تــقـــديــــــم
تمتد جذور الجريمة ضاربة في أعماق التاريخ وقديمة قدم التواجد الانساني، فالجريمة في ابسط صورها عبارة عن خلل وشذوذ لا تقبله شروط العيش المشتركة لأنها عدوان يمس أمن ومراكز الافراد والجماعات. فالظاهرة الاجرامية في عمومها قديمة ارتبطت تاريخيا بظهور التجمعات البشرية شابتها في البداية مجموعة من التصورات واآلراء التي حاولت رصدها وتفسيرها دون استطاعة مقاربتها عن طريق الدراسة العلمية المؤسسة على المناهج العلمية الكفيلة بسبر أسبابها وتحليلها علميا بغية الوصول إلى طرق ووسائل مكافحتها. في المجتمعات البدائية، كان ينظر إلى الجريمة كونها عصيانا ومخالفة لتعاليم وأوامر اآللهة، وسيطر هذا التفكير العقدي الغيبي على الاغريقيين الذين كانوا يعتقدون بوجود قوى إلهية تتحكم في الطبيعة، وأن الجريمة تمثل خروجا عن هذا الناموس الطبيعي الذي يرتب لحوق لعنة اآللهة على المجرم.
مع تطور الفكر البشري وتخلصه من المعتقدات الدينية الخاطئة بدأت تظهر بعض التفسيرات والتصورات معتمدة مفاهيم جديدة تمحورت حول تحديد أسباب الجريمة وتفسيرها وحصرها في الافعال الضارة بالمجتمع وتحليل آثارها، والوقوف على مسؤولية المجرم عن أفعاله المجرمة وما يستتبع ذلك من إيجاد الجزاءات الجنائية المناسبة الكفيلة بتحقيق شروط الضبط الاجتماعي من خلال منح المجتمع المناعة الكافية ضد السلوكات المنحرفة دون إغفال إعادة تأهيل المجرم وتطويعه قصد إعادته إلى بيئته وإدماجه فيها بشكل إيجابي. نتيجة لذلك ظهرت مجموعة من الاتجاهات تروم تفسير الظاهرة الاجرامية، فهناك من أعازها إلى أسباب بيولوجية أو عضوية، وهناك من أرجعها إلى أسباب نفسية، في حين ذهب فريق ثالث إلى إعطائها بعدا اجتماعيا، وهناك من أعازها إلى تفاعل مجموعة من العوالم المتداخلة.
وسنقتصر في هذا العرض على دراسة المدارس الاجتماعية والتكالمية باعتبارها من أهم المدارس في تفسير السلوك الاجرامي. فما هي التفسيرات التي تقدمها هذه المدارس للظاهرة الاجرامية ؟ وإلى أي حد استطاعت هذه النظريات إعطاء تفسير علمي ودقيق للسلوك الاجرامي؟ سوف نعالج هذه الاشكالية وفق التصميم التالي:
المبحث الاول: الاتجاه الاجتماعي في تفسير السلوك الاجرامي
المبحث الثاني:الاتجاه التكالمي في تفسير السلوك الاجرامـــي