هذا السداد فقاربوا إليه فإن لم تقدروا فجاهدوا النفوس فى الحمل عليه فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ [يونس : 32]

الوجه الرابع :

قوله عليه السلام : " و أَبْشِرُوا " أي إن فعلتم ما أمرتم به كما ذكرناه لكم فابشروا بتيسير سبل الخير و الهداية يشهد لهذا قوله تعالى : وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا [العنكبوت : 69] .

الوجه الخامس :

قوله عليه السلام : " وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ " الاستعانة هنا هي الملازمة على قرع الباب في هذه الأوقات و المحافظة على ذلك عند نزول المحن و الفتن لأن ذلك هو سبيل النجاة فيأتيكم العون من عالم الخفيات يشهد لهذا قوله عليه السلام : من فتح له في الدعاء فقد فتحت له أبواب الخيرات . روى الترمذي من حديث أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله ‏صلى الله عليه وسلم: " يقول الرب عز وجل: من شغله القرآن وذكري عن مسألتي أعطيته ‏أفضل ما أعطي السائلين، وفضل كلام الله على سائر الكلام كفضل الله على خلقه". قال ‏الترمذي: هذا حديث حسن غريب.‏

ثم نرجع الآن إلى البحث المتقدم و الكلام على

الوجه الثامن

الوجه الأول منه : قوله عليه السلام " إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ " قد يريد به قصر الأمل لأن قصر الأمل من الأسباب المعينة على الدين فيصير الدين بسببه يسراً بيان ذلك أن الأمل إذا قصر قل الحرص و سهل الزهد و خف العمل و قد جاء هذا نصا منه فعنِ ابنِ عُمَرَ- رضي اللهُ عنهما- قال: أخذَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِمَنْكِبَيَّ، فقال: «كُنْ في الدُّنْيَا كَأَنَكَ غَرِيبٌ، أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ». وكانَ ابْنُ عُمَرَ- رضيَ اللهُ عنْهُمَا- يَقَولُ: «إذَا أَمْسَيْتَ فَلَا تَنْتَظِرِ الصَّبَاحَ، وإِذَا أَصْبَحْتَ فَلَا تَنْتَظِرِ المَسَاءَ، وَخُذْ مِنْ صَحَّتِكَ لِسَقَمِكَ، وَمِنْ حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ» أخرجَهُ البُخَارِيُّ.

و هذه سنة الله تعالى مع أوليائه ما سهل عليهم العمل و قطعوا أعمالهم بالشغل بعبادته و الإقبال عليه لأنه عز و جل قصر آمالهم فتيسر عليهم من أجل ذلك ما تعسر على غيرهم ففي حديث ابن مسعود : خط لنا رسول الله صلى الله عليه و سلم خطا مربعا وخط وسطه خطا وخط خطوطا إلى جنب الخط وخط خطا خارجا وقال " أتدرون ما هذا ؟ " قلنا الله ورسوله أعلم قال " هذا الإنسان - للخط الذي في الوسط - وهذا الأجل محيط به وهذه الأعراض - للخطوط التي حوله - تنهشه إن أخطأه هذا نهشه هذا وذاك الأمل - يعني الخط الخارج "

رواه البخاري.

الوجه الثانى :

منه قوله عليه السلام : " وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلا غَلَبَهُ " معناه أن من أطال الأمل وقع له الكسل إذ ذاك فغلبه الدين لأجل طول أجله قال تعالى "ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون ( 16 ) ومن هذا الباب ضاع كثير من العبادأتيك الله برزق جديد و إن مت فلا تشغل وقتك بهم لا تلحقه

.

الوجه الثالث :

قوله عليه السلام : " فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا" سددوا أي وطنوا النفس على قصر الأمل لأن ذلك خير السداد و قاربوا أي إن لم تقدروا على الأعلى في هذا السداد فقاربوا إليه و لا تبعدوا عن الأعلى و الأخذ بالكمال فتُسبقوا و المسبوق محروم .

الوجه الرابع :

قوله عليه السلام : " و أَبْشِرُوا " أي أبشروا لصلاح دينكم و دنياكم إن قبلتم ما به قد أشير عليكم و أرشدتم إليه .

الوجه الخامس :

قوله عليه السلام : " وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ " الكلام على الاستعانة هنا كالكلام على الوجه قبله أي استعينوا لصلاح دينكم و دنياكم ثم نرجع الآن إلى البحث المتقدم و الكلام على

الوجه التاسع

الوجه الأول منه : قوله عليه السلام " إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ " قد يريد به الرضا لأنه معنى من المعاني يبلغ به أعلى المقامات لأنه أعلى درجات السالكين يشهد لذلك قوله عليه الصلاة والسلام لابن عباس : «وإن استطعت أن تعمل لله بالرضا في اليقين فافعل فإن لم تستطع فاصبر فإن الصبر على ما تكره خير كثير واعلم أن النصر مع الصبر والفرج مع الكرب وأن مع العسر يسرا ولن يغلب عسر يسرين»

الوجه الثانى :

قوله عليه السلام : " وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلا غَلَبَهُ " أي من لم يرض بالمقدور و تسخط شاد دينه فيغلبه الدين و لهذا قال بعض الفضلاء من أهل السلوك تجرى المقادير فإن رضيت جرت و أنت مأجور و إن سخطت جرت و أنت مأزور فغلبه الدين لأجل ما ترتب عليه من الوزر عند عدم الرضا .

الوجه الثالث :

قوله عليه السلام : " فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا" سددوا أي خذوا بحقيقة الرضا و قاربوا أي إن لم تطيقوا ذلك فقاربوا إليه و المقاربة إليه هي الصبر كما تقدم. و فائدة الرضا لا تظهر إلا عند الشدائد و تراكم المحن و أما العافية و الرخاء فلا لأن كل أحد يرضى بذلك .

الوجه الرابع :

قوله عليه السلام : " و أَبْشِرُوا " البشارة هنا هي أن من أخذ بالوجه المذكور أو بالوجه بعده فليستبشر بنجاح سعيه و ظفره بمراده كل على قدر رضاه أو صبره ثم يزاد له عند ذلك بشارة أخرى و أي بشارة زيادة على ما احتوى عليه لفظ الحديث و هي ما تضمنه قوله تعالى في كتابه : وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ [النساء : 173] فإذا كانت الزيادة بحسب الفضل فكيف يكون عظم البشارة منحنا الله سبحانه منها بفضله .

الوجه الخامس :

قوله عليه السلام : " وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ " الاستعانة هنا كما هي في الوجه قبله أي يستعن على الرضا ثم نرجع الآن إلى البحث المتقدم و الكلام على

الوجه العاشر

الوجه الأول منه : قوله عليه السلام " إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ " قد يريد به اليقين لأنه معنى من المعاني و يكسب به أعلى الدرجات و المقامات يشهد لهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن أمن الناس علي في ماله وصحبته أبو بكر ولو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ولكن أخوة الإسلام لا تبقين . . . ). أخرجه البخاري ومسلم.

فنال أبو بكر رضي الله عنه أعلى المقامات و فضل غيره و هذا يسر لا شك فيه. ويحصل قوة اليقين بالنظر في ملكوت السموات و الأرض الذي جعله عز و جل للخليل سببا لقوة اليقين لأنه بالتفكر فى مثل ما ذكرنا يحصل به من اليقين فى ساعة واحدة ما لا يحصل في عبادة الدهر فيتيسر عليه الدين و إن كان صعباً و قد وصفهم الله عز و جل بهذه الصفة فى كتابه حيث قال : الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ [آل عمران:173 – 174 ] فانظر لما أن قوى يقينهم بثقتهم بربهم زال عنهم رعب ما أخبروا به و انقلبوا بعد ذلك بالفضل العميم و النعمة الشاملة في الدنيا و الآخرة فربحوا الدارين بتلك اللحظة التى فوضوا الأمر فيها إلى ربهم و استندوا إليه بقوة يقينهم .

الوجه الثانى :

قوله عليه السلام : " وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلا غَلَبَهُ " أي من ضعف يقينه و لم يأخذ في السبب الذي يقويه له كما أشرنا إليه فقد شاد دينه و من شاد دينه غلبه الدين و الغلبة هنا هي ما يكون من تسويلات النفس و تسويلات الشيطان و تخويفاته و قد وصفهم الله عز وجل بذلك فى كتابه حيث قال : يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا [النساء : 120] .

الوجه الثالث :

قوله عليه السلام : " فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا" أي خذوا بالأعلى من اليقين و اعملوا عليه و قاربوا أي إن لم تقدروا على الكمال فلا تبخسوا أنفسكم منه فيتعسر عليكم الدين و من تعسر عليه دينه باء بالخسران و الضلال نعوذ بالله من ذلك .

الوجه الرابع :

قوله عليه السلام : " و أَبْشِرُوا " أي أبشروا باليقين الفيضي الآتي من الفضل العميم إن أنتم امتثلتم الأمر بما أشير عليكم به فكسبتم من اليقين ما إليكم السبب إلى تكسبه .

الوجه الخامس :

قوله عليه السلام : " وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ " الاستعانة هنا كالوجه قبله يستعان بالعمل في هذه الأوقات المذكورة و يلجأ إلى الله فيها لعله بفضله يجود و بفضله أن يلهمنا النظر بالإعتبار في الأشياء التي يتقوى بها اليقين و يؤيدنا بالتوفيق من عنده و يزيدنا على ذلك الضرب الآخر الذي لا يؤخذ بالكسب و إنما يؤخذ بالفيض فمن تعسر عليه شيء من هذا أو حرم منه البتة أو هو يريد الزيادة على ما حصل له فليقف بالباب في هذه الأوقات ينجح له سعيه و يظفر بمراده لأن المخبر صادق و من أحيل عليه كريم و هو لا يخلف الميعاد.

ثم نرجع إلى البحث المتقدم و الكلام على

الوجه الحادى عشر

الوجه الأول منه : قوله عليه السلام " إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ " قد يريد به ترك ما للنفس من الحظوظ و استسلامها بين يدي مولاها لأن طلبها حظوظها و ترك استسلامها هو الحجاب الأعظم لأنها ما أشرفت قط على شيء إلا و أفسدته إلا من عصمة الله من شرها فقمعها بالاستسلام و الانقياد و تركها يسير على من يسره الله عليه . و قد سئل بعض الفضلاء من السالكين عن كيفية الوصول فقال اترك نفسك و قد وصلت .

الوجه الثانى :

قوله عليه السلام : " وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلا غَلَبَهُ " أي أن من عمل على حظوظ نفسه فبلغها آمالها و ترك استسلامها فقد شاد دينه و إذا شاد دينه غلبه الدين لأنه يحرم بحجاب نفسه ما أعد له من الخيرات عند الاستسلام من الألطاف و العون و غير ذلك .

الوجه الثالث :

قوله عليه السلام : " فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا" أي اعملوا على ترك ما للنفس من الحظوظ مرة واحدة و أزيلوها عن ذلك و سلموها إلى خالقها تسعدوا . و قاربوا أي إن لم تقدروا على ذلك و غلبتكم نفوسكم فخذوا في الرياضة و المجاهدات حتى يتأتى لكم منها ما قد أشير به عليكم .

الوجه الرابع :

قوله عليه السلام : " و أَبْشِرُوا " أي أبشروا إن أنتم فعلتم ما ذكر لكم بأن الله خير لكم من أنفسكم و أرحم بكم منكم و أنه يبلغكم آمالكم كيف لا و قد قال الله تعالى فى كتابه : وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا [الأحزاب : 43]

و قال تعالى: يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ [التوبة 21: 22]

وقال تعالى : وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى [النازعات 40 : 41] .

الوجه الخامس :

قوله عليه السلام : " وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ " أى استعينوا بهذه الأوقات و حافظوا عليها تعانوا على ما أريد منكم و تفوزوا برضاء ربكم عنكم فهل من مشمر يغتنم حصول زمن الإعانة قبل أن يفوته ثم لا يجد لنفسه على ما فرط فيه إقالة ثم نرجع إلى البحث المتقدم و الكلام على :

الوجه الثانى عشر

الوجه الأول منه : قوله عليه السلام " إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ " قد يريد به إذا كان الدين لله خالصاً و يكون به و له فيعمل على التعظيم لحق مولاه فإذا فعل هذا تيسر عليه الدين لأنه إذ ذاك حلاوة الطاعة و تخف عليه بل يتغذى بها فيرجع ملكى الباطن بشرى الظاهر و لهذا قال بعض الفضلاء من أهل السلوك. مساكين أهل الدنيا خرجوا من الدنيا و لم يذوقوا من نعيمها شيئا قيل و ما نعيمها قال حلاوة الطاعة و قد ندب عز وجل لذلك في كتابه و حض عليه حيث قال : إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة : 5]

ثم جعله عز وجل متلواً في كل ركعة مبالغة في الحض على ذلك حتى يكون حالاً فإذا كان الله معينه و هاديه حمل باللطف و العناية و توج بالبر و الكرامة .

الوجه الثانى :

قوله عليه السلام : " وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلا غَلَبَهُ " أي من اعتمد في دينه على نفسه و لم يتعلق بالله فيه و لم يستعن به فقد شاد دينه و إذا شاد دينه غلبه الدين بما يظهر له من عيوب نفسه و عجزه عن الخروج عنها ثم يلحقه إذ ذاك أحد وجهين و كل واحد منهما إذا وجد في الشخص علم أنه هالك به إلا أن يتداركه الله باللطف و الإقالة .

أحدهما : القنوط من عدم بلوغ ما يؤمل فإذا اتصف بهذه الصفة خيف عليه لقوله تعالى فى كتابه : فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ [البقرة : 175] قال المفسرون معناه أنهم يصبرون على الأفعال التي يعلمون أنها توجب لهم النار فكأن الصبر فى الحقيقة على النار وهذا مثل قوله تعالى : إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا [النساء : 10] و نحن نشاهدهم يأكلون طعاماً طيب المذاق و لكن لما أن كان ذلك الأكل يؤول بهم إلى النار جعله عز و جل كأنه النار .

الوجه الثالث :

قوله عليه السلام : " فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا" سددوا أي سددوا ما بينكم و بين نفوسكم و تعلقوا بربكم في كل لحظاتكم و استعينوا به في كل أموركم و قاربوا أي إن لم تقدروا على هذا السداد فقاربوا إليه و خذوا أنفسكم بالرياضة فى الوصول إليه و لا تغتروا بطول المهلة لئلا يقال لكم أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ [فاطر : 37]

الوجه الرابع :

قوله عليه السلام : " و أَبْشِرُوا " أي إن تعلقتم به و استسلمتم إليه فأبشروا أنكم تجدونه حيث تؤملون فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : يقول الله تعالى : ( أنا عند ظن عبدي بي ، وأنا معه إذا ذكرني ، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ، وإن ذكرني في ملإ ذكرته في ملإ خير منهم ، وإن تقرب إلي بشبر تقربت إليه ذراعا ، وإن تقرب إلي ذراعا تقربت إليه باعا ، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة ) رواه البخاري ومسلم . "

الوجه الخامس :

قوله عليه السلام : " وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ " أي استعينوا بهذه الأوقات و اغتنموا العمل و الوقوف فيها بباب مولاكم تعانوا على ما أريد منكم و يسهل عليكم ما عسر عليكم فالحاصل من هذا الوجه لمن امتثله زيادة بشرى على البشرى المتقدمة لأن الإعانة تقتضى البشرى و قد تقدمها بشرى أخرى و البشارات هنا متعددة و المخبر صادق و المقصود غنى كريم يقبل من المحسن و يتجاوز عن المسيء فهل من مشمر صادق و مثل هذه البشارة ما تضمنه قوله تعالى : ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32) وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33)

الوجه الثالث عشر

الوجه الأول منه : قوله عليه السلام " إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ " قد يريد به جميع الوجوه المتقدم ذكرها و ما يتشعب منها أو أكثر منها و لولا التطويل لذكرنا منها جملا كلها بأدلتها لكن من نظر و تأمل ما أشرنا إليه على تنويع احتمالاته سهل عليه النظر فيما عداه و بانت له طرق الرشاد و تبين له اليسر على مقتضى احتمالاته و مشادة كل وجه بما يضاده و بشارته بحسبه و الاستعانة فيه بحسب مناطه و الزيادة في الكل بحسب الفضل العميم جعلنا الله ممن هداه لذلك بمنه و أسعده بما إليه هداه .

What's Your Reaction?

like
0
dislike
0
love
0
funny
0
angry
0
sad
0
wow
0