المقدمة:
لعل الانطباع الذي يسيطر على مخيلة أي شخص عندما يسمع الطاقة النووية هي صورة انفجار القنابل الذرية التي تبيد اآلالف عندما تحدث الكارثة التي تؤدي إلى دمار و تصدع و نشر إشعاعات خطيرة لمسافات كبيرة، و من ثم فإن الطاقة النووية أصبحت مرتبطة لا شعوريا بمفهوم التدمير و التلوث و الامراض الخطيرة و غيرها . وبالرغم من أن الاضرار النووية تصل في بعض الاحيان إلى كارثة مدمرة،الاأن الانسان لم يعدم الفائدة من هذه الطاقة، بل استطاع السيطرة عليها و استخدامها في مجالات شتى لخدمة و رفاهية البشرية. فالمادة المشعة بالرغم من حداثة استخداماتهاالاأنها أوجدت لنفسها مكانة هامة بين مصادر الطاقة والتي تعتبر بمثابة الشعلة التي تنير طريق بناء الحضارات، وعلى الرغم إلى الاخطار التقليدية التي يتعرض لها من مكانتها الهامة،الاأنها أضافت خطراً جديداً الانسان، لذلك كان من الضروري تحميل المسؤولية للمتسبب في الضرر، و ذلك بتعويض المضرور وفقا لأحكام المسؤولية المدنية عن الاضرار النووية.
و بما أن المسؤولية تتبوأ مركز الصدارة في شتى المجالات القانونية، باعتبارها القلب النابض في الجسد القانوني، إذ لا يوجد مجال من المجالاتالاوكانت هي نبض الحياة فيه، حاولت مختلف التشريعات إعطاء تعريف يتناسب مع أهميته، إذ تشكل المسؤولية المدنية أحد أركان النظام القانوني و الاجتماعي، فكل إنسان عاقل مسؤول عن أعماله وملتزم بواجبات تجاه الغير ، أهمها عدم الاضرار به، فإذا خرق هذه الموجبات التزم بإصالح الضرر و تعويض المتضرر .
فالمسؤولية لغة هي التبعة ، و في الاصطالح العام يرتبط مفهوم المسؤولية بتحمل الشخص نتائج و عواقب الاخلال الصادر عن مخالفة الواجبات الملقاة على عاتقه أو على عاتق من يتولى رقابته والاشراف عليه. أو بتعبير آخر هي الجزاء المترتب عن ترك الواجب، أو فعل ما كان يجب الامتناع عنه. أما بخصوص الاصطالح الخاص لمفهوم المسؤولية في إطار المجال المدني، فهي تعني المؤاخذة أو المحاسبة عن فعل أو سلوك معين يضر بالغير، وذلك بإلزام المخطئ- في حدود القانون - بأداء التعويض للغير المتضرر من الضرر الذي أصابه نتيجة ما لحقه من تلف مال أو ضياع منافع، إما بشكل جزئي أو كلي سواء كان ضررا ماديا أو معنويا، فالمسؤولية بهذا المعنى الخاص تكون إما عقدية مصدرها الارادة، تنشا عن الاخلال بالتزام مصدره العقد، أو تقصيرية مصدرها القانون تنشأ إذا كان الالتزام الذي وقع الاخلال به مصدره العمل غير المشروع.
وعليه فالمسؤولية التقصيرية هي المصطلح الذي يطلق على الالتزام المترتب عن العمل غير المشروع، ويعد الفقيه البلجيكي سانكتيليت )Sanctelette ) أول من استعمل مصطلح المسؤولية بالمعنى الخاص في بداية القرن الثامن عشر، أما قبل هذا التاريخ فقد كان يعتد بمصطلح العمل غير المشروع، في حين نجد الفقهاء المسلمون أطلقوا مصطلح "الضمان" على سائر فرضيات المسؤولية مدنية كانت أو جنائية لأن العبرة لدى هذا الفقه ليس بمصطلح المسؤولية في حد ذاته، وإنما بالاثر المترتب عليها وهو الضمان وقد تم تأصيل مؤسسة الضمان في إطار الفقهالاسلامي بالاعتماد إلى مجموعة من القواعد الفقهية المشهورة كقاعدة "الغرم بالغنم"، وقاعدة "الخراج بالضمان" وقاعدة "الاتالف موجب 6 للضمان" إلى غير ذلك من القواعدة .
و قد عرفها السنهوري، بأنها تعويض الضرر الناشئ عن فعل غير مشروع ، كما عرفها الدكتور سليمان مرقس بأنها حالة الشخص الملتزم قانونا بتعويض ضرر سببه للغير . أما الضرر وفقا للقواعد العامة للمسؤولية المدنية فهو أحد أركان المسؤولية المدنية بل يعتبر ركنا أساسيا لقيامها ، ولعل ركن الضرر هو ما يميز المسؤولية المدنية سواء الخطئية أو الموضوعية عن المسؤولية الجزائية، فهذه الاخيرة تقوم لمجرد ارتكاب الفعل المجرم قانونا و إن لم يترتب أي ضرر، في حين تشترط المسؤولية المدنية النعقادها ضرورة وقوع ضرر أصاب الغير. كما هو الامر بالنسبة للضرر العقدي الذي عرفه المشرع المغربي في الفصل 264 من ق ل ع " الضرر كل ما لحق الدائن من خسارة حقيقية و ما فاته من كسب متى كان ناتجا مباشرة عن عدم الوفاء بالالتزام..." و كذا الضرر التقصيري الذي يعني حسب المادة 98 من ق ل ع " الخسارة التي لحقت المدعي فعال و ما حرم من نفع، و المصروفات التي اضطر أو سيضطر إلنفاقها إلصالح نتائج الفعل الضار" ، و هو نوعان إما ضرر مادي : أي ذاك الذي يصيب الشخص في جسمه أو في ماله، فيتمثل في الخسارة المالية التي تترتب على المساس بحق أو مصلحة مشروعة.
و إما ضرر معنوي أو أدبي : أي الذي لا يلحق الشخص في حقوقه المالية وإنما في مصلحة غير مالية، فهو ما يصيب الشخص في كرامته أوفي شعوره أو في شرفه أو في معتقداته الدينية أو في عاطفته من آالم نتيجة فقدان شخص عزيز، وقد توسع القضاء في مفهوم المصلحة الادبية فاعتبر ضررا أدبياً كذلك ما يصيب الشخص جراء السب أو القذف أو إيذاء للسمعة. ثم إن الاحكام المنظمة للضرر سواء من حيث مفهومه أو صوره أو شروطه، قد تختلف باختالف مصدر حدوث ذلك الضرر و المتسبب فيه ، فهناك أضرار ذات طبيعة خاصة ترتبط خصوصيتها بمحدثها،كالضرر النووي مثال، مما يتبعه حتما وجود أحكام و قوانين و اتفاقيات خاصة تنظمها، ولعله من المناسب و المنطقي القول بأن كمية الضرر و خطورته و فداحته تتناسب طرديا مع درجة جسامة الفعل الضار هنا يجدر بنا الوقوف على مصطلح الضر ر النووي الذي يختلف عن الضرر التقليدي نظرا لما تتمتع به الاشعاعات النووية من خصائص كالامرئية و الالئدراكية و الاستقاللية ، و اتساعها المكاني و امتدادها الزماني و سرعة انتشارها و اتسامها بطابع و التعددية الخفية الكمون. فقد عرفه المشرع المغربي في المادة 2 من القانون رقم )02.12 )المتعلق بالمسؤولية المدنية عن الاضرار النووية بأنه "كل موت أو ضرر يلحق بالاشخاص؛ وكل خسارة أو ضرر بالممتلكات أو كل ضرر يصيبها. وذلك عندما تنجم الخسارة أو الضرر عن الاشعاعات المؤينة المنبعثة عن كل مصدر الاشعاعات يوجد داخل منشأة نووية...."
و عرفته اتفاقية فيينا لعام 1963 في المادة 1 : الضرر النووي يعني خسارة في الارواح البشرية أو أي إصابة جسدية أو خسارة في الممتلكات أو أي ضرر يلحق بها، ناتج عن مواد إشعاعية أو سامة أو متفجرة أو أي شيء آخر من الخواص الاخرى المتعلقة بالمنتجات النووية المشعة أو النفايات. فالمسؤولية المدنية عن الاضرار النووية إذا تعني الاخلال بالتزام يفرضه القانون يؤدي إلى 11 يتمثل في الفعل الضار الناشئ عن النشاط النووي لمشغل المنشأة النووية إحداث أضرار بالافراد أو الممتلكات و يلزم التعويض عنه. و يرى جانب من الفقه :أنه التزام بالتَّعويض يفرضه القانون على مشغل المنشأة 12 التي تمارس نشاطا يؤدي إلى إحداث أضرا ر بالاشخاص أو الامولا أو الممتلكات الاخرى. لذلك تفاعل التشريع المغربي مع الوقائع البيئية الاكثر خطورة على الاشخاص والممتلكات من خلال وضعه لقواعد قانونية حمائية ذات بعد بيئي وقائي وإصالحي، وعيا منه أن مؤشرات الضرر النووي و مخاطر التلوث الاشعاعي فرضت نفسها بشكل ظاهر، المر الذي أصبح معه الحاجة إلى قانون معاصر يضاهي ويواكب المخاطر الحقيقية المؤكدة ضرورة لا مفر منها. وتعتبر حوادث انفجار المفاعالت النووية وثبة لبداية اهتمام مختلف التشريعات 13 البيئية بمخاطر الاضرار النووية، والتي يمكن أن تتجسد من خلال التأريخ التالي:
-تزايد الاشعاع المنبعث من المفاعل النووي في " يوغوسالفيا السابقة "مدينة )فنسا( في 15 أكتوبر 1985.
- ظهور مخاطر المفاعل جزيرة الثالثة أميال بوالية بنسلفانيا بالواليات المتحدة في 14 .1979 مارس 28
-حريق الوحدة الرابعة من المفاعل النووي "تشيرنوبيل" في مدينة كييف "السوفياتية سابقا" في 26 أبريل 1986.
وانطالقا من حقيقة أن الخطر والاضرار النووية يشكالن نقطة اهتمام مشترك بين مختلف التشريعات، فقد تم تحديد مجال ونطاق الضرر الذي يلحق بالمواد المشعة لتالفي مخاطرها وتعويض المتضررين منها ويأتي توجه المملكة المغربية في تنظيم المسؤولية المدنية الناتجة عن الاضرار النووية من منطلق تزايد الاهتمام العالمي للطاقة النووية، خاصة مع بداية السبعينات التي شهدت تصنيع الطاقة النووية حيث تم إطالق عشرات المواقع في جميع أنحاء العالم و وصل بدء التشغيل ذروته في الثمانينيات، ذلك أن هذه الطاقة تحمل حلولا عديدة للمشاكل ، فهي تعد مصدرا نظيفا و موثوقا و اقتصاديا لمعالجة المستعجلة التي يشهدها العالم الاحتياجات الحالية للطاقة، فبدأ اهتمام المغرب في مجال الطاقة النووية يبرز في كثير من التطبيقات الصناعية و الطبية باعتبارها مصدرا مهما من مصادر الطاقة وقد عمد المغرب في بداية اهتمامه بالمجال النووي إلى وضع التشريعات الخاصة بالاستخدامات الخفيفة للطاقة النووية، من بينها القانون الصادر في 12 أكتوبر 1971 ، و ومع ذلك ظل المغرب لا يعرف تطورا مهما المتعلق بالحماية من الاشعاعات الايونية في هذا الميدان بالرغم أنه من الدول العربية غير البترولية، لكن مع أزمة البترول التي عرفها العالم بداية السبعينات من القرن الماضي، بدأ التفكير في ضرورة الاستفادة من الاستخدامات السلمية للطاقة النووية، و العمل على إنشاء محطة نووية لتوليد الكهرباء، إضافة إلى الاستعمالات الاخرى في الاغراض السلمية المرتبطة بالمجالات الاقتصادية و الاجتماعية، و كانت أولى الخطوات هو إنشاء مجموعة من المؤسسات التي لها عالقة ، الذي يشكل عصب ، إضافة إلى امتالك مفاعل نووي بحثي بالمجال النووي الاستخدامات الصناعية و الطبية و يدفع المجال النووي دفعة واقعية لا يمكن الاستهانة بها. ثم إن انخراط المغرب في ميدان الاستخدامات السلمية للطاقة النووية، جاء بعد إبرام العديد من الاتفاقيات الدولية و الجماعية و الثنائية للتنظيم القانوني لالستخدامات السلمية للطاقة النووية، و إنشاء العديد من الوكالات الدولية العالمية، و على رأسها الوكالة الدولية 1987 ،وهي الوكالة المتخصصة للطاقة النووية، التي انخرط فيها المغرب منذ سنة التابعة لهيئة الامم المتحدة، ثم تم إنشاء عدة وكالات إقليمية لذات الغرض، و توالت التشريعات الوطنية التي تناولت هذا التنظيم، فكان التشريع النيوزيلندي سنة 1945 م أول تشريع وطني في العالم، يهدف إلى وضع تنظيم قانوني الستخدام الطاقة النووية.
و قد ساير المشرع المغربي الضرر الناجم عن الاضرار النووية، بإصداره عام المتعلق بالمسؤولية المدنية عن الاضرار النووية بهدف 23 2005 القانون رقم 02.12 ضمان التعويض المدني عن الاضرار التي تنجم عن الاستخدامات السلمية للطاقة النووية، وفقا لمعاهدة فيينا المتعلقة بالمسؤولية المدنية عن الاضرار النووية، حيث جاءت مقتضياته مطابقة لأحكام هذه الاتفاقية، والدليل أن المادة 1 من هذا القانون أكدت على ذلك بشكل صريح إذ تنص على ما يلي: "يهدف هذا القانون إلى ضمان التعويض المدني عن الاضرارالتي يمكن أن تسبب فيها بعض الاستخدامات السلمية للطاقة النووية طبقا لمقتضيات معاهدة فيينا المتعلقة بالمسؤولية المدنية في مجال الاضرار النووية".
وإذا كان تنظيم المسؤولية المدنية في المجال النووي أمرا حيويا تفرضه طبيعة الاشياء فإن التنظيم الدولي لهذه المسؤولية لا يقل أهمية، فالخطر النووي هو من قبيل المخاطر المتجاوزة للحدود إذ يمكن أن يمتد الضرر الناجم عن حادث نووي إلى ما وراء 24 الحدود الطبيعية أو السياسية لدولة واحدة، وحتى إلى أعالي البحار . وعندئذ فإن ضمان وتيسير حصول المتضررين من الحادث على حقوقهم يتطلب تنظي ًما قانونيًا موح ًدا للمسؤولية، إذ تم إبرام العديد من الاتفاقيات الدولية لتنظيم المسؤولية المدنية في المجال النووي سواء على الصعيد العالمي أو الاقليمي بما تتضمنه من إبرام إلى عناصر البيئة عمدا أو إهمالا 25 تأمين وضمانات ضد احتمالات تسرب المواد المشعة أو تقصيرا مما يؤدي إلى وقوع حادث داخل المنشآت النووية. و قد راعت هذه الاتفاقات عدم كفاية القواعد التقليدية للمسؤولية المدنية للتعويض عن الاضرار النووية، إذ نجد أربع اتفاقيات دولية تتعلق بتنظيم المسؤولية المدنية عن الاضرار النووية أبرمت بين عامي 1960 و 1963،حيث تعتبر هذه الاتفاقيات ثمرة جهد مبذول من قبل الوكالة الدولية للطاقة الذرية« A.E.A.I« والوكالة الاوروبية للطاقة الذرية « E.A.E.A ،« والجماعة الاوروبية للطاقة الذرية. حيث تبنت كل هذه الاتفاقيات مبدأ المسؤولية المطلقة لمستغل المنشأة النووية عن الاضرار الناشئة عن استغاللها، وتركيزها في شخص المستغل النووي وحده وإجبار هذا الاخير عن التأمين عنها وتقديم أي ضمان مالي ضد هذه المسؤولية المحدودة وكل ذلك جاء نتيجة زيادة حوادث التلوث بالاشعاعات النووية من جهة والرغبة في حماية المضرورين وضمان حصولهم على تعويض عادل ومالئم من جهة أخرى، ومن أجل إيجاد التوازن في المصالح وتجنب العوائق أمام تنمية استخدام الطاقة الذرية في الاغراض السلمية..
هذا القانون بالطابع الوقائي و الرقابي، كما أصدرت الواليات المتحدة الامريكية سنة 1954 قانون الطاقة النووية، و قد وضع هذا القانون أسس تنظيم النشاط النووي داخل الواليات المتحدة الامريكية و حل محله سنة 1964 قانون للطاقة النووية، و يعتبر هذا الاخير المصدر الاساسي لمعظم التشريعات الوطنية النووية في العالم، فقد نظم النشاط النووي تنظيما شامال و دقيقا، متناولا كافة جوانب النشاط من حيث الترخيص و الوقاية و المسؤولية، ليواكب التطورات الكبيرة في مجالات المفاعالت النووية، و سنة 1946 صدر قانون رقابة الطاقة الذرية الكندية، و قانون الطاقة الذرية الانكليزي سنة 1964 ،و قانون الطاقة الذرية الالمانية سنة 1959 ،و قانون الوقاية من الاشعاعات المؤينة في النمسا سنة 1985 ،و قانون العمل بالاشعاعات المؤينة و الوقاية من أخطارها رقم 59 سنة 1960 في مصر، و قانون الاستخدامات السلمية للطاقة الذرية الايطالي سنة 1962 ،أما في فرنسا سلكت منهج إصدار تشريعات جزئية لتنظيم أمور معينة من النشاط النووي مثل قانون رقم و الحماية منها، و القانون رقم 663 سنة 21 575 لسنة 1970 لرقابة المواد النووية 1970 الخاص بتقسيم المواد النووية من الناحية البيئية، كما أن قانون الصحة العامة سنة 22 1952 يرتبط بتنظيم المواد المتعلقة بالنشاط و الطاقة النووية .