رسالة ماجستير بعنوان احكام تسليم المجرمين
رسائل و أطروحات في القانون الجزائري

المقــــدمة :
إن سيادة الدولة علي أراضيها ، أو ما يعرف بالسيادة الوطنية ، تمتد لتـشمل جميـع الأشخاص والأمولا والسلوكيات التي تقع في إقليم تلك الدولة، ووفقاً لذلك فإن حق الدولة في المجال التجريمي والعقابي يتسع ليشمل كل من يرتكب فعلا مخالفا للقانون علـى أراضـيها ، فيكون لها أن تجرم الأفعال أو تبيحها ، وأن تعاقب الأشخاص والمواطنين أو تعفـي عـنهم ، ولها أن تسن التشريعات والقوانين وتعقد الاتفاقات والمعاهدات ، ولها أن تتحـرى وتقـبض وتحاكم المجرمين وفق إجراءاتها القانونية المقررة مسبقا ، كل ذلك للدولة سـلطة عليـه مـا دامت السيادة الوطنية هي المسيطرة علي الأفعال المجرمة، ولم تتجاوز حدود الإقليم الوطني. ولكن الإشكالية تثور هنا عندما يقوم المجرم بتجاوز حدود الإقليم الوطني فـارا مـن وجه العدالة ملتجأ إلى أقاليم أخري ليس لها سيادة على أفعاله الإجرامية التي قام بها في إقليم الدولة محل الفعل الإجرامي ، وحيث إن الجريمة ليست إلا سلوكاً فردياً ينطوي علي مخالفـة للقانون المطبق على الإقليم الذي ارتكبت في نطاقه ، وترتب جزاء نص عليه المشرع ليحقق به الردع العام والخاص ، وبالتالي فإن عدم توقيع العقوبة علي مرتكب الجريمة من شـأنه أن يحرج المشرع ويجعل من النصوص التشريعية والقواعد القانونية مجرد نصوص حرفيـة لا قيمة لها ولا فائدة ترجى منها .
ولما لهذه الإشكالية من أخطار جسيمة تتجسد في تزايد النطاق الجرمـي للأفعـال المخالفة للقوانين ، نظرا لتنقل المجرمين من إقليم إلى إقليم بدون رادع وعقاب فـارين مـن العدالة بواسطة عبور الحدود الدولية والاختفاء عن الأعين ، مما تنامى معه الشعور الـدولي العام بالخطر الذي يهدد الأقاليم كافة نتيجة لهذا كله، وبات واضحا وجليا أن التعاون الـدولي ضرورة يفرضها الواقع الحالي ولاسيما التعاون في المجال القضائي . وتتعدد أشكال التعاون الدولي وصوره ، فهناك التعاون الشرطي الدولي الذي يهـدف إلى فتح قنوات أكثر يسرا بين أجهزة الشرطة في الدول المختلفة لتبـادل المعلومـات حـول المجرمين ،
وهذه الصور من صور التعاون ترتبط أساسا بعلاقة الأجهـزة الأمنيـة بعـضها ببعض بين الدول الأطراف في معاهدة أمنية ، أو قد ينشأ هذا التعاون مـستندا إلـى مبـدأ المعالمة بالمثل أو قواعد المجالمات . ونجد كذلك التعاون القضائي الدولي الذي يأخذ شكل المساعدة المتبادلة للمعلومات والوثائق بين الدول، أو نقل المحكومين ، أو تبادل خطابات الإنابات القضائية، أو الاعتراف بالأحكـام الأجنبية ، أو تسليم المجرمين . ويعتبر نظام تسليم المجرمين كصورة من صور التعاون القضائي الدولي مـن أهـم الآليات التي سنها صرح التعاون الدولي في المجال القضائي ، وإن لم يكن النظام الوحيـد ، فنجد صورا أخرى للتعاون القضائي الدولي بجانب تسليم المجرمين تجمع بينهـا عـدد مـن السمات المشتركة أهمها انصبابها علي الحرية الشخصية للأفراد استنادا لإجراء صـادر فـي دولة أخرى ، أو شخص من أشخاص القانون العام بهدف إعادته أو تسليمه لـه، ومـن تلـك الصور والإجراءات الترحيل والإبعاد .
أما في فلسطين ، فإنه ومن المسلَّم به تاريخياً وفقهياً أن النظام القـانوني لابـد أن يتأثر بالنظام السياسي في الدولة، ونظرا لتعاقب التغيرات السياسية على فلسطين بـدءا مـن خضوعها للإمبراطورية العثمانية (١٥١٧ -١٩١٧م) التي طبقت على الأراضي الفلـسطينية المجلة العدلية الصادرة عن الدولة العثمانية عام ١٢٨٦م وأحكام الشريعة الإسلامية الغـراء ،وقانون العقوبات لسنة ١٩٣٦م الذي ما زال مطبقا في الأراضي الفلـسطينية إضـافة إلـى قانون العقوبات الأردني لسنة ١٩٦٠م الذي طبق علي الضفة الغربيـة، مـرورا بالانتـداب البريطاني علي فلسطين ( ١٩١٧ -١٩٤٨ (والذي أدخل القوانين الانجلوسكسونية إلي فلسطين وأصدر قانون تسليم المجرمين رقم ٤٤ لسنة ١٩٢٦م ، والذي مازال سارياً حتى تاريخنـا هذا مع ما لحقه من تعديلات متلاحقة، إضافة إلى الإدارة المصرية لقطـاع غـزة ، والحكـم الأردني للضفة الغربية ، والاتفاقات التي كانت مسنونة بين فلسطين وبين دول الجوار بـشأن التعاون القضائي الدولي وتسليم المجرمين الفارين من وجه العدالة (مصر، والأردن ، وسوريا ولبنان ) ، وصولا إلى اتفاقية الرياض العربية للتعاون القضائي عام ١٩٨٣ م ، والتي أفردت الباب السادس لتنظيم تسليم المجرمين والمحكوم عليهم ، وكانت تلك الاتفاقية الأساس العربـي للتعاون الدولي لمكافحة الإرهاب في المجال الأمني والقضائي وتبادل الأدلة وإجراءات تسليم المجرمين و..... والتي كانت فلسطين ضمن الدول التي انضمت لها وأقرتها .
أهمــــية البحـــــث:
إن التعاون القضائي بين الدول المختلفة غدا ضرورة حتمية تقتضيها طبيعـة الجـرائم والمجرمين في العصر الحديث ، ولاسيما في خضم عصر العولمـة وثـورة المواصـلات والاتصالات ، والتطور المتنامي والديناميكي في الحريات الشخصية للأفراد واحترامها كحرية السفر والتنقل والحركة ، وما يصاحبها من نتائج تتمثل في تحرر المجرم من قيود العقاب ٧ وتمكنه من الهروب بعد ارتكاب الجرائم في إقليم معين إلي أقاليم وأماكن أخري بقصد الهرب والإفلات من العقاب مما جعل تسليم المجرمين – الذي يعد الآلية الأكثر رسوخا في ترسـانة التعاون الدولي – هو محل دراسة واهتمام من الدول كافة ، رغم ما يثيره هـذا النظـام مـن إشكاليات قد تصطدم مع حقوق الإنسان في بعض المواضع ، فنجد أن الدول حاولت أن توجد مساحات تقاطع ما بين حقوق الإنسان وبين نظام تسليم المجرمين الذي يقـوم علـى أسـاس المصلحة العامة في المقام الأول. وكل ما سبق هو ما دفع بنا إلى تبني تسليم المجرمين كمحل لدراستنا هنـا فـي هـذا البحث ،ونسلأ الله السداد والتوفيق .
إشكــــــاليات البحـــــث:
إن تسليم المجرمين هو إجراء من الإجراءات ذي الطبيعة الدولية التـي لا تـتم إلا بوجود اتفاق بين دولتين أو أكثر، وسواء كان هذا الاتفاق صريح كالمعاهدات والاتفاقيات ،أو كان ضمنياً كإعمال مبدأ المعالمة بالمثل أو المجالمات الدولية . وتضع بعض الدول قوانين خاصة بالمجرمين الفارين ، وتسن وتحدد الشروط اللازم توافرها لإجراء التسليم (الاسترداد) والقيود والجرائم التي يجوز التسليم فيها ، والجرائم التي لا يجوز التسليم فيها ، والاستثناءات ، والإجراءات المتبعة في ذلك ، كل هذا في إطار يمكن الدولة من التنفيذ الأمثل لهذا النظام بعيدا عن المساس بهيبة وسيادة الدولة على إقليمها الوطني . أما في فلسطين ، ونظراً للواقع الاستثنائي غير العـادي وكمـا أسـلفنا سـابقا ،فـإن المتفحص للقوانين الفلسطينية بهذا المجال ومن أهمها القانون الأساسي وقانون تسليم المجرمين يجد نقاطاً و مواداً ونصوصاً تصطدم بعضها ببعض ، وتخلق نوعاً من الخلخلة القانونية فـي هذا النظام ، وكذلك صدام مع المعاهدات الموجودة أو تلك التي قد تُسن مستقبلاً أيـضا لـدى تطبيقها في الواقع العملي علي الأرض .
وحيث إن قانون تسليم المجرمين المطبق حاليا هو ذاته القانون الذي كان ساري المفعول فـي فلسطين زمن الانتداب البريطاني والذي اتبع القوانين الإنجليزية ،وقـد أدخلـت الحكومـات المتعاقبة على فلسطين تعديلات لأحقت بهذا القانون ، ودخلت أيضا مع الدول المجاورة والدول العربية بعدة معاهدات واتفاقيات ( مصر ، سوريا ولبنان، الأردن) والتي نفذت وفق المـادتين ٦ و ٢٣ من قانون تسليم المجرمين و إضافة إلى ذلك إقرار الحكومـة الفلـسطينية معاهـدة الرياض للتعاون القضائي الدولي عام ١٩٨٣ . ٨ ونتيجة لهذا كله ثارت عدة خلافات وتساؤلات حول تعارض أو توافق النـصوص القانونيـة بعضها ببعض ، أو بين نصوص المعاهدات بعضها ببعض ، أو بينها وبين القوانين ، ومـن أهم تلك الإشكاليات: مدي توافق أو تعارض نص المادة ٢٨ من القانون الأساسي المعدل والذي يحظر تـسليم أي فلسطيني لجهة أجنبية مع نص المادة الخامسة من قانون تسليم المجرمين ونص المادة الخامسة من الفصل الثاني من اتفاقية الرياض العربية للتعاون القضائي واللتين تنصان على ضـرورة تسليم المجرمين الفارين من العدالة؟ الاتفاقيات الفلسطينية المـصرية والـسورية والأردنيـة وإمكانية تطبيقها في الواقع العملي في فلسطين وفق المتغيرات السياسية والتطـورات علـى الأرض؟ الشرعية القانونية للسلطة الوطنية في إبرام المعاهدات الدولية والانـضمام إليهـا ؟ وتطبيق معاهدة الرياض على الأراضي الفلسطينية ؟ والكثير من التساؤلات والإشكاليات التي قد تثار وتظهر أثناء بحثنا هذا ، الذي سوف نحـاول االامام بكافة الجوانب القانونية للبحث عن إجابة أو إيجاد اقتـراح للخـروج مـن الخـلاف والتعارض.
تســــاؤلات الباحـــــث:
ما المدى القانوني والغطاء الاتفاقي لتسليم المجرمين دوليا ، وهل لـه مـن الفاعلية في مجال التعاون الدولي ممـا يجعلنـا نتحـدث عـن نجـاح هـذا النظـام مـن عدمه.........؟؟ أضافة إلى تساؤلات بمدى التـزام الـدول الأطـراف بتلـك الاتفاقـات والمعاهدات الخاصة بالمجال التعاوني القضائي الدولي..؟؟ مما يجعل السؤال الأهـم يطـرح نفسه هل يوجد آلية محدد موحدة في العالم والمجتمع الدولي للحد من ظاهره تسرب وهروب المجرمين عبر الحدود بإجراءات قانونية محددة وواضحة.........؟؟ والسبب في عدم تمكين القضاء الفلسطيني حتى تاريخنا هذا من إنجاح نظام تسليم المجـرمين ولاسـيما فـي إطـار الطلبات القضائية المتعددة لتسليم بعض المجرمين والمطلوبين للعدالة ،والتي لم تكتمل حتـى كتابة بحثنا هذا ؟ منهجيـــــة البحـــــــث: سوف نعتمد في بحثنا هذا على المنهج الاستقرائي التحليلي للنظـام الفلـسطيني الخـاص بتسليم المجرمين عبر تفنيد وتحليل القوانين المختصة بهذا النظام ، وأهمها القانون الأساسـي المعدل وقانون تسليم المجرمين رقم ٤٤ لسنة ١٩٢٦ وتعديلاته ، إضافة إلى تفنيد الاتفاقيـات الدولية المتعلقة بالتعاون الدولي عامة وبتسليم المجرمين خاصة ، ومنها الاتفاقيات الفلسطينية المصرية ، واللبنانية السورية ، والأردنية ، مع تحليل وشرح لاتفاقية الرياض العربية للتعاون ٩ القضائي ١٩٨٣ بشأن تسليم المجرمين ، وبيان التعارض والتوافق بين النـصوص المختلفـة سواء بتلك الاتفاقيات أو القوانين ، مع استعراض للجوانب الإجرائية الدولية للنظام وفق ما هو متاح لنا من مراجع متواضعة ، ونظرا لندرة الكتابات الفلسطينية في هذا الموضـوع وفقـر القضاء الفلسطيني من تطبيقات عملية قد تصلح لأن تكون أساسا لدراستنا هنا ، ولـن نـدع التخصص والتفقه ولكننا سنحاول قدر الإمكان االامام بالموضوع من كافة جوانبـه تحلـيلاً واستعراضاً ، ونقداً ، واقتراحاً ، قدر المستطاع .
خطــــــــــة البحــــــــــــث :
قمنا بتقسيم البحث إلى فصل تمهيدي وأربع فصول ، حيث سنبحث في الفصل التمهيدي ماهية التعاون الدولي وأهم صوره ، والذي يمثل تسليم المجرمين أحد أدواته ، و ثم ننتقل في الفصل الأول إلى دراسة الأساس القانوني لنظام تسليم المجرمين وانتمائه إلى القانون الجنائي الـدولي ، أما الفصل الثاني فسيكون للحديث عن الشروط والإجراءات الواجبة الاتباع فـي التـسليم ، ننتقل فيما بعد في الفصل الثالث لبحث الآثار الناتجة عن إجراءات التسليم وما قد يصاحبه من إشكاليات وضمانات ، وننهي دراستنا بالفصل الرابع والأخير لاستعراض قواعد الاختـصاص القضائي وأدوات التسليم وانقضائه ، وذلك على النحو التالي :