مؤلف حجية الأحكام الجنائية الأجنبية أمام المحاكم الوطنية
كتب في القانون المغربي

مقدمة
الحمـد لله الـذي جنبنـا الشـبهات، وعصمنـا مـن الحيـرة، وجعـل بيننـا وبيـن ّـن فـي أعيننـا الانصـاف، وأذاقنـا ً، وزي ً، وبيننـا وبيـن الصـدق سـببا المعرفـة نسـبا حــاوة التقــوى، وأودع صدورنــا بــرد اليقيــن، والصــاة والســام علــى ســيدنا محمـد، الرحمـة المهـداة والسـراج المنيـر، وعلـى آلـه وصحبـه ومـن سـار علـى دربـه إلـى يـوم الديـن، أمـا بعـد: ً، ومـن فـإن ظاهـرة الاجـرام مـن أشـد ظواهـر السـلوك الانسـاني تعقيـدا أخطــر مــا يهــدد أمــن وســامة المجتمعــات ومصالــح الافــراد، ومــن هنــا كان اهتمـام الـدول بالتصـدي لهـا بـكل السـبل والوسـائل، مسـتعينة علـى ذلـك بالعلـوم الانسـانية والنفسـية والاجتماعيـة والقانونيـة وغيرهـا، مـن أجـل السـيطرة علـى .
هــذه الظاهــرة وقـد شـهد العالـم تطـ ورا ملموسـ ا علـ ى المسـ توى التقنـ ي والصناعـ ي، فتطـورت معـه أشـكال ارتـكاب الجرائـم، حيـث لـم يعـد الحديـث عـن الجريمـة بمعناهـ ا التقليـدي، وإنم ا أصبح ت تكتس ي طابع ا منظم ا ودوليــا، وانعكســت نتائجهــا علــى المجتمــع الدولــي بصفــة عامــة، وعلــى مجتمــع المحلــي بصفــة خاصـة. وقـد فرضـت الجريمـة المنظمـة عبـر الوطنيـة علـى الـدول عالقـات تعـاون فيمــا بينهــا، كانــت أبــرز صورهــا التعــاون القضائــي الدولــي، الــذي يتطلــب عمالــه تجــاوز العثــرات الحائلــة دون تحقيــق ســبل ووســائل مكافحــة الجريمــة للأهـداف المرجـوة منهـا، ومـن أمثلـة تلـك العثـرات اختـاف التشـريعات الجنائية والدســتورية، وتبايــن الانظمــة القضائيــة مــن دولــة لأخــرى، وكذلــك التمســك بالسـيادة المطلقـة للـدول، ولتحقيـق ذلـك دأبـت الـدول إلـى إبـرام معاهـدات فـي هـذا الخصـوص فيمـا بينهـا، أو فـي صـورة معاهـدات جماعيـة، وسـعت معظـم الـدول إلـى تعديـل تشـريعاتها الداخليـة لتتماشـى مـع هـذه المعاهـدات. وقـد اسـتخدم مصطلـح »التعـاون الدولـي فـي مجـال مكافحـة الجريمـة« فـي العديـد م ن الاتفاقي ات، كمـا فـي اتفاقيـة شـنجن »Schengen ”فـي 19 يونيـو عـام 1990م، وفـي اتفاقيـة الاتحـاد الاوروبـي المبرمـة فـي 2 فبرايـر 1992م، وفــي قــرار مجلــس الامــن الصــادر فــي 26 مايــو عــام 1993م، الــذي أنشــأ محكمـة جنائيـة دوليـة خاصـة بالجرائـم التـي ارتكبـت فـي يوغسـافيا، وكذلـك فــي قــرار مجلــس الامــن رقــم 955 الصــادر فــي 8 نوفمبــر عــام 1994م الـذي أنشـأ محكمـة دوليـة خاصـة بروانـدا، كمـا أن اتفاقيـة رومـا الموقعـة فـي 17 يوليـو 1998م، والخاصـة بإنشـاء المحكمـة الجنائيـة الدوليـة، جـاء الفصـل التاسـع منهـا تحـت عنـوان »التعـاون الدولـي والمسـاعدة القضائيـة« وقــد أدى هــذا الانفتــاح العالمــي الاجتماعــي والاقتصــادي إلــى لفــت النظــر إلــى ضــرورة اهتمــام المشــرع الوطنــي بالقواعــد الدوليــة فــي ســبيل مكافحـة الظاهـرة الاجراميـة الدوليـة،
وبصفـة خاصـة الجرائـم المنظمـة والنشـاط الاجرامـي الارهاب ي، غيرـ أن غالبيـة لا دول تتعامـل مـع التعـاون الدولـي فـي هـذا المجـال بحـذر ودق ة، وأحيان ا بريب ة وش ك، ذلـك أن هـذا التعـاون فيمـا بينهـا يتـم فـي كثيـر مـن الاحيـان فـي غيبـة نصـوص قانونيـة داخليـة تنظمـه، أو فـي نطـاق اتفاقيـات دوليـة وثنائيـة، قـد يأتـي بصـورة عرضيـة مـن جانـب القضـاء الوطنـي. وتحقيقـا لمـا تقـدم فقـد بذلـت جهود، وأنشـئت قواعد قانونية تختص بالمسـائل الجنائيـة الدوليـة، تس عى لرسـم صـور للتعـاون الدولـي لمكافحـة الجريمـة، سـواء عل ى الصعيد التشريعي، أو علــى الصعيــد القضائــي، وتحــدد صــوره، لبلــوغ الاعتـراف بحجيـة الاحـكام الجنائيـة الاجنبيـة، بعـد أن كانـت كل دولـة لا تعتـرفالابأحـكام قانونهـا الجنائـي الوطنـي. ولمــا كان الواقــع يؤكــد أن الاحــكام الغيابيــة لا تغنــي عــن الاحــكام الحضوري ة، ولا تحق ق الغايةـ م ن العقـاب، إذا ل م تطـل العقوبـة المحكـوم عليـه ً م ا لـم يقتـرن ً، وأن الحكمــ بالعقـاب ليـس لـه معنـى، وأنهـ لا يجـدي نفع ا فعـلا بالتنفيــذ الفعلــي، لأن الغايــة مــن العقوبــات لا تتحقــقالابتنفيذهــا، فقــد يحــدث ً فــي دولــة أجنبيــة، وتحــول شــروط أن يكــون المحكــوم عليــه مواطنــا هاربــا التس ليم دون إمكانيــة تســليمه، وبالتالــي يتعــذر تنفيــذ، كمــا فــي حالــة الحكــم الصـادر بعقوبـة مصـادرة لأمـولا المحكـوم عليـه التـي توجـد فـي دولـة غيـر دولـة الادانـة، حيـث تظـل الجريمـة فـي هـذه الحـالات وأمثالهـا بـا عقـاب، ممـا العدالــة يــؤدي إلــى تــأذ ّـل العدالـة، خاصـة فـي شـقها الدولـي، كان البـد مـن اعتـراف ُفع ولكـي ت مختلـف الـدول بالاحـكام الجنائيـة الاجنبيـة، ذلـك أن عـدم الاعتـراف بهـا سـيؤدي إلـى الاخـال باسـتقرار المعامـات الدوليـة وسـهولتها وتطورهـا، وكذلـك مـن شـأن عدــم اعترــاف الـدول بالاح كام الجنائيةــ الاجنبي ة أن يـ ؤدي إل ى إعــادة طـرح الدعـوى مـن جديـد، كمـا أنـه يخلـق جـوا مـن روح عـدم الثقـة فـي أحـكام القضاـء، خاص ة ذات الطابعـ الدوليـ، طالم ا أن نفاذه ا فـي لا دول الاجنبيـة أمـر غيـر مضمـون
أهداف الدراسة:
تتمثل أهداف هذه الدراسة في ما يلي:
1 -التأكي د عل ى ضـرورة التـزام كافـة الـدول ببـذل كل مـا فـي وسـعها لمكافحــة الظاهــرة الاجراميــة، ويتأتــى ذلــك عــن طريــق التعــاون فيمــا بينهــا، والـذي يعـد مـن أهـم صـوره الاعتـراف بالقيمـة الدولية للأحـكام الجنائيـة الدولية.
2 -الحـث علـى ضـرورة تطويـر التشـريع الليبـي فـي مجـال الاعتـراف بحجيــة الاحــكام الجنائيــة الاجنبيــة، مــن خــال تقنيــن قواعــد توضــح ذلــك، والاقتـداء بالاسـاليب التـي نهجتهـا الـدول المتقدمـة فـي هـذا المجـال.
3 -السـعي إلـى تحقيـق العدالـة الجنائيـة، وذلـك بمالحقـة الجنـاة وحرمانهم مـن العثـور علـى مـأوى آمـن فـي أي مـكان خـارج دولـة الحكـم، ويتحقـق ذلـك بتنفيـذ مـا صـدر ضدهـم مـن أحـكام فـي الخـارج، كلمـا أمكـن ذلـك.
4 -مـن الناحيـة العمليـة قـد تظهـر عوائـق سياسـية واجتماعيـة وثقافيـة، تحـول دون الاعتـراف بأحـكام جنائيـة صـادرة خـارج إقليـم الدولـة، مما يسـتدعي وضـع حلـول لذلـك، تتجـاوز هـذه العقبـات، وتحسـم الخـاف بشـأنها، وفـي هـذا الاطـار تسـعى هـذه الدراسـة إلـى بيانهـا واقتـراح حلـول بشـأنها.
5-إبرـاز الجه ود الدوليـة والاقليميـة المبذولـة، وبيـان أهميتهـا فـي الحـث علــى الاعتــراف بحجيــة الحكــم الجنائــي الاجنبــي، باعتبــاره أهــم صــورة مــن صـور التعـاون الدولـي. ً محاولــة وضــع بعــض التوصيــات التــي يمكــن بدورهــا أن
6 -وأخيــرا تسـهم فـي إكمـال النقـص الموجـود فـي التشـريعات الداخليـة، وجبـر الخلـل فـي بعضهـا، ومحاولـة وضـع خطـة تشـريعية لمكافحـة الجرائـم المنظمـة، وذلـك عـن طري ق الاعت راف بالحك م الجنائ ي الاجنب ي.
إشكالية الدراسة:
تكمن حصر مشكلة هـذه الدراسة فـي عدة تسـاؤالت، أوله ا أن الجريمة أصبحـت عابـرة للحـدود، ممـا يتسـبب فـي تبعثـر آثارهـا بيـن أقاليـم دول مختلفة، وســهولة تنقــل الفاعــل إذا مــا صــدر ضــده حكــم بالادانــة، للتملــص مــن تنفيــذ الحكـم عليـه، كمـا أن معظـم الـدول يصعـب عليهـا الاعتـراف بالحكـم الجنائـي الاجنبـي لم ا في ه مــن مس اس بسيــادتها، ولتعــارض ذل ك م ع مبـدأ الاقليميــة، والــذي يهيمــن فــي عصرنــا علــى الانظمــة الجنائيــة، وبهــذا قــد يجــد المحكــوم علي ه ف ي ذل ك ثغـرة يتهرــب عبره ا م ن آثاــر الحكـم الصـادر ضدــه، وحيـث إنـه لا جـدوى مـن العقوبـة إذا لـم تقتـرن بالتنفيـذ الفعلـي، فمـا هـو الحـل لتفـادي كل ذلــك؟ كم ا أنن ا نالح ظ اختـاف الانظمـة العقابية بين تشـريعات الـدول المختلفة، لأن كل دولـة له ا هويته ا الثقافي ة والاجتماعيـة والسياسـية والدينيـة التـي تميزهـا عـن غيرهـا مـن الـدول، والتـي تنعكـس بدورهـا علـى قوانينهـا، ممـا يصعـب مع ه الاعت راف بحك م جنائـي أجنبـي قـاض بعقوبـة لا تكـون منصوصـا عليهـا فـي تشـريعات دولـة القاضـي الوطنـي، وفـي المقابـل لا تسـتطيع هـذه الاخيـرة إعـادة محاكمـة المحكـوم عليـه المتواجـد فـوق إقليمهـا لعـدم اختصاصهـا، فكيـف يمكن الموازنة بين اختالف هذه التشريعات؟ أهمية الدراسة: تتجلــى أهميــة هــذه الدراســة فــي إيجــاد حلــول عمليــة لمشــكلة مكافحــة الجرائـم المسـتحدثة عبـر الوطنيـة، مـن خـال التعـاون بيـن الـدول فـي مجـال الاعت راف بحجيــة الاح كام الجنائي ة الاجنبي ة، الذــي يبدــو -ولأول وهلـة- أنــه يتعــارض مــع مبــدأ الســيادة الوطنيــة، ولأهميــة هــذا الموضــوع، وانشــغال المهتميــن بمكافحــة الجرائــم علــى الصعيــد الدولــي تمــت دراســته، ممــا دعــا الباحـث إل ى الخـوض فـي هذـا الموضــع، داعيـا اللهالتوفيـق فيـه والسـداد، إنـه علـى مـا يشـاء قديـر.
صعوبات البحث:
الشـك أن لـكل بحـث صوباتـه، والتـي ربمـا لوالهـا مـا كان لـه نكهـة ولا لـذة، وهـي وإن كانـت تعـوق البحـث، وتضـع عقبـات فـي طريقـه، فإنهـا تحـث الباحــث علــى بــذل المزيــد مــن الجهــد، وإن كانــت تضيــع عليــه بعضــا مــن الوقـت، وتجعـل بعضـا مـن الميسـور معسـورا، ولعـل أهـم مـا واجـه هـذا البحـث مـن عقبـات، مـا يلـي: - قلـة المصـادر التـي تناولـت بالدراسـة موضـوع البحـث، فهـي فـي الفقـه العربـي قليلـة، وفيمـا يتعلـق بالقانـون الجنائـي الليبـي أن لـم نقـل نـادرة فهـي لا وجـود لهـا، وهـذا مـا جعلنـا نعتمـد علـى مـا كتـب فـي الفقـه العربـي، وإن كانـت عموميـة مـا كتـب تجعـل الافـادة مـن بعـض كتبـه قليلـة. - الصعوبـات التـي تواجههـا البـاد كافـة، ممـا جعـل مـن الحصـول علـى بعـض المصـادر فـي حينـه غيـر متـاح، مـع تواجـده فـي المكتبـات، والتـي قلـل مـن الافـادة منهـا عـدم انتظـام فتحهـا. - عـدم الالمـام باللغـة الاجنبيـة، السـيما الفرنسـية، ممـا لأجأنا إلـى الاعتماد علـى المصـادر الوسـيطة، وهـذا لـه مـن المحاذير مـا لا يخفى. منهج البحث: اقتضــت طبيعــة البحــث أن يكــون منهــج دراســته تحليليــا مقارنــا، فهــذا مـا أوجبـه الموضـوع وجدتـه، فالمنهـج المقـارن أوجـب علينـا مـد النظـر إلـى التشـريعات المقارنـة، والمنهـج التحليلـي اسـتدعى منهـا النظـر إلـى علـل الاحـكام ونتائجهــا، والمقارنــة بينهــا للوصــول إلــى أفضــل النتائــج، بحيــث يكــون أخــذ النص وص بغاياته ا ومقاصدهاـ، لا بحروفهــ ولأفــظ عباراتهـا، ويكـون الترجيـح فـي صـدد كل مسـلأة نتناولهـا بالبحـث بعـد المقارنـة والتحليـل. خطة البحث: سعــيا لوضـع خطـة لهـذا العمـل تكـون متناسـقة وبطريقـة متسلسـلة، فقـد تـم تقسـيم هـذا البحـث إلـى فصليـن، يسـبقهما مبحـث تمهيـدي، وذلـك علـى النحـو التالي: مبحـث تمهيـدي تناولنـا فيـه بالبيـان مفهـوم الاحـكام الجنائيـة وحجيتهـا، وهـذا اقتضـى تقسـيمه إلـى مطلبيـن، فـي الاول عرضنـا لمفهـوم الحكـم الجنائـي، وفـي الثانـي تـم بيـان مفهـوم حجيـة للأحـكام. وجــاء الفصــل الاول عــن حجيــة الاحــكام الجنائيــة الاجنبيــة فــي الفقــه والتشــريعات الوطنيــة، وقــد جــرى تقســيمه إلــى مبحثيــن، تناولنــا فــي الاول منهمـا موقـف الفقـه القانونـي مـن حجيـة الاحـكام الجنائيـة الاجنبيـة وشـروطها، ً للتشـريعات الداخليـة. وفـي الثانـي حجيـة الاحـكام الجنائيـة الاجنبيـة طبقـا وعلىــ غ رار الفصــل الاول أت ى الفصــل الثانــي، والــذي جــاء بعنــوان حجيـة الاحـكام الجنائيـة الاجنبيـة فـي الاتفاقيـات الدوليـة، فـي مبحثيـن خصصنـا الاول منهمـا لبحـث الاسـاس القانونـي لحجيـة الحـكام الجنائـي الاجنبـي وشـروط تنفيـذه فـي ضـوء الاتفاقيـات الدوليـة، والمبحـث الثانـي تعرضنـا بالبيـان لقواعـد تنفيـذ الحكـم الجنائـي الاجنبـي فـي الاتفاقيـات الدوليـة. وانهينـا البحـث بخاتمـة تضمنـت جملـة ممـا توصلنـا إليـه مـن خـال هـذه الدراسـة مـن نتائـج وتوصيـات.