يعتبر العقد الاخير من القرن العشرين محطة مفصلية في تاريخ الحياة القانونية المغربية لما تميز به من إصدار لقوانين عديدة ، شكلت تلك المؤطرة لميدان المال و الاعمال الحصة الكبرى منها، كما يمكن تصور أن تلك الحقبة كانت مقدمة وأرضية ضرورية بمقدورها استيعاب ما استتبع من قوانين جديدة، منها ما هو تعديل لقوانين سابقة ومنها ما اتسم بطابع الجدة والحداثة .
لقد شكلت مدونة التجارة منعطفا جديدا في الحياة القانونية المغربية على مستوى إعادة صياغة القوانين القديمة ومنطقا ضروريا للتناغم مع مجمل القوانين المؤطرة لميادين الاعمال والمندرجة في ذات التصور تأهيل المغرب ليكون في مصاف الدول المعاصرة من حيث التوفر على ترسانة قانونية حديثة لتأهيل الاقتصاد وجلب الاستثمار. وتعتبر مصطلحات الوقاية والمعالجة والصعوبات والمقاولة جديدة في تعاطي التشريع التجاري المغربي في ميدان الاعمال، فإن الامر لم يقف عند هذا المستوى ذلك أن المضامين القانونية هي أوسع نطاقا وأبلغ دالالت.
يعتبر نظام معالجة صعوبات المقاولة إختيارا تشريعيا لميدان الاعمال يقوم على قاعدة الفصل بين الشخص والمقاولة وهو ما يشكل تتويجا للتحوالت الكبرى التي مر منها القانون التجاري في تعاطيه مع المسلأة الاقتصادية ، إذ تم الانتقال تدريجيا من إقرار قواعد خاصة بالتجار فقط كمخاطبين بأحكامه إلى إختيار آخر تطفو فيه على السطح المقاولة وهو ما يظهر على الاقل من حيث تجاوز تناول إفالس التجار إلى الحديث عن معالجة صعوبات المقاولة إذا بلغ الامر مثال بالقانون المغربي حد الاشارة إلى أصول وخصوم المقاولة بدل الاشارة إلى تنظيم ديون التاجر المتوقف عن الدفع .
نبذة تاريخية:
لقد كان حظ المغرب أن ظل منتظرا مستوردا للقوانين الفرنسية التي نظمت الافالس قاصفا نتائج التحوالت القانونية لهذا البلد، فيعد القانون التجاري في 12 غشت 1913والذي جاء متشبعا بالقانون الفرنسي لسنه 1967 إلى حدود بداية خمسينيات القرن الماضي مع صدور ظهير 10فبراير 1951 الذي أخذ عن القانون الفرنسي لي 8 غشت 1935 وما تم تعديله وتتميمه بمقتضى القوانين 25 فبراير1937 .و14 و 18 يونيو 1938 وقانون 22 فبراير 1944 .لقد كانت هذه التعديالت تروم تسريع وتسهيل المساطر المرتبطة بالافالس قد شكل قانون 21 ي وليوز 2191 الفرنسي ميالد قانون عصري متطور للمساطر الجماعي ة من حيث اعتماده على مقاربة جديدة تقوم التمييز بين الشخص والمقاولة. بما يعينه ذلك من ابتعاد واضح عن اعتماد مجرد المقاربة العقابية فاسحا المجال أمام المقاوالت التي يكون نشاطها قابال الاستمرار قد يعى قانون 1967إلى تنظيم أربع مساطر وهي مسطرة تسوية المقاولة، تصفية أمولا المقاولة، إفالس التاجر وأخيرا تم اعتماد مسطرة خاصة جديدة متمثلة في الوقف المؤقت للمتتابعات التي تهم المقاوالت الكبرى .
وعلى الرغم من التطور النوعي الذي دشنه قانون 1967 من حيث ابتعاده على مجرد التناول القانوني الثرف والضيق للعالقة بين المدين عن الدفع ودائنه واستحضار المقاولة كفاعل أساسي في المعادلة العامة الاقتصادية والاجتماعية ،فإن نتائج هذا القانون كانت صادمة من حيث أنها أدت إلى نتائج غير مشجعة فال الدائنون كان بمقدورهم استرداد ديونهم ولا تم كذلك انقاد عدد مقبول من المقاوالت ،حيث لم تستفد سوى 2 ٪منها وضمنت إستمراريتها ،وهو نفس المعدل الذي سجل أيضا في المغرب بالرغم من عدم وجود إحصائيات رسمية منشورة بهذا الخصوص إذ تنتهي المساطر القضائية في الغالب الاعم إلى التصفية الا تشاوري ة هكذا جاء نظام معالجة صعوبات المقاولة في فرنسا أوسط ثمانينات القرن الماضي في ظل تحوالت كبيرة مر بها المجتمع الفرنسي .
إذ وعلى المستوى الاقتصادي تميزت هذه المرحلة بالانكماش ساهمت فيه تداعيات الازمة البترولية لسنة 1973 بما أدى إلى الارتفاع المهول لعدد المقاوالت المفلسة . لقد اختار القانون الفرنسي القطع النهائي مع نظام الافالس القائم على اعتماد مجرد المقاربة الجزائية الناجمة عن عدم استفاء الدائنين لديونهم،متبنيا نظاما قانونيا جديدا يقوم على قاعدة الوقاية والعالج متقيدا في ذلك من التحوالت القانونية التي عرفها النظام القانوني الامريكي المرتكز على القضاء التشاوري المرتكز على التقريب والمصالحة بين المدين ودائنه ،وهو ما تم من خلال قانون 1984 حول آليات الانذار المبكر وقانون فاتح مارس 1985 المتعلق بالتسوية والتصفية القضائية للمقاولة والمعدل بقانون رقم 94.475 الصادر سنة 1994 الذي أخد به القانون المغربي سنة 1996 بمقتضى الكتاب الخامس من مدونة التجارة مستعصيا به نظام الافالس الذي تم تضمينه في القانون التجاري لسنة 1913 لكن دون أن يصل إلى حد التطابق .
ظل الوضع يراوح مكانه إلى أن صدر قانون 73.17 سنة 2018 القاضي بتغيير وتتميم القانون 15.95 المتعلق بمدونة التجارة وفيما يخص صعوبات المقاولة. وقد جاء هذا التعديل حسب المذكرة التقديمية له كمحطة رئيسية إلقرار مناخ الاعمال محفز وقادر على الرفع من جاذبية بالدنا الاستثمار الذي يعرف تغييرا مستمرا ونموا سريعا يحتم تحين الاطار القانوني المرتبط به من أجل مسايرة النمو الاقتصادي الوطني والدولي والتنافسية التي تفرضها إكراهات العالقات الاقتصادية بين البلدان والتمكين من جدب 4 الاستثمارات أمام المنافسة الحادة بجميع المتداخلين في هذا الميدان.
لا شك أن لكل نظام قانوني فلسفته وأهدافه الخاصة التي سن من أجلها، تختلف باختالف المطامح التي يرمي إلى تحقيقها كل واحد منهما، والاهداف التي تسمو نظام الاجراءات الجماعية ثالث؛ هي أولا حماية المقاولة وإنقاذها من مخاطر الامراض الاقتصادية،ثم ثانيا المحافظة على مناصب الشغل وأخيرا تصفية الخصوم الذي يبقى من باب تحصيل حاصل، غير أن تحقيق هذه الغاية يفرض المشاركة الجدية لمختلف الفاعلين في هذه المساطر من قضاء تجاري أولا ثم الاجهزة الساهرة على تسيير المسطرة مرورا برئيس المقاولة ذاته، والاجراء الخلية الحية بالمقاولة وأخيرا الدائنين الذين يعتبرون القلب النابض وقطب الرحى في هذه المساطر.فإشراك الدائن أو بالاحرى إعطائه حرية المبادرة في تحريك .
المساطر الجماعية، يعد اعترافا لهذا الاخير بدوره الاساسي والحاسم في إنجاحها، ذلك أن هذه الاخيرة مهما أبدع في سنها من الناحية النظرية، تبقى قاصرة عن تحقيق أهدافها في الواقع. فالمساطر الجماعية إذن، هي أداة أو وسيلة مفرغة من محتواها دون إشراك فعلي للدائنين في جميع مراحلها، خاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار طبيعة المساطر من حيت إرادة الاطراف المعنية بها، ففي الوقت الذي تكون فيه هذه المساطر إرادية بالنسبة للمقاولة، فإنها تكون كذلك أيضا بالنسبة للدائنين ، وذلك بحسب الوضعية المالية للمقاولة. وتأسيسا على ذلك لا يمكن الاستفادة من مزايا أية مسطرة، في غياب الشروط الموضوعية المبررة لها، ويعد التوقف عن الاداء الشرط الجوهري الذي يفصل بينها، إذ بتوفر هذا الشرط ينتقل الوضع من المساطر الارادية إلى المساطر الالزامية، والتي تتكفل المحكمة أمر سيرها.
فخالفا لما هو جاري به العمل في مساطر الوقاية الخالصة، السيما منها مسطرة الوقاية الخارجية ومسطرة المصالحة، وما هو معمول به أيضا في مسطرة الانقاذ، التي حدد فيها المشرع جهات خاصة تملك وحدها حق تحريك وتفعيل هذه المساطر، وذلك لتعلق هذه الاخيرة بإرادة المقاولة المعنية بها بالدرجة الاولى، نجد المشرع ذهب منحى آخر في إطار المساطر القضائية للمعالجة الخالصة، بكونها مسطرة أصبحت تتجاوز أطراف النزاع حول الدائنية، وبالتالي ترتفع في جانب منها عن منطق الخصومة، مما يؤدي تعطيل جزئي للقاعدة المسطرية المتمثلة في الصفة والمصلحة في رفع الدعوى ولعل من مبررات هذا التوجه، أصبح مفهوم التوقف عن الدفع تقنية للمحافظة على معادلة تحكم ميدان الاعمال، تتجسد عناصرها في الثقة والائتمان، الثقة التي يجب أن تتوفر للغير حتى يمنح الائتمان للتاجر، فهذا الاخير محتاج له عند افتقاده المبالغ الضرورية إلبرام معامالته التي يفرضها استغالله التجاري، ولا يقدم الغير على هذه المغامرةالاإذا توفرت له الضمانات القوية الستيفاء ديونه عند حلول ميعاد استحقاقها، خاصة إذا أخدنا بعين الاعتبار أن التاجر لا يطمح إلى الحصول على ديونه كالمة فقط، وإنما يرغب في أن يستوفيها في معاد الاستحقاق.
إذ أن التاجر يكون دائما دائنا ومدينا في نفس الوقت، ومن البديهي إذن أن هذا الاخير لن يتمكن من الوفاء بالتزاماتهالاإذا قام مدينه بالسداد في معاد الاستحقاق. انطالقا من هذه المعادلة المتشابكة التي تطبع مجال الاعمال، خول المشرع للدائن حق طلب فتح المساطر الجماعية في مواجهة مدينه، كلما ثبت توقف هذا الاخير عن الدفع، وذلك تدعيما للثقة وحفاظا على الائتمان الذي يعد أحد مرتكزات العمل التجاري كما تقدم. غير أن الدائن لا يمكنه فتح المسطرة بهذه السهولة، أي بمجرد تقديم طلب إلى المحكمة تستجيب له هذه الاخيرة، فكثيرة هي الحالات التي يتقدم فيها الدائن بطلب إلى المحكمة يرمي من خلاله إلى فتح مسطرة المعالجة في مواجهة مدنيه لتوقف هذا الاخير عن الدفع، ولا يكتب لهذا الطلب النجاح، حيث يفرض عليه أن يثبت واقعة التوقف عن الدفع في حق مدينه، عن طريق الاستعالم والتقصي الذاتي عن الوضعية المالية للمقاولة.
ومن تم تبرير فتح المسطرة في مواجهتها وهو أمر نكاد التصريح باستحالة تحقيقه من ، طرف بعض الدائنين، خاصة إثبات التوقف عن الدفع بمفهومه الاقتصادي، الذي غالبا ما يكون مآل طلباتهم الرفض والمتمعن في مسلأة الاطراف التي يحق لها تقديم طلب أو فتح المسطرة، سيجد بالاضافة إلى الدائن المحكمة نفسها، وهو ما يثير الكثير من الاستغراب، إذ أنه في الكثير من الحالات تبقى المحكمة كأكبر حاجز وعائق أمام الدائن عند طلبه فتح المسطرة، وذلك بالتشدد في إثباته لواقعة التوقف عن الدفع؛ فليس من المنطقي أنه من يملك الكل يملك الجزء فقد تكون مبادرة الدائن عند طلبه لفتح المسطرة جاءت في الوقت المناسب، وبعرقلة المحكمة لهذا الطلب يمكن أن يزيد في تأزيم الوضع وتصبح مختلة بشكل لا رجعة فيه، بعدما كانت قابلة للتقويم والعالج. وعموما تبقى مبادرات الدائن بتفعيل المسطرة، خاصة إذا ما نظرنا إليها من زاوية الادوار الجديدة التي أصبح يلعبها القضاء التجاري في مساطر صعوبات المقاولة ، من بداية المسطرة عبر المبادرة الذاتية حتى نهايتها، يمكن القول إن طلبات الدائنين في هذه الحالة تعتبر بمثابة مؤشرات إنذار للمحكمة باتخاذ الالزم في الوقت المبكر قبل استفحال الداء في عروق المقاولة وإصابة باقي الاطراف المرتبطة بها، كما تشكل أداة مهمة للتيسير عليها الفتح التلقائي للمسطرة. ومن بين أهم المقتضيات التي تهم مساطر صعوبات المقاولة تلك المتعلقة بمسطرة التصفية القضائية للمقاولة وما ترتب عنها من تفويت جزء أو كل وحدات الانتاج التابعة للمقاولة، نظرا لما تطرحه من إشكالات قانونية من أهمية لما كان سواء على المستوى العملي أو القانوني .
إذن فالاشكال المحوري لموضوع دراستنا يتمركز بالاساس حول مسطرة التصفية القضائية لمعالجة صعوبات المقاولة على ضوء العمل القضائي المغربي ، و مدى تطبيق النصوص القانونية الواردة في الكتاب الخامس من مدونة التجارة خاصة القسم الخاص بمسطرة التصفية القضائية و كذا الاجتهادات القضائية المؤطرة لهذا الاشكال .
و كمحاولة منا الاجابة على هذا الاشكال إرتئينا معالجة موضوعنا من خلال محورين أساسيين : بحيث تناولنا في الفصل الاول : الاحكام القضائية المتعلقة بالتصفية القضائية و الذي قسمناه بدوره إلى مبحثين، المبحث الاول : الاحكام القضائية الغير منشورة و المبحث الثاني : الاحكام القضائية المنشورة، أما فيما يخص الفصل الثاني : القرارات القضائية المتعلقة بالتصفية القضائية و الذي قسمناه بدوره إلى مبحثين:
المبحث الاول : القرارات القضائية الغير منشورة
المبحث الثاني : القرارات القضائية المنشورة .