تعتبر الأسرة الخلية والمؤسسة الأولى في بناء المجتمع، التي أدت إليها الطبيعة البشرية النازعة إلى الاجتماع ، فهي النواة الأساسية لأي مجتمع ، مهما اختلفت الأوضاع والظروف من مجتمع إلى آخر . والجدير بالتأكيد أنه ليس ثمة أمر اجتماعي حظي في القران الكريم بما حظيت به الأسرة بالأخص ، من تشريع كلي متكالم يحوم على جميع تفاصيلها وأبعادها ، على غير المعهود من تنزلات الوحي التي تقتصر في الغالب على تقرير الكليات والقواعد العامة ، لتترك المجال بعد ذلك لتفصيلات السنة النبوية وبياناتها ... ما عدا ما تعلق بالأسرة، فلا يكاد القران الكريم يسنح للسنة الشارحة شيئا كثيرا، وهذا راجع إلى طبيعة هذه الخلية الإنسانية في المجتمع . تحدث القران الكريم عن بداية خلق الكون، وتحدث عن خلق الإنسان ذكرا وأنثى، وتحدث عن التزاوج وتكوين الأسر والقبائل والشعوب. وتحدث عن التكوين النفسي للرجل والمرأة وعن المشاعر المتبادلة بينهما، والقيم التي ينبغي أن تحكم هذه العلاقة .
لذلك أراد الشارع الحكيم، دونما تعطيل لسنة التطور، أن يشرع للأسرة أصولا وقواعد تمنعها من العواصف والقواصف التي قد تقذف بها الأهواء وشتى المؤثرات وسلاسل التطور ودواعي التغيير عبر الأحقاب؛ بحيث يكون حراكها في إطار من المبادئ والمثل والقيم الأساسية التي لاتتبدل فيها بحال أبدا، ويكون الالتزام بها تعبدا، بحيث يقر أو يستقر ثابتا. وماهو ثابت بالنص تشريعا وبالقران تفصيلا غير قابل للتغيير، ولا يكون مطلقا موضوع اجتهاد فقهي. اللهم إلا اجتهاد الفهم والإدراك والتطبيق . ذلك أن ما يقصده الشارع الحكيم سبحانه، تجاه الخلية الأساسية الأولى للمجتمع بمنة النص الصريح على الحكم فيها دون اشتباه أو غموض أو تعقيد أو إشكال، في ظل المجتمع الإسلامي الذي تغييه المصلحة العامة هو وقايتها من عواصف الأهواء البشرية المتذبذبة على اختلافها .
وإذا كانت النظريات الفلسفية الحداثية قد سلكت مسالك خبط عشواء في تحديد علاقة الرجل بالمرأة، بعيدا عن مقتضيات الفطرة التي فطر الله عليها كلا منهما، وبعيدا عن متطلبات التكوين الأسري الذي يمثل الوحدة الأساسية في بناء أي مجتمع بشري، فان نظريات ما بعد الحداثة من بنيوية وتفكيكية وعدمية وتأويلية وغيرها، قد أعادت بناء مفهوم الزوجية في الحياة البشرية وأعادت تعريف الأسرة بصورة تتجاوز فيها متطلبات البقاء والتواصل البشري، مما يهدد صورة ذلك الكيان الأسري الذي عرفته البشرية على مر العصور، منبعا لكل القيم الفاضلة . فلقد كانت الأسرة كما أرادها الله منذ بدء الخلق، قيمة في حد ذاتها، تختزن أرفع القيم وأزكاها، حين خلق الله سبحانه من النفس الإنسانية الأولى زوجها، ليسكن اليها، وجعل قيم البر، والإحسان،والقول الكريم،وخفض الجناح من الرحمة، أسس العلاقة بين الأبناء والوالدين . وحين يبدأ تكوين الأسرة، من لقاء رجل وامرأة، تأخذ قيم الرجولة والأنوثة بالتحقق من هذا اللقاء، فللرجولة في الأسرة قيمها :
قيم العناية والرعاية، وقيم القوامة والمسؤولية، وقيم القوة والمروءة، قيم كامنة في شخصية الرجل لا تأخذ حظها من النمو والظهور والاكتمال إلا بلقاء الرجل بالمرأة، في بيت الزوجية وفي رحم الكيان الأسري. فهذا الرجل تكتمل عناصر الرجولة في شخصيته عندما يمر بمراحل التكوين الأسري كلها؛ فيكون ابنا لتنمو قيم البنوة في شخصيته، ويكون كذلك عما وخالا وجدا، فهل ثمة مكان لتنمو قيم الرجولة هذه الا في داخل الأسرة الصغيرة، والأسرة الممتدة . وكذلك هي أنوثة المرأة، منبع لقيم عظيمة الشأن، فهذه الأنوثة مستودع للقيم الجمالية والأخلاقية والاجتماعية، قيم جمالية مادية ومعنوية، وقيم أخلاقية تفيض بالرحمة والحنان، وقيم اجتماعية تفيض بالرعاية والحماية والتدبير . ولا تكتمل عناصر الأنوثة في شخصية المرأة حتى تمر في مراحل التكوين الأسري كلها، فتكون ابنة وتكون أختا، وتكون أما، وتكون عمة وخالة وجدة، فكيف تكتمل عناصر الأنوثة إذا لم تكن في داخل الأسرة الصغيرة والأسرة الممتدة . وكل عنصر في الأسرة مصدر عظيم للقيم، فالأنوثة قيمة، والرجولة قيمة، والبنوة قيمة، والعمومة قيمة، والخؤولة قيمة، وهكذا .
ولقد أحاط الإسلام قدسية البناء الأسري في منهاجه التربوي الاجتماعي بما لا نظير له، فضلا عن خصائص التشريع االاهي الذي لا استدراك عليه أبدا؛ لشموليته وأبعاده ومراميه. أحاط بسياج ذهبي مكين من الرواسي العقائدية والروحية في النفوس، بحيث تنهض هي ذاتها بتلقائية إيمانية إلى حمايتها والدفاع عنها . ونالت الأسرة كذلك اهتمام علماء الاجتماع والاقتصاد والتربية والسياسة والقانون، نتيجة تغلغل بعض الأنماط السلوكية التي أثرت نسبيا في تماسكها من خلال الأزمة التي أصابت العلاقات الداخلية، وإعادة توزيع بعض الأدوار بين أفرادها، فضلا عن تغيير اتجاهها نحو بعض العادات المستوردة . ومن المتفق عليه،أن الأسرة العربية عموما والمغربية على الخصوص قد لعبت وما تزال دورها البنيوي في تشكيل المجتمع، وأن الروابط العائلية قد تميزت على الدوام بأهمية خاصة تتأسس وتحكمها في الآن نفسه سلطة الثقافة بنسبتيها وخصوصياتها كنظام لقيم المجتمع .
ولأن القانون هو واحد من مكونات هذه الثقافة أو من تجلياتها، فانه يتحمل اليوم مسؤولية تاريخية حاسمة وجسيمة، فهو مطالب بأن يقود قاطرة التنمية والتقدم والتحديث في المجتمع، وهذا لن يتحقق إلا بإعادة تأهيل الأسرة وفقا لما يحققه من غايات، إذ ليس بإمكان المجتمع الانخراط في عالم التطور والحداثة بمثله وقيمه الإسلامية إذا كان نظامه القانوني يتخلله عدد من التشريعات تتجه بالأسرة وجهة معاكسة لهذا الطموح . إن تنقيح القوانين ومراجعتها في أفق ملاءمتها مع مختلف التطورات المتسارعة التي يعرفها المجتمع أضحت ضرورة ملحة، ويلي أكثر إلحاحا في المجال أهمية بالغة؛ فهو المعول عليه لضبط التطورات التي تعرفها الأسرة المغربية على إيقاع الهوية والخصوصية، علما بأن قانون الأسرة هو أبرز المجالات ترجمة للهوية.
ونظرا للاهتمام البالغ والعناية الفائقة التي يوليها مولانا أمير المؤمنين، أيده الله بنصره المبين لشؤون الأسرة المغربية بشكل عام، وقضايا المرأة والطفل بشكل خاص، فقد أبى جلالته على أن يكون من بين الإصلاحات العميقة التي يقوم بها إصلاح حال الأسرة المغربية . ومن هذا المنطلق فان مدونة الأسرة تمثل لبنة أساسية من لبنات المجتمع الديموقراطي الحداثي الذي حرص على بلورته منذ اعتلائه عرش أسلافه المنعمين. وهكذا فقد جاءت هذه المدونة متكالمة في نصوصها جادة في غاياتها، وجامعة في مرجعيتها. وتبدو أهمية القانون الجديد من خلال سنه لقواعد ترمي الى تنظيم علاقات متميزة بين الرجل والمرأة عبر تحديد مسؤولية كل منهما، وتحقيق مكتسبات عديدة للجميع تتمثل في التكافىء والمساواة في الحقوق والواجبات، وهو ما من شأنه أن يخلق التوازن والاستقامة داخل البيوت والأسرة، هذا التوازن الذي يؤدي في النهاية إلى إنصاف المرأة، وحماية حقوق الأطفال، وصيانة كرامة الرجل.
أما بخصوص مرجعيات هذا القانون فتتمثل في الشريعة الإسلامية، وقواعد القانون الوضعي، ومتطلبات الحداثة فقد اعتمدت مدونة الأسرة على قواعد الشرع التي تكرم المرأة، وتعلي من شأنها، وترفعها إلى مصاف الكرامة والعزة، كما اعتمدت على قواعد القانون سيما قواعد العدل والإنصاف، والقوانين والمواثيق الدولية التي صادق عليها المغرب والتي تهم أساسا مجال حقوق الإنسان بصفة عامة، وحقوق المرأة والطفل بصفة خاصة . ولما كان الفكر البشري ملزم بالتطور والتجديد فقد استوحت المدونة بعض موادها من متطلبات الحداثة مما يجعلها تندرج في إطار مشروع إصلاحي متكالم، ومندمج ضمن مقاربة شمولية هادفة إلى بناء مجتمع حداثي ديمقراطي شالم، والذي تعد الأسرة من أهم مكوناته .
وبهذا المعنى تكون مدونة الأسرة قد جمعت بين قواعد الشريعة الإسلامية، والأصالة المغربية، وقواعد العدل والإنصاف بشكل يوازن بين محاسن وأمجاد الماضي، وبين مزايا الحاضر وتطلعات المستقبل . وقد أطلق على هذه المدونة اسم مدونة الأسرة لأنها تهتم بتنظيم شؤون الأسرة بصفة عامة، وذلك خلافا لاسم مدونة الأحولا الشخصية الملغاة والتي كان يقصد بها مجموعة القواعد التي تخص الحالة والأهلية الفردية للأشخاص وكذا علاقتهم المالية والارثية ... الخ .
ولما كانت مؤسسة الزواج من أقدس المقدسات إلى حد أن وصفها القران الكريم بالميثاق الغليظ قال تعالى {وأخذن منكم ميثاقا غليظا } (الاية /21 سورة النساء). ولما كانت العلاقة الزوجية تبدأ بإبرام الزواج بين الرجل والمرأة، ونظرا للدور الذي تلعبه الأسرة في المجتمع من الناحية الاجتماعية والاقتصادية والتربوية، فان الزواج قد حظي بالاهتمام الكبير ضمن مواد مدونة الأسرة، إذ أحاطته بكثير من الضمانات، ونظمت أحكامه بشكل غير مسبوق . ومن أهم المرتكزات التي أتت بها مدونة الأسرة بهذا الخصوص :
● اعتبار الزواج ميثاق تراضي وترابط شرعي بين رجل وامرأة على وجه الدوام الغاية منه الإحصان والعفاف وإنشاء أسرة مستقرة برعاية الزوجين (. المادة )4 والرضا هو الركن الجوهري لقيام الزواج، إذ لا يتصور زواج عادل وناجح بدون تراضي أطرافه، وتلاقي إرادتهما بنية الارتباط بينهما ارتباطا شرعيا. وهذا المقتضى جاء متطابقا مع مبدأ المساواة، وضمان الحريات الأساسية للإنسان والذي يفترض أن يبرم العقد بين طرفين متكافئين، هما الرجل والمرأة الذين أناط المشرع بهما معا مسؤولية إنشاء الأسرة، ورعاية مصالحها في إطار من التشاور والتوافق، والتفاهم والحوار. ومن مظاهر المساواة أيضا مساواة المرأة بالرجل بالنسبة لسن الزواج بتوحيده في 18 سنة ( . المادة )19
● وفي إطار الحفاظ على رضائية عقد الزواج فقد اشترطت المدونة كقاعدة عامة أن يتم بحضور أطرافه، إلا أنها رفعا للحرج أجازت التوكيل في الزواج على سبيل الاستثناء وبشروط دقيقة أهمها صدور إذن من قاضي الأسرة المكلف بالزواج، وتأشيره على الوكالة، وان تكون هناك صعوبة تحول دون الحضور الشخصي للموكل.(المادة )17
● التأكيد على ضرورة الإشهاد على عقد الزواج حيث اعتبرت المدونة وثيقة عقد الزواج الوسيلة المقبولة لإثباته، كما أجازت استثناء سماع دعوى الزوجية إذا حالت أسباب قاهرة دون توثيق العقد في وقته، وذلك خلال فترة انتقالية لا تتعدى خمس سنوات تحسب ابتداء من تاريخ دخول هذا القانون حيز التنفيذ بغية تصفية الحالات التي تم فيها الزواج بالفاتحة ومن غير أن يقوم أصحابها بتوثيقها لدى عدلين (. المادة )16
● ومن أهم المقتضيات الجديدة لهذا القانون هو إحداث ملف لعقد الزواج يحفظ لدى قسم قضاء 3 الأسرة لمحل إبرام العقد يضم الوثائق الخاصة بالخطيبين والذي يؤشر عليه القاضي المذكور قبل الإذن بتوثيق عقد الزواج، هذا الإذن الذي لم يعد بوسع العدلين تلقي عقد الزواج بدونه . (الفقرة الثانية والثالثة من المادة 65 من مدونة الأسرة ) هذا وقد نص المشرع على تسجيل نص العقد بعد الخطاب عليه في سجل معد لهذا الغرض لدى قسم قضاء الأسرة، وعلى توجيه ملخصه إلى ضابط الحالة المدنية لمحل ولادة الزوجين (أو إلى وكيل الملك لدى ابتدائية الرباط عند الاقتضاء) قصد تضمين بيانات هذا الملخص بهامش رسم ولادة الزوجين حسب التفصيل الوارد في المادة . 68
● وبعد أن أكدت المدونة على استقلال الذمة المالية للزوجين، أجازت لهما في إطار تدبير الأمولا التي ستكتسب أثناء قيام الزوجية الاتفاق على استثمارها وتوزيعها، وتضمين ذلك في وثيقة مستقلة عن عقد الزواج، ولأزمت العدلين أثناء إبرام عقد الزواج إشعار الطرفين بهذه الأحكام.(المادة 49 من مدونة الأسرة)
● جعل القانون الجديد الولاية حقا للمرأة تمارسه الرشيدة حسب اختيارها ومصلحتها.(المادة 24 من المدونة .)
● وفي إطار الاهتمام المتزايد بالمواطنين المغاربة بالخارج فقد كان لمدونة الأسرة أثر ايجابي عليهم، فقد أصبح بإمكانهم أن يبرموا عقود زواجهم وفقا للإجراءات الإدارية المحلية لبلد 4 إقامتهم إذا توافرت الشروط المحددة في المادة 14 ، على أن يعملوا على إيداع نسخ من عقود زواجهم بالمصالح القنصلية المغربية بالخارج، أو إرسال نسخ منها إلى الوزارة المكلفة بالشؤون الخارجية. وقد عمل المشرع المغربي في باب الزواج من هذه المدونة المذكورة على تنظيم مقتضيات الزواج وإجراءاته بشكل دقيق ومستفيض لتفادي الاخلالات التي كانت تحصل في السابق، كالإدلاء ببيانات كاذبة الذي كان يتم في مدونة الأحولا الشخصية سابقا، فتم النص صراحة على الوثائق التي يجب الإدلاء بها لإبرام عقد الزواج، كما تم النص على ضرورة فتح ملف الزواج بكتابة ضبط المحكمة حيث يحفظ بها، وهو يضم جميع أصول الوثائق اللازمة في كل ملف، وذلك بعدما يؤشر على الملف قاضي الأسرة المكلف بالزواج – الذي يعين بقرار لوزير العدل - وهو الذي يأذن للطرفين بتوثيق عقد الزواج –بعد التحقق من توفر الوثائق الإدارية اللازمة (من الناحية الشكلية فقط).
فماهي الإجراءات المسطرية لعقد الزواج في ظل مدونة الأسرة ؟