أطروحة بعنوان استراتيجبة البناء على ضوء قانون التعمير
رسائل و أطروحات في القانون الجزائري

مقدمة
إن الأرض أهم من أن تكون مجرد محلا للحق لأنها جزء من وجود البشرية حيث نظم القانون طرق كسب الملكية والتصرف فيها، لذلك اهتمت القوانين الحديثة بالنظر إلى عوالم النمو البشري في البحث عن وضع إطار قانوني يحمي الأراضي في مواجهة تزايد وتيرة البناءات والإنشاءات في مختلف القطاعات . وإذا كان الإنسان يحتاج إلى الأرض من اجل البناء عليها فإنه يحتاج أكثر للطبيعة والمساحات الخضراء ، وكذا ما يعكسه إرثه التاريخي المعماري الذي لا ينفصل عن هويته وانتمائه نظرا للقيمة الثقافية والرمزية التاريخية .
وإذا كان الأصل العام للمالك حريته الكالمة في استعمال ملكيته العقارية واستغلالها والتصرف فيها وممارسة جميع الأنشطة العمرانية عليها بما يراه مناسبا طبقا لمصلحته الخاصة ، فإن التسليم بهذا المبدأ يؤدي إلى أن يجعل الفرد يتعسف بصورة أو بأخرى في القيام بمختلف عمليات البناء دون اعتبار لما يترتب على ذلك من أضرار للغير وللمحيط الخارجي بما ينعكس سلبا على شكل البناءات ومظهرها الخارجي مؤدية إلى تشويه النسيج العمراني والخروج عن مقتضيات التنظيم العمراني .
وعليه فإن عملية البناء تعد أحد أهم المجالات الحيوية المرتبطة بنظام التهيئة و التعمير، لما لها من أهمية في قطاع الخدمات والمنشآت التي تضمن ترقية إطار المعيشة وتحسين العمران الحضري، لذا رسمت الدولة توجهات هذه العملية في إطار إستراتيجية هادفة من خلال أدوات التهيئة والتعمير الت ي تحدد القواعد العامة لتنظيم إنتاج الأراضي القابلة للتعمير، وتحويل المبنى في إطار التسيير الاقتصادي للمحيط العمراني، والموازنة بين قطاع البناء بشتى تدخلاته مع باقي القطاعات الأخرى طبيعية كانت أو أثرية .
ويعتبر القانون رقم /90 29 المؤرخ في 1 ديسمبر 1990 أول نص قانوني يجسد إستراتيجية البناء و نظام تعمير المدن بمفهومه الحديث بما فـي ذلك التوسعات الحضريـة حيث ينص على أن تجرى كل العمليات الحضرية في إطار أدوات التهيئة ب و التعمير التي جاء بها و المتمثلة في مخططات توجيهية للتسيير الحضري و التقديـر المستقبلي لإقليم بلديـة أو عدة بلديات ، وهــو برنامج للتجهيزات والهياكل القاعديـة يوضع من طرف السلطات المحلية من أجل تحقيق سياسـة حضرية طموحة و يعتبر بذلك أداة للتخطيط المتوسط و الطويل المدى، لتوفير الحمايـة للأراضي الفلاح ة ي الخصبة و الأراضي الأثرية، وتحديد النمو العقاري الحضري .
ويكمل القانون رقم /90 29 المتعلق بالتهيئة و التعمير المعدل والمتمم بموجب القانون /04 05 المؤرخ في 14 أوت 2004 بعدة مراسيم تنفيذية من أجل تنظيم عمليات التهيئة و البناء أهمها : - المرسوم التنفيذي رقـم /91 175 المؤرخ فـي 28 ماي 1991 المحدد للقواعـــد العامة للتهيئة و التعمير و البناء . - المرسوم التنفيذي رقم /91 176 المؤرخ فـي 28 ماي 1991 المحدد لكيفيات إعداد و تسليم شهادة التعمير ، و رخصة التجزئـة ، وشهادة التقسيم ، ورخصـة البناء ، و شهادة المطابقة، و رخصة الهدم المعدل والمتمم . -المرسومين التنفيذيين رقم /91 177 و المرسوم رقم /91 178 المؤرخين فـي 28 ماي 1991 المحددين على التوالي إجراءات إعداد المخطط التوجيهي للتهيئة و التعمير المعدل والمتمم ، و مخططات شغل الأراضي المعدل والمتمم . و بهذا يشكل الـقانـون رقم /90 29 والنصوص التطبيقية له منظومة متكالمة للتهيئة والتعمير في الجزائر، ويعد قفزة نـوعية في مـيدان النظام العقاري من حيث تهيئة الأراضي وتعميرها من أجل التكييف المثالي للسوق العقارية في مجال البناء .
و على العـمـوم فإن إستراتيجية البناء في الجزائر تعتبر حـديثة التنظيــم لذا تستحق أن تحض بدراسة خاصة لما لها من أهمية بالغة في النظام العقاري، وعليه ندرس موضوع" إستراتيجية البناء على ضوء قانون التهيئة و التعميـر الجزائري" من خلال الوقوف على النظام القانوني والأهداف المتوخاة من قانون التنظيم العمراني في الجزائر لمعرفة كيفية تنظيمه لعملية البناء بما يتلاءم مع المتغيرات الحديثة في المدينة الجزائرية ومحاولة الاندماج في منظومة المدن العالمية .
ومن خلال ذلك تبرز الأهمية العلمية لدراسة هذا الموضوع بالتركيز على الجوانب القانونية خاصة :
• تـسـليط الـضوء على معنى حق البناء باعتباره من أوجه ممارسة حق الملكية والتطرق إلى التنظيم القانوني لقواعد التهيئة والتعميـر خارج أدوات التعمير .
• والتعرف على الآليات والأدوات المخولة لعمليات التهيئة و التعمير و دورها في رسم إستراتيجية البناء .
• معرفة مــدى اســتجـابة عمليات البناء في إطار إستراتيجية الرخص والشهادات التهيئة والتعمير في ضبط عملية البناء داخل التجمعات السكانية .
أما الأهمية العملية للموضوع تظهر من خلال تسليط الضوء على موضوع يعد من صميم الأعمال الإدارية، ليظهر مدى تحكم الجهات الإدارية المختصة في تطبيق نصوص التهيئة والتعمير وتجسيدها على ارض الواقع بما يستجيب لإستراتيجية البناء التي وضعها المشرع الجزائري في التقنين العمراني للحد قدر الإمكان من البناءات غير القانونية التي تنعكس سلبا على المظهر الجمالي للمدينة الجزائرية . ويعود سبب اختياري لهذا الموضوع أساسا لدوافع ذاتـيـة بحكم تـخصصي في مـيدان القـانـون العـقـاري لهذا ارتأيت بـهذه الـمبادرة لمعالجة زوايا هـذا المـوضوع المـتعددة والمتشابكة ليكـون كمعـين لطلاب و باحثي القـانــون و لأهـل الاختصاص في المـيـدان العـقـاري . ودوافع موضوعية اهمها قلة البحث القانوني المختص في التهيئة والتعمير بحيث أن هناك تباين واضح في ندرة الدراسة لـهـذا الـتخصص فـي الـجـزائـر، وكذا محـدودية الـثـقافـة القانونيـة في هـذا المجـال لدى العـديــد من المتدخلين فـي المـيـدان العقاري لكيفية تطبيـق إستراتيجية تنظيم البناءات وفق نـظام التهي ئة و التعمير ، وعليه سأجتهد من خلال هذه الدراسة لإثـراء المـكـتـبة الـقـانونية فـي الـجـزائـر بـدراسة تـخـص الجانب العقـاري في التهيئة والتعمير.
و تهدف هذه الدراسة لإعطاء مفهوم واضح لكل أدوات ورخص وشهادات التهيئة و التعمير وتحديد إستراتيجيتها في تنظيم عملية البناء لتجنب الغموض الذي يشوبها، و كيفية تنظيمها من الناحية القانونية وتحديد إجراءاتها . وكذا إبراز دور الجهات المختصة في مراقبة عمليات البناء وفق سياسة التهيئة والتعمير ومدى فعاليتها في السـاحة العـقـارية والحد من البناءات الفوضوية ، والوقـوف على الوسائل القانونية للتعمير في ظل التوجهات الاجتماعية و الاقـتصادية المـعاصـرة للتخطيط المثـالي للبنـاء وفق التنظيم العمراني في الجزائر .
لذا سأحاول دراسة هذا الموضوع من خلال الإجابة على إشكالية أساسية هي : ما مدى نجاح المشرع الجزائري في تنظيم عمليات البناء بموجب قانون التهيئة والتعمير؟
ولمعالجة هذه الاشكالية فإننا نقف أمام مجموعة من التساؤلات :
• ماذا يقصد بإستراتيجية البناء وحق البناء وما علاقتهما بالتهيئة و التعمير؟
• ماهي الآليات والأدوات المخولة للتعمير في إطار تحقيق إستراتيجية ناجعة للبناء؟
• هل حققت عقود التعمير المتمثلة في الرخص العمرانية وشهادات التهيئة والتعمير إستراتيجية البناء وفق قانون التهيئة والتعمير؟
• هل آليات الرقابة أثناء عملية البناء وبعد إنهائها حققت أهدافها المسطرة لها وفق قانون التهيئة والتعمير ؟ للوصول إلى النتائج الصحيحة والتحليل القانوني السليم اعتمدت في دراستي على المنهج التحليلي باعتباره منهج يعتمد على التسلسل المنطقي في الأفكار، حيث ننطلق من معطيات أولية لنصل إلى نتائج تستخلص عن طريق تحليل مجمل المواد القانونية المنظمة للتهيئة والتعمير في الجزائر و، تم الاعتماد ايضا على المنهج الوصفي والتاريخي في بعض الجوانب من الموضوع.
فالمنهج الوصفي و التحليلي يظهر في تنظيم عمليات البناء من خلال الرخص و الشهادات العمرانية و كذا أدوات التهيئة و التعمير . و كذلك يظهر هذا المنهج في الباب الثالث من حيث مراقبة عمليات البناء و مخالفتها أما المنهج التاريخي فقد تم اعتماده في التطور التشريعي لمنظومة التعمير في الجزائر ونظرا لحداثة البحث في موضوع التهيئة والتعمير من خلال الدراسات المعمقة لم أجد دراسة مـسـتقلة ماعـدا بـعض الإشارات الخفيفة حول هذا الموضوع رغم أن الموضوع قد أعطي كالم حقه من الدراسـة و التحليل في بـلدان العالــم المتقدمة ، وفي المكتبة الجزائرية وجدت فقط دراسة واحدة تشير إلى الرخص العمرانية وشهادات التهيئة والتعمير وهي : عبد الرحمن عزاوي، الرخص الإدارية في التشريع الجزائري، أطروحة دكتوراه في القانون العام ، جامعة الجزائر ، 2005/2006. حيث تناول الباحث مجمل الرخص التي تمنحها الإدارة وتطرق لرخص التعمير وشهادات التهيئة والتعمير في القانون الجزائري . ومجموعة من رسائل الماجستير الذي تتحدث بصفة منفصلة عن أدوات التعمير وأخرى عن الرخصة العمرانية وخاصة رخصة البناء وشهادات التهيئة والتعمير . ويتميز البحث بتناول موضوع التحليل القانوني لقانون التهيئة والتعمير لتحديد إستراتيجيته في تنظيم عملية البناء من خلال القواعد العامة للتهيئة والتعمير وأدوات التهيئة والتعمير ، والرخص العمرانية وشهادات التهيئة والتعمير واللجان المختصة في مراقبة عمليات البناء المطابقة والمخالفة للنظام القانوني العمراني . ونظرا للتعديلات المتكررة لقوانين التهيئة والتعمير وضبط لعنصر الزمان للدراسة موضوع الأطروحة اعتمدت أخر تعديل لنصوص التهيئة والتعمير إلى غاية 2012 ، وتفاديا للتعديلات القانونية المتلاحقة حددت الدراسة زمانيا منذ 1962إلى غاية جانفي . 2014 و أما فيما يخص صعوبات البحث فقد واجهتني قلة المراجع المتخصصة في موضوع التهيئة والتعمير ، وقلة الأبحاث في هذا المجال المتخصص من القانون العقاري ، غير أنني واجهت هذه الصعوبات على ضوء المعلومات المتوفرة لدي وتوصلت لوضع خطة تتكون من ثلاث أبواب ويندرج تحت كل باب فصلين، بحيث تناولت في الباب الأول ماهية إستراتيجية البناء في التشريع الجزائري و تطرقت في هذا الباب الى عملية البناء وتنظيمها القانوني، أما الباب الثاني تناولت فيه تنظيم البناء في إطار الرخص و الشهادات العمرانية وأخيرا تطرقت في الباب الثالث الى عمليات البناء و مخالفتها.