مــقــدمــة لقد روي عن أحد مواقف عمر بن الخطاب رضي اللهعنه مقولة وفد كسرى " عدلت فأمنت فنمت يا عمر " ويقول المثل العربي : " العدل أساس الملك". وإذا نام أمير المؤمنين عمر نوما هنيئا فلكونه أرسى صرح العدالة في بالده وقبض على دفة الحكم بعدالة قياسية وأصبحت الامور تمشي بصفة اعتيادية والناس كلهم في أمن وآمان على أرواحهم وعلى حياتهم وعلى أموالهم والتجارة مزدهرة, لذا كان العدل أساسا للملك لأن العدل ضمانة لكل انفتاح, ضمانة لكل نشاط والدرع الواقي من كل المخاطر ومن كل أنواع المجازفات وبالتالي فهو أساس الامن والاستقرار والتنمية. فما أحوجنا اليوم لدول مستثبتة تسكن إليها النفس وتطمئن لها رؤوس الامولا التي لا تغامرالافي الدول الموصوفة " بدول القانون " ضمانا لمصالحها وتأمينا لتجارتها وصناعتها وتبعا لأرباحها .
ويعتبر القضاء أحد الركائز التي يقوم عليها صرح المجتمعات المتحضرة الرتباطه الوثيق بالمحيط الاقتصادي والاجتماعي . ويشكل التغيير المتتابع داخل المجتمعات احد اثواب للتحول نحو الافضل, خاصة في عالم أخذ يشهد تحوالت سريعة في المجالات الاقتصادية والاجتماعية , إلى جانب التطور غير المسبوق في مجال الصناعة بحكم التطور التكنولوجي وفي مجال الخدمات بحكم تنوع المعامالت وظهور مقاوالت في عالم الاعمال تفوق بكثير ماكان معروفا منها بالامس القريب نوعا وحجما وتخصصا كل ذلك يؤكد وجاهة وحتمية التفكير في وضعية القضاء إزاء تحديات القرن المقبل , وهذا ما يشغل اليوم بالجميع الاطراف المعنية بشؤون العدالة , من قضاة ومحامين , وأسا تذة جامعيين, ورجال الاعمال ومنظمات المجتمع المدني إلى جانب الاطراف الاخرى ذات البعد الاقتصادي والاجتماعي, فال أحد يجهل ما للقضاء من ارتباط وثيق بالمجالات الاقتصادية والاجتماعية وماله من دور في تشجيع الاستثمار , وحماية رؤوس الامولا وتوفير عوالم التنمية. وفي هذا الصدد, وبكل اعتزاز نردد الكلمة الذهبية الخالدة للمغفور له الحسن الثاني طيب اللهثراه أمام رجال الاعمال بالواليات المتحدة, أثناء زيارة الدولة التي قام بها حفظه اللهخلال سنة 1995 حيث قال حفظه الله: " إن أحسن حماية لالستثمار هي العدالة".
ولكي تقوم العدالة بدورها في هذا الاطار يجب أن تكون نظرة رجالها والقائمين عليها متفتحة على المحيط الاقتصادي الوطني والدولي. وهذا ما تضمنه النطق الملكي الكريم أمام قضاة المجلس الاعلى حينما تشرفوا بالمثول بين يدي جاللته الشريفة حيث قال حفظه الله: "إذا أراد المغرب أن يفتح على العالم فيجب أن يكون قضاؤه متفتحا وفي مستوى قضاء العالم". لقد تزايد الحديث في السنوات الاخيرة عن دور القضاء في حماية الاستثمار, وهو ما ينم عن درجة الوعي بأهمية المؤسسة القضائية باعتبارها القاطرة التي يعول عليها لقيادة ركب التنمية فالقضاء كجهاز تعرض عل يه في مجال التجاري والاقتصادي والمالي نزاعات تفرزها بشكل عاد طبيعة التعالم البشري يجد نفسه أحيانا أمام قضايا اقتصادية وتجارية البد من سبر أغوارها ومعرفة كنهها.
ليتوصل إلى حلها بشكل يضمن تحقيق ما يتوخاه المشرع من القوانين ذات الطابع المالي والاقتصادي, التي أصبحت اليوم محكومة بل مفروضا عليها أن تكون في مسار العولمة التي أخذت تتحكم في الاقتصاديات والوطنية وهذا ما يحتم تخصصا نوعيا لرجل القضاء. فالقضاء المتخصص والفعال في المجال التجاري والاداري لمن شأنه أن يدعم الثقة لدى الفاعلين الاقتصاديين ولدى المستثمرين وطنيين وأجانب على السواء فالثقة في المعامالت كفيلة بتشجيع الاستثمار ,وطمأنة الممولين , وجلب رؤوس الامولا وبعث حركية في الرواج الاقتصادي, وليس هناك من ينكر دور القضاء في تأكيد هذه الثقة وإشاعة هذه الطمأنينة , السيما إذا كان تحديث القوانين وتعيينها لتصبح مسايرة للمستجدات , متوازيا مع تحديث العدالة وعصرنتها, وتوفير الوسائل لتكوين قضاة الغد بما يتالءم والتطورات التي يعرفها عالم المال والتجارة والاقتصاد.
إن مما الشك فيه, أن نجاح أي سياسة تروم إصالح الاوضاع الاقتصادية والسياسية والاجتماعية اليمكن أن يتحقق دون إصالح حقيقي للمؤسسة القضائية, فوحده قضاء مجتهد ومتشبع بمبادئ العدل والانصاف يستطيع رفع التحديات التي تقف في تحقيق التنمية الشالمة. هذا إذا علمنا أن دور القضاء لم يعد منحصرا في الفصل في المنازعات, بل لقد أضاعت إليه القوانين الجديدة دورا بارزا حيث أضحى القاض ي الاقتصادي يتدخل بموجب هذه القوانين في حياة الشركات وفي تسيير المقاوالت مثلما أصبح يشكل 4 الضمانة الاساسية الطمئنان المستثمرين على أموالهم وممتلكاتهم تماشيا مع التحوالت الطارئة على المعامالت التجارية ومع متطلبات فض النزاعات المرتبطة بهذه المعامالت التجارية وفق الشكل الذي يضمن الحفاظ على المصلحة الاقتصادية العامة.
وعليه أصبح القضاء اليتخد مجرد قرارات قانونية ولكنه يمارس وظيفة وسلطة اقتصادية. ولهذا فموضوع هذه الرسالة جاء للكشف عن دور القضاء في حماية الاستثمار مما يضفي عليه أهمية كبرى. )1 )يشكل موضوع الحماية القضائية لالستثمار أهمية قصوى خاصة إذا علمنا أن سمعة الدول اليوم تقاس بمستوى قضائها والانطباع الذي يخلفه في نفوس المتقاضين, فبقدر ما يكون هذا الانطباع إيجابيا بقدر ما تزداد الثقة وتتكرس في كافة مؤسسات الدولة. لذلك نجد أن المستثمر يتطلع أولا لمعرفة أحولا القضاء والنصوص القانونية الجاري بها العمل قبل الاقدام على الاستثمار في بلد معين فالمستثمر قبل أن يبدأ في استغالل رأسماله في الدولة المضيفة يسعى جاهدا إلى أن يتضمن اتفاق أو عقد الاستثمار النصوص الكفيلة بحفظ كافة حقوقه بحيث إذ يحقق ربحا استطاع التمتع به بعد سداد الضرائب الواجبة للسلطات المحلية, وإذا اشترى عقارا تمكن من استغالله وتملكه والتصرف فيه وإذا اقترض مالا سدده مشمولا بالفوائد المتعارف عليها أو المتفق بشأنها ويعتبر ذلك من أصول التعالم السليم في قضايا الاستثمار والتي تفرض حسب النية والالتزام من جانب أطرافه في توفير مناخ صحي لتنمية وازدهار الاستثمار.
فالقوة التنافسية لبلد ما لا تحدد فقط بإمكانياته الاقتصادية وإنما أيضا بقوانينه وعدالته فالحماية القضائية عنصر أساسي في تدعيم القدرة التنافسية وترسيخ مكانة الدولة كمصدر لجلب الاستثمارات علما أن الهدف ليس فقط جلب ا الستثمارات وإنما الحفاظ عليها وتشجيعها . وأن الانشطة الاستثمارية تبقى رهينة معادلة السعي إلى الربح والتقليل من التعرض للمخاطر.
وإن من أهم المخاطر التي تواجه الاستثمار في الوقت الحاضر وعلى الصعيد العالمي ليست المخاطر الاقتصادية وحدها بل كذلك المخاطر المتعلقة بالامن القانوني. والامن القانوني يعني توفير المناخ القانوني السليم لالستثمار. وإيجاد الآليات القانونية المحفزة على الاستثمار , وسيادة دولة القانون في ميدان الاعمال.
ومن هنا يبدو التساؤل مشروعا حول مدى الحماية التي يوفرها القضاء المغربي للمستثمرين في حالة نشوب نزاع سواء في إطار القانون الخاص أو القانون العام, أو في حالة تعرض الاستثمار إلى بعض الصعوبات في إطار نظام الصعوبات المقاولة ؟ وواضح أن الاجابة عن هذه الاشكالية تستوجب الاستعانة بمناهج البحث العلمي من أجل الاحاطة الشاملةبالموضوع . وهكذا سيتم الاعتماد بشكل أساسي على المنهج الاستنباطي مع الاستخدام المكثف لأدواته خاصة النصوص القانونية والاجتهادات القضائية وتناولها بدرس وتحليل من أجل الوقوف على القيمة الحقيقية للحماية القضائية المخصصة لالستثمار , كما ستتم الاستعانة بالمنهج الوصفي نظرا لما يوفره من أدوات تساعد على وصف مظاهر الحماية القضائية لالستثمار . إذن فمعالجة هذا الموضوع ستتم على ضوء هذه المناهج وفقا لخطة مضبوطة معتمدا فيها على تقسيم ثنائي يعتمد مقاربة تبني عنصرين أساسيين.
أولها : المحاكم المتخصصة كآليات للتشجيع الاستثمار والحفاظ عليه (الفصل الاول ) .
وثانيا: الوظيفة والسلطة الاقتصادية للقضاء كآلية لالطمئنان المستثمرين على أموالهم وممتلكاتهم ( الفصل الثاني).