طبيعة المجرم و الجريمة و العقوبة في القانون الجنائي للأعمال

و عليه يحق لنا في هذا المقام التساؤل حول القواعد الموضوعية الخاصة بالقانون الجنائي للأعمال؟ و هل  يمكن تحقيق الأماني التي يرغبها الفقهاء في هذا الصدد حول إمكانية إيجاد قانون خاص بجرائم الأعمال حيث أن هذا الأخير مشتت بين قوانين الشركات التجارية  و قانون التجارة و قانون الجنائي العام و قانون الجمارك أو الضرائب المباشرة و غير المباشرة و قانون الشغل ؟ كل هذا سنحاول الإجابة عنه و دراسته و تبيان المشاكل التي يطرحها هذا القانون الذي مازال قانونا نظري بالاسم لكنه عملي بالنصوص.

طبيعة المجرم و الجريمة و العقوبة في القانون الجنائي للأعمال

إن القانون الجنائي للأعمال هو قانون جديد، لا يقتصر على الجرائم الكلاسيكية المعروفة في القانون الجنائي العام و المسماة بجرائم الأموال بل إن نطاقها اتسع ليشمل جرائم الأعمال بالمفهوم الحديث له، حيث أن هذه الجرائم تتصل بشكل مباشر بالحلقات الثلاث للدورة الاقتصادية و هي الإنتاج، التوزيع، الاستهلاك. و لهذا فقد جاء على لسان أستاذنا الدكتور عبد السلام بنحدو “أن القانون الجنائي للأعمال هو في حقيقته سوى تطبيق القانون الجنائي العام و قانون المسطرة الجنائية في ميدان المال و الأعمال”. و منه يمكن القول أن القانون الجنائي للأعمال هو في الأصل يحتكم إلى القانون الجنائي العام، لكنه رغم ذلك يتميز بخصوصيات و استقلالية تميزه عن باقي فروع القانون. و ترجع أهمية هذا القانون إلى كونه يمس العديد من المجالات كالمقاولة و الضرائب و الجمارك و الشغل و هلم جرا، أي يتصل بالمجال التجاري و الاقتصادي و الاجتماعي و المالي. و قد عجز الفقه على إعطاء تعريف جامع و شامل له بسبب تعدد الميادين التي يتضمنها.

و عليه يحق لنا في هذا المقام التساؤل حول القواعد الموضوعية الخاصة بالقانون الجنائي للأعمال؟ و هل  يمكن تحقيق الأماني التي يرغبها الفقهاء في هذا الصدد حول إمكانية إيجاد قانون خاص بجرائم الأعمال حيث أن هذا الأخير مشتت بين قوانين الشركات التجارية  و قانون التجارة و قانون الجنائي العام و قانون الجمارك أو الضرائب المباشرة و غير المباشرة و قانون الشغل ؟ كل هذا سنحاول الإجابة عنه و دراسته و تبيان المشاكل التي يطرحها هذا القانون الذي مازال قانونا نظري بالاسم لكنه عملي بالنصوص.

المطلب الأول: طبيعة الشخص المجرم و قيام مسؤوليته الجنائية في القانون الجنائي للأعمال

من أبرز القواعد الخاصة بالقانون الجنائي للأعمال المرتبطة بالجانب الموضوعي، هي تلك المتعلقة بالشخص الجاني أو المخالف للنصوص المرتبطة بمجال المال و الأعمال، و المسؤولية الجنائية التي تتحقق فيه .

الفقرة الأولى: طبيعة الشخص المجرم في القانون الجنائي للأعمال

بخلاف الإجرام العادي، فإن الإجرام المرتبط بميدان الأعمال و التجارة يتم من قبل أشخاص يستعملون معلوماتهم النظرية و المهنية لارتكاب جرائمهم بكل براعة، و بدون عنف و لا دم و لكن بذكاء و تفكير علمي مدعوم بتكتم شديد. و المعنى المستفاد هنا هو أن هؤلاء الأشخاص المجرمون بمقتضى القانون ليسوا أشخاصا عاديين بل يتميزون بالكفاءة العلمية و العملية و المهنية حيث يحدثون أضرارا تتجاوز العنف المادي، فهي جرائم ذوي الياقات البيضاء كما أطلق عليهم الفقه الفرنسي crimes en col blanc ، أي أن هذا النوع من الإجرام يرتكبه أناس لهم مكانة هامة في المجتمع، و لا يستعملون الأدوات التقليدية لارتكاب جرائمهم بل يلتجئون إلى وسائل و حيل جد متخصصة ( مثلا البحث عن الثغرات الكامنة في التشريع الضريبي للتهرب من دفع المستحقات الضريبية لخزينة الدولة(.

فالمجرم ذو الياقة البيضاء هو مواطن فوق كل شك و مراء يعي الأمور غير الشرعية و غير القانونية لفعلته غير الأخلاقية، لكنه لا يشعر أنه مجرم لأنه يقر بعدالة فعله و يحس كذلك بأن له حق شخصي في خرق القوانين بالنظر إلى مركزه الاجتماعي و بالنظر كذلك إلى ما يقدمه للدولة من تشغيله للمواطنين و بالتالي المساهمة في خلق مناصب شغل و محاربة البطالة و أنه يعتبر نفسه معيلا لهؤلاء، و يستحق أكثر مما تقدمه الدولة له و يقر في دواخله أن القوانين الحالية لا تتناسب و التضحية التي يقدمها. فالجريمة هنا كما يقول الدكتور عبد السلام بنحدو ” لا تمت عن لا أخلاقية فاعلها و إنما تعبر عن لا وطنية فاعلها”.

و عليه فإن رجال الأعمال هم المستهدفون من هذا القانون لحماية النظام العام الاقتصادي لوضع حد لعجرفتهم و تطاولهم عن القانون و عن أخلاقيات المهنة، فإن كان رجل الأعمال يعتبر نفسه فوق القانون فلأنه غير وطني و لا يدرك الثقة التي وضعها المجتمع و الدولة فيه، و هذا ما دفع المشرع إلى اعتراض المخالفات و الجرائم التي تمس بالاقتصاد الوطني و بخزينة الدولة و بمجال التشغيل، فكم من رجل أعمال قام بفعلته و أدى إلى إفلاس مقاولته و شركته و إلى فقدان الأجراء مناصبهم. و رجل الأعمال هو ليس ذلك الشخص التاجر صاحب المقولة (رئيس المقاولة أو الشركة التجارية) بل هو أيضا المسير و المتصرف باسم الشركة سواء القانونيين أو الفعليين، و بالتالي فإن المديرون و أعضاء الجهاز الإداري للشركة و التجار هم الذين يشملهم هذا القانون.

الفقرة الثانية: قيام المسؤولية الجنائية للمسير أو المتصرف

لابد لقيام المسؤولية الجنائية للمسير أو المتصرف في مقاولة تجارية أن تتحقق أركانها الثلاثة و هي الخطأ، الضرر، العلاقة السببية بينهما. لذلك فإن مناط هذه المسؤولية لمسير المقاولة هو الخطأ الشخصي للمسير الذي يقع عليه واجب السهر على الحفاظ على القوانين و الأنظمة داخل المقاولة التي يسيرها، و التي تعتبر من النظام العام حسب المفهوم الحديث لها- و لأنه لا يمكن المساس بكيان ولدت معه شخصية اعتبارية يعد جزء لا يتجزأ من كيان الاقتصاد الوطني.

و يلاحظ أنه في مجال القانون الجنائي للأعمال تأسس المسؤولية الجنائية على القائم بإدارة أعمال الشخص المعنوي، و هو ما يؤكد لنا خصوصية هذا القانون فيما يتعلق بقواعد المسؤولية الجنائية فهذه الأخيرة طبقا للقاعدة التقليدية لا يجوز مساءلة شخص إلا عن فعله الشخصي و هذا عكس ما يأخذ به القانون الجنائي للأعمال إذ باعتبار المقاولة مركز التقاء عدة فاعلين، فإن لكل منهم دورا في اقتراف الفعل الجرمي و بالتالي يظهر لنا أن هناك خاصية في إسناد المسؤولية الجنائية في ميدان الأعمال يلقي بظلاله على نظرية الشريك الجنائي، خاصة في ميدان التهرب الضريبي و جرائم الشركات و الإفلاس، حيث تتم متابعة الشريك الغير التابع للشخص الاعتباري. و يؤسس الفقه المسؤولية الجنائية هنا عن فعل الغير بعدم تدخل المسير أو المتصرف في الوقت المناسب أي أنها نوع من الإهمال في مراقبة متبوعيه و عدم اتخاذ الاحتياطات اللازمة لاختيار الشخص الكفء المناسب لأداء المهام، هذا فضلا عن كون المسير الفعلي يتحمل كذلك المسؤولية الجنائية بل تقوم في حق مراقب الحسابات أيضا.

و على أساس ما سبق، تنبني مسؤولية الشخص المعنوي على أساس فكرة الخطر المرتبط بممارسة السلطة في المقاولة، و الهدف من تقرير هذه المسؤولية هو وقف النشاط غير المشروع للشركات أو المنشآت الاقتصادية، و ينتج عنه سحب رخصة مزاولة المهنة أو النشاط أو حل الشخص المعنوي و هو ما يقابل سلب الحرية كجزاء مقرر للشخص الطبيعي.

المطلب الثاني: تلاشي الركن المعنوي و طبيعة الجزاء في القانون الجنائي للأعمال

يظهر لنا بجلاء هيمنة المسؤولية الجنائية المادية للأشخاص الطبيعيين و الاعتباريين في مجال الأعمال و هو ما يجعل من القانون موضوع الدراسة ذا خاصية فريدة من نوعها يخرج بذلك عن القواعد العامة المعروفة في القانون الجنائي العام، كما أنه و للمجال الذي يمارس فيه الشخص المخالف للقواعد القانونية و هو ميدان التجارة و المال و الأعمال فإن طبيعة الجزاءات المفروضة على هذا المخالف تميز القانون الجنائي للأعمال عن غيره من فروع القانون الأخرى.

الفقرة الأولى: تلاشي الركن المعنوي في بعض جرائم الأعمال

إذا كان البعض يرى أن الطابع الغالب على جرائم الأعمال هو عدم اشتراط الركن المعنوي و بالتالي الاكتفاء بالركن القانوني و الركن المادي في جرائم الأعمال، فإنه في حقيقة الأمر لم يستبعد المشرع نهائيا ضرورة توافر الأركان الثلاثة للجريمة في هذا المجال ( الركن القانوني، الركن المعنوي، الركن المادي ) بل إنه حافظ على هذه القاعدة في القانون الجنائي للأعمال، حيث يتوجب للقول بقيام جريمة من جرائم الأعمال كل من الأركان الثلاثة للجريمة، و هذا دليل آخر على أن الشارع يحتكم في كثير من الأمور المتعلقة في هكذا جرائم بالقانون الجنائي العام.

و لعل من أهم جرائم الأعمال التي نص المشرع على ضرورة توافر الأركان الثلاثة للجريمة، هي جريمة إساءة استعمال أموال و إعتمادات الشركة و التي تدخل ضمن خانة جرائم الشركات ( المادة 384 من قانون شركات المساهمة المغربي ) فالغاية من ذلك هو اتصال المقاولة بالنظام الاقتصادي العام و الاجتماعي و الذي يسعى المشرع إلى ترسيخه و ضبطه.

و الركن القانوني هو كل تحديد للقواعد الآمرة و الناهية و العقوبات المترتبة عن مخالفتها، أي تنصيص القانون على الفعل المجرم إذ لا جريمة و لا عقوبة إلا بنص و هو ما يعرف بمبدأ شرعية الجرائم و العقوبات. أما الركن المادي فهو كل سلوك اجتماعي مخالف للنظم التي اعترف بها المجتمع و التي كرسها قانون العقوبات و أرفقها بجزاءات تمس بمن يخالفها، و يجب أن يكون هذا السلوك سلوكا ظاهريا و ليس باطنيا بمعنى أن يتخذ شكلا ماديا و الذي يضفي عليه صفة الجرم أو محاولة الجرم. و أما بخصوص الركن المعنوي فإنه لا يختلف في جرائم الأعمال فيه عن جرائم القانون الجنائي العام، و القصد الجنائي في جرائم الأعمال يقوم مثلما يقوم في جرائم عامة، على العلم و الإدراك بطبيعة الفعل و بنتيجة و إرادة إحداثها و يمكن أن يكون هذا القصد قصدا عاما و في بعض الجرائم قصدا خاصا كجريمة إساءة استعمال أموال و اعتمادات الشركة مثلا، كما يمكن أن يتحقق الركن المعنوي في صورة الخطأ أي أن تقع الجريمة نتيجة إهمال أو قلة احتراز أعدم مراعاة للقواعد القانونية و الأنظمة الداخلية للمقاولة مثلا.

و على أية حال، فطبيعة جرائم الأعمال و ضرورة تطبيق السياسة الاقتصادية و تنفيذا لأحكامها، تطلبت هذه السياسة إضعاف الركن المعنوي و عدم التشديد في إثباته، وهو ما عبر عنه الفقه بتلاشي الركن المعنوي، حيث تتم المعاقبة على بعض الأفعال دون اشتراط للركن المعنوي ( القصد الجنائي أو سوء نية) و ذلك على أساس المسؤولية الجنائية المفترضة التي تعتمد على الخطأ في التسيير و التدبير و بالتالي تظهر لما الأهمية الكبيرة للخطأ غير العمدي في مجال جرائم الأعمال فتوقيع العقوبة هنا يتم بمجرد حصول النتيجة دون النظر إلى القصد الجنائي، إذ يتم الاقتصار على وجود عنصر الاهمال و عدم التبصر فقط دون البحث عن سوء نية الفاعل.

و على أساس ما سبق، نستشف أن هناك اختلاف جلي بين أساس العقاب في القانون الجنائي العام و الذي يقوم على وضع حد للانحطاط و الخبث داخل المجتمع و بين أساس العقاب في القانون الجنائي للأعمال و الذي يهدف إلى وضع حد للعادة السيئة لرجال الأعمال الذين لا يعوزهم لا الوازع الأخلاقي و لا الوازع الوطني.

الفقرة الثانية: طبيعة العقوبات المفروضة في مجال جرائم الأعمال

تتنوع هذه العقوبات في مجال الأعمال التي ترتكب فيها جرائم اقتصادية و مالية، بين العقوبات السالبة للحرية بالنسبة للأشخاص الذاتيين، و بين العقوبات التي تناسب الشخص الاعتباري كالمنع من مزاولة النشاط أو إغلاق المؤسسة و الإقصاء من الصفقات العمومية و المصادرة و إشهار العقوبة في الجريدة الرسمية أو الجرائد المخولة قانونا بمثل هكذا الأحكام. إضافة إلى تعدد الجهات المنفذة للعقوبة الصادرة في حق هذا الأخير: المحاكم، الإدارة، و الأبناك.

و جرائم الأعمال لا تستهدف الإنسان للإضرار به ماديا و  حريته بقدر ما ترمي أساسا إلى الحصول على الأموال بطرق غير مشروعة أو الاعتداء على السياسة الاقتصادية و المالية المتبعة. و لما كان الأمر كذلك، فإننا نجد التشريعات المقارنة تخصص عقوبة خاصة تواجه بها مجرمي مجال الأعمال و المال و هي العقوبة المالية، و لذلك فإن أهم ميزة يتميز بها القانون الجنائي للأعمال هي خصوصية العقوبة التي غالبا ما تتخذ صورة الغرامة. و الحق يقال هنا أن العقوبات المالية هي الكفيلة بردع مثل هؤلاء المجرمين ما دامت أهدافهم الأساسية تكمن في الحصول على أموال بطرق غير مشروعة باستعمال السلطات المخولة لهم في تسيير و إدارة أموال الغير، غير أن ذلك لا يعني بالضرورة إقصاء العقوبات السالبة للحرية من مجال القانون الجنائي للأعمال.

و هنا يطرح تساؤل حول سبب تغليب عقوبة الغرامة على العقوبة الحبسية خاصة في ميدان الشركات و المقاولات التجارية؟

إن إتيان الأفعال المادية المكونة للجريمة ( السلوك الايجابي و السلبي، النتيجة الإجرامية، العلاقة السببية بينهما ) يعفي النيابة العامة من إثبات اتجاه إرادة الجاني إلى ارتكاب هذه الجريمة. و لأجل ذلك نجد المشرع يعاقب على أغلب الجرائم المتعلقة بميدان الأعمال بعقوبة الغرامة فقط دون العقوبة الحبسية، كجريمة الإصدار غير القانوني للأسهم من طرف مسيري و مؤسسي شركة مساهمة و ذلك عندما يقومون بإصدار أسهما قبل تقييد و تسجيل الشركة بالسجل التجاري مثلا. لكن فداحة الأعمال الإجرامية المرتكبة أحيانا في ميدان الأعمال بل إن عدد الجرائم التي تتضمنها النصوص المتعلقة بالشركات بالمغرب يصل إلى حوالي 338 جريمة، جعلت المشرع لا يقتصر على الغرامات المالية وحدها، بل نص كذلك على عقوبات حبسية تناسب خطورة الجريمة و المجرم، كما هو الأمر بالنسبة لجريمة النصب ( الفصل 540 من القانون الجنائي المغربي ) و جريمة إصدار الشيك بدون رصيد ( الفصل 543 من نفس القانون ) و جريمة إخفاء الأشياء المختلسة أو المبددة أو المتحصل عليها من جناية أو جنحة (الفصل 571 من نفس القانون )، حيث تصل العقوبة في مثل هكذا الجرائم إلى خمس سنوات.

What's Your Reaction?

like
0
dislike
0
love
0
funny
0
angry
1
sad
1
wow
0