يعتبر تدبير الاستثمار عملية معقدة تتطلب توافر عدة عوالم اقتصادية وسياسية وتنظيمية في إطار منسجم والذي يتأثر بالظروف الخارجية والداخلية للدولة. فجراء ما يعرفه النظام الاقتصادي العالمي الجديد من تحوالت متسارعة و ما أصبحت الدولة مطالبة به اتجاه المجتمع من توفير وتلبية حاجياته، انما أضحت الجودة والسرعة في تلبية تلك المتطلبات من والتي لم تعد تتسم فقط بالارتفاع والكثرة، و الشروط الاساسية. و أمام هذه التحديات أصبحت الالمركزية من الاساليب الجديدة والمقاربات الجدية في تدبير شؤون التنمية، خاصة وأن الحكومات المركزية لم تعد قادرة على المواكبة و الاستجابة لمختلف هاته المتطلبات، لذا لجأت أغلب الدول إلى المركزية القرار والانشطة الاقتصادية كأساس لتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية. وقد برزت الجهة كفاعل قادر على تحمل تلك المسؤوليات، وكأداة أساسية لتدبير وتنشيط الاستثمار، وذلك لسببين، يتجلى أولهما فيما أبانت عنه الجهة من قدرة على تحويل مجال ترابي إلى إطار يعمل على حفظ التوازنات الاقتصادية، وتحسين المناخ الاستثماري قصد الرفع من وثيرة استقطاب الاستثمارات الوطنية والاجنبية، كما هو الحال في بعض الدول التي تبنت الجهوية بمفهومها الواسع كالنموذج الاسباني والايطالي.
والسبب الثاني هو ما يفرضه الوضع الاقتصادي الراهن المتسم بالتنافسية الشديدة والذي أصبح معه الفاعلون الاستثماريون يتخذون ق ار ارتهم ومباد ارتهم الاستثمارية ليس بناءا على الفرص المتاحة التي تقدمها الدول، نما تعدى الامر إلى الجهات المكونة وا للدولة، ومدى الاختيارات والمزايا التي تقدمها جهة على حساب جهة أو حتى دولة أخرى. فالاستثمار أضحى من أهم اآلليات الاساسية لتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية، ومن الادوات الناجعة والفعالة لتشجيع وتنشيط المجال الاقتصادي، وذلك لما يفرضه التزايد السكاني الذي يشهده العالم، والضغوط الاقتصادية والاجتماعية، ومحاربة البطالة، وتوفير الخدمات الصحية، والسعي وراء التنمية المستدامة بجميع جوانبها.
الامر الذي أدى بالدول إلى زيادة الاستثمارات وخلق المزيد من مناصب الشغل، بالاضافة إلى الحاجة إلى ضخ قدر هائل من رؤوس الامولا من مختلف المصادر. ووعيا بجدوى الاستثمار، تحاول العديد من هذه الدول جذبه، وذلك من خلال اتباع سياسات اقتصادية مناسبة، واستخدام العديد من الحوافز والامتيا ازت المالية لدفع وتطوير المناخ الاستثماري بها. ونظرا لأهمية الجهة في تحقيق التنمية عبر أهم لأية وهي الاستثمار، فالمغرب أولى اهتماما خاصا بتشجيع الاستثمار العمومي والخاص، واللذان تجمعهما عالقة ترابط. فالاستثمار العمومي يعد القاطرة الاقتصادية التي من خلالها يمكن جذب الاستثمارات الخاصة الوطنية والاجنبية.
كما أن لالستثمار العمومي القدرة على الحد من الاختالالت المجالية والقطاعية داخل البلد، عن طريق إقامة المشاريع الكبرى كالبنيات التحتية الالزمة لالستثمار من موانئ ومطا ارت وطرق، بالاضافة إلى توفير اليد العالمة المؤهلة من خلال إنشاء مؤسسات التكوين المهني في التخصصات التي تتماشى مع نوعية الاستثمارات والخصوصيات الطبيعية والاقتصادية الخاصة بالجهة، مع توفير البيئة المناسبة للمستثمرين والستثماراتهم، فضال عن التدخالت الاخرى للدولة، وأهمها التقطيع الجهوي الذي بدوره يتحكم في توزيع الاستثمارات بشكل مباشر. غير أن التفاوتات المجالية والفوارق الجهوية التي يعيشها المغرب بين جهاته، شكلت عائقا أمام كل وارث تاريخي أفرزه الاستعمار وانما هي ت اركم سياساته التنموية، وهي اختالالت وفوارق ليست وليدة اليوم عبر نهجه سياسة استنزافية لخيرات البالد، والتي نتجت عنها تقسيم المغرب إلى مناطق تمركزت فيها الاستثمارات العامة والخاصة، وتعززت فيها الانشطة الاقتصادية والثروة داخلها، ومناطق كانت والزالت غير متوفرة على أبسط الامكانيات الاقتصادية والاجتماعية.
وبمنطق التحكم والهيمنة، ووعيا منها بأهميتها وظفت السلطات الفرنسية الجهة، كأداة فعالة في تنفيذ مخططها الاستعماري الذي كان يصبو إلى استغالل موارد البالد وثرواتها المعدنية والفالحية، نظرالقدرة الجهة على إحداث متغي ارت في بنية الدولة سواء على المستوى السياسي أو الاقتصادي وكذا الاجتماعي. فسلطة الحماية عملت على توظيف الاطار الجهوي كأساس لتقسيم الت ارب الوطني المغربي إلى جهات عسكرية، وأخرى مدنية من أجل التحكم فيه وضبطه حتى يتسنى لها إحكام السيطرة واستغالل المناطق الغنية باستنزاف ثروات قامة أنشطة اقتصادية بها تخدم أطماعها الاستعمارية. ها الطبيعية وا وهذا الوضع، جعل المغرب بعد الاستقالل مباشرة يجد نفسه أمام إرث استعماري ثقيل، تجلى في وجود تنظيم مجالي يعرف تناقضات وتفاوتات جهوية حادة، هذا بالاضافة إلى ما واجه الدولة المغر بية من تحديات كدولة فتية حديثة العهد بالاستقالل، تحدياث تمثلت في ضرورة إرساء بنيات إدارية تقوم على مؤسسات قوية تعمل على تسيير دواليب الدولة، والمحافظة على الهوية المغربية، وخلق سياسة تنمو ية تهم المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. الامر الذي أعطى لمسلأة الاختالالت والفوارق الجهوية، أولوية خاصة في السياسات المغربية في المجال الاقتصادي والاستثماري، والتي ارهنت على تحقيق نوع من التوازن بين مناطق المملكة عن طريق توزيع الاستثما ارت العمومية، كالثروات والخدمات العمومية بطريقة عادلة للحد من مخلفات الاستعمار. وقد اتخذت هذه الجهود عدة أشكال كعدم تركيز التجهيز ات العمومية في جهة معينة، ومحاولة تشجيع الاستثمار في المناطق الضعيفة اقتصاديا من خلال القوانين الاستثمارية.
وفي هذا الصدد بادر المغرب إلى سن نصوص قانونية ذات محتوى عام تتعلق بتحفيز وتشجيع الاستثمار، حيث تعد سنة 1958 تاريخ بدء العمل بأول قانون استثماري، والذي يعتبر أداة رئيسية في سياسة الاستقالل الوطني، بحيث هدف إلى تشجيع الرأسمال الوطني للمساهمة في الاستثمار وضمان السيادة الوطنية على الانشطة الاستراتيجية، وبالخصوص على القطاعات ذات الاولوية، وفي مقدمتها الصناعات الاساسية كالصناعة الثقيلة والكيماوية، وصناعة السفن، والصناعات التحويلية للمواد الاولية المحلية، والصناعات الاستبدالية لالستيراد كالنسيج والصناعات الغذائية. و قد تطرق قانون (1958 )الاستثماري إلشكالية الفوارق الاقتصادية والاجتماعية بين الجهات بشكل صريح، حيث عمل على تشجيع التوزيع الجغرافي لالستثمار بتحديد مناطق صناعية تستفيد المقاوالت المستثمرة فيها من إعفاءات كلية أو جزئية. غير أن الانهيار الكبير لالستثمار بعد الاستقالل أدى إلى إفشال هذه المجهودات. ومع تبني الحكومة لسياسة ليبرالية تعتمد على محاولة جذب رؤوس الامولا الاجنبية، مع إقحام المستثمرين المحليين ضمن الاستثما ارت الاجنبية، فقد تم إصدار قانون استثماري جديد سنة 1960 تميز بتحول كبير فيما يخص التوجهات الاستثمارية.
وبالرغم من حذو هذا القانون حذو سابقه في تشجيع التوزيع الجغرافي لالستثمار بتنصيصه على منح مكافأة للتجهيز بنسبة % 15 من المبالغ المستثمرة خارج 2 منطقة الدار البيضاء، و % 20 بمنطقة طنجة.الاأنه لم يستطع القضاء على تمركز الاستثمارات، حيث بقيت الدار البيضاء- المحمدية تستحوذ على أكبر عدد من المشاريع الاستثمارية، بحوالي 782 مشروع في الفترة الممتدة بين 1960 و1971 ،مقابل 562 لباقي المناطق الاخرى، و 102 لمنطقة 3 طنجة. فمحاولة قانون 1958 و قانون 1960 التنصيص على إجراءات وتدابير تهدف إلى تشجيع عدم تمركز الاستثما ارت، لم تتوفق في معالجة إشكالية الفوارق الجهوية، و لم تجسد البعد الجهوي كمقاربة ر ئيسية في تدبير وتشجيع الاستثمار. بل أُعطيت الاهمية للبعد الاقليمي في تنفيذ السياسات التنموية والمخططات الاقتصادية والاجتماعية للدولة. فالاقليم تم اعتماده كوحدة إدارية وكتنظيم ترابي قام المشرع بتعزيز مكانته كجماعة ترابية، وبوضع إطار قانوني ينظم مؤسساته، ويحدد الاختصاصات المنوطة به 4 بموجب ظهير 12 شتنبر 1963.
وفي إطار التأسيس لمقاربة استثمارية جديدة تحقق الاقالع الاقتصادي، تم سن سياسة التدبير القطاعي سنة 1973 من خلال قانون تشجيع الاستثما ارت في مجالات الصناعة والسياحة والصناعة التقليدية والقطاع المعدني والبحري. 5 ومن أهم ما ركز عليه هذا القانو ن، هو التخفيف من تمركز الانشطة الاقتصادية في منطقة واحدة، وذلك بتنويع الحوافز والمزايا حسب المناطق المستثمر فيها، حيث حظيت المناطق المهمشة بالنصيب الاوفر من الامتيازات والحوافز. وبالاضافة إلى ذلك عمد قانون 1973 إلى الربط بين الاستفادة من امتيازاته بمغربة الرأسمال كشرط أولي، وقد هدف المشرع المغربي من ذلك الاعتماد على المصادر الوطنية، وبالتالي الحد من رقابة العنصر الاجنبي على المشاريع الاقتصادية الوطنية.
ونتيجة للظروف الاقتصادية والسياسية التي عرفها المغرب منذ بداية الثمانينات، خاصة سنة 1983 تاريخ بداية العمل ببرنامج التقويم الهيكلي المفروض من طرف صندوق النقد الدولي، والذي كان عادة النظر في تسيير المؤسسات العمومية، و يهدف إلى الحد من الطلب الداخلي على الاستهالك، وا الحد من الحماية الجمركية، خاصة بالنسبة للمواد الاولية، فقد عمل المغرب على تغيير اتجاه سياسة الاستثمار خاصة فيما يتعلق بالاستثمار الاجنبي، وذلك بإصدار مدونة الاستثمار لسنة 1983 والتي اتسمت بنوع من الوضوح في الاختيارات المتبعة، عبر الرفع من المزايا الاستثمارية، مع تكريس الاتجاه الليبرالي. غير أن مقاربة هذه المدونة للحد من ظاهرة تمركز الاستثمارات، لم تختلف عن سابقاتها مع بعض التغيير الطفيف، إذ قام المشرع بتمييز أربع مناطق بتراب المملكة تتفاوت درجة الامتيازات والاعفاءات بها من منطقة لأخرى، وذلك حسب مستوى التنمية الصناعية الجهوية والاهداف المسطرة للنهوض بها.
فرغم تلك الاجراءات والتدابير بقي القضاء على التمركز الاقتصادي خاصة الصناعي منه جد محدود، حيث استمرت المنطقة الوسطى على رأس القائمة باستحواذها على 60 % من الانتاج الصناعي. إن تجربة قوانين الاستثمار التي عرفها المغرب منذ الاستقالل، وبالرغم من كل الحوافز المتضمنة بها لم تؤثر بالشكل المطلوب في التوزيع الجغرافي لالستثمارات وفي الفاعلين الاقتصاديين المحليين أو الجهويين، إذ أنها لم تساهم في تحريك الرأسمال الخاص الوطني، بالاضافة إلى ما تميزت به القو انين من الطابع التجزيئي جعل بعض القطاعات أقل استفادة من الاخرى.