رقمنة الادارة القضائية بالمغرب
واقع التحول الرقمي للإدارة القضائية, رقمنة الادارة القضائية في علاقتها مع المواطن, رقمنة الادارة القضائية في علاقتها مع المهنيين, آفاق و تطلعات تحديث الإدارة القضائية, المحكمة الرقمية, استعمال الذكاء الاصطناعي في تدبير إجراءات الإدارة القضائية,
مسايرةً للتوجهات الإستراتيجية الكبرى الخاصة باستراتيجية المغرب الرقمي 2013، و استراتيجية المغرب الرقمي 2020 مرورا بالمخطط التوجيهي للتحول الرقمي بمرفق العدالة لسنة 2020، و قبله التوجهات الملكية التي لاطالما حثت على رقمنة المساطر الإدارية و نزع الصفة المادية عنها لتحسين الخدمات المقدمة إلى المواطن في إطار الشفافية و النزاهة، و من منطلق تقريب الإدارة من المواطن و تجويد خدماتها، لجأت وزارة العدل في إطار التحول الرقمي للإدارة القضائية إلى محاولة رقمنة المساطر الادارية التي تخص الادارة القضائية، عبر الكثير من المشاريع التي تهم انشاء منصات و مواقع إلكترونية الهدف منها تقريب الادارة من المواطن و رقمنة إجراءاتها، تعتبر منصة "e-justice" البوابة الرسمية لرقمنة الاجراءات و المساطر و الوثائق التي تدخل في اطار العلاقة بالادارة القضائية و المحاكم.
إن التحول الرقمي للادارة القضائية هو موضوع اليوم و الغد، و كل ما تم انجازه يبقى مجرد انطلاقة مع عدة افاق و تطلعات تحاول كل الدول الوصول اليها، ما يسوقنا لطرح الاشكال الاساسي المتعلق بإلى أي حد واكبت الإدارة القضائية التطور التكنولوجي و افاق التحول الرقمي فيها، و هو إشكال يطرح عدة إشكالات فرعية من قبيل السؤال عن ما سبق تحقيقه في إطار التحول الرقمي للإدارة القضائية، و الأفاق و التطلعات التي تسعى الدول الوصول إليها في هذا المجال.
المطلب الأول: واقع التحول الرقمي للإدارة القضائية.
للإلمام بهذا المطلب، سندرس أولا رقمنة الادارة القضائية في علاقتها مع المواطن (الفقرة الأولى)، ثم الفقرة الثانية رقمنة الادارة القضائية في علاقتها مع المهنيين (الفقرة الثانية).
الفقرة الأولى: رقمنة الادارة القضائية في علاقتها مع المواطن.
حرصت وزارة العدل على توفير مجموعة من الاجراءت عبر منصتها الرقمية "e-justice"، و هي نفس الاجراءت التي كانت تأخد وقت و مجهود كبير، كما كانت تسبب في ازدحام و فوضى في المحاكم، فأصبح عبر المنصة الالكترونية امكانية طلب السجل العدلي دون الحاجة للتنقل الى المحاكم، حيث يكفي الدخول الى المنصة التي تعمل على الهواتف او عبر موقع الانترنيت 'cassierjudissier.gov.ma' و تعبأة النموذج الذي يوفره الموقع مع تحميل للموقع نسخة من البطاقة الوطنية و تاكيد الطلب، فياخد المعني بالامر موعد للذهاب للمحكمة و اخذ نسخة من السجل العدلي موقع عليها الكترونيا من وكيل الملك و رئيس كتابة الضبط.
مع بساطة هذه العملية، يعاب عليها انها ليس الكترونية بالكامل، حيث انه يجب التنقل للمحكمة لاخذ النسخة الورقية، كما ان الموقع لا يوفر خدمة الدفع الالكتروني فيضطر المعني بالامر الى تأدية واجبات السجل العدلي بصندوق المحكمة.
من الخدمات المهمة التي توفرها المنصة ايضا، تمكين المعنيين بالامر و وكلائهم من تتبع الجلسات و القرارات الصادرة فيها، فبالدخول إلى منصة "e-justice" يمكن ادخال رقم القضية و نوعها و اختيار نوع المحكمة و المدينة التي تجري امامها القضية ليتمكن المعني بالامر من الاطلاع على تواريخ الجلسات و القرارات الصادرة فيها ،و تشمل هذه الخاصية جميع القضايا المدنية و الزجرية و التجارية و الادارية في كل درجات التقاضي الاولى و الثانية.
يعاب على خدمة تتبع الجلسات في منصة "e-justice" عدم تخصيص محكمة النقض بهذه الإجراءات فتبقى المحاكم التي تنطبق عليها هذه الخدمة هي محاكم الدرجة الأولى و الثانية سواء منها العادية أو المتخصص، غير أنه و في نسخة تجريبية و منصة أخرى مندمجة في الموقع الأصلي لمحكمة النقض المغربية، تم إطلاق خدمة تتبع الملفات الخاصة بهذه المحكمة في كل ما يتعلق بتصفح بطاقة الملف و جلساته الماضية و الآتية و المذكرات المقدمة فيه، و الجدير بالذكر أن هذه المنصات لا تشمل كل الإجراءات التي تختص بها الإدارة القضائية و إنما بعضها.
الفقرة الثانية: رقمنة الادارة القضائية في علاقتها مع المهنيين.
في علاقة الإدارة القضائية مع المهنييين، تم وضع منصة خاصة للسادة المحامين تمكنهم من انجاز مجموعة من الاجراءات و المساطر الكترونيا عبر منصة "portailavocat.justice.gov.ma"، تمكن هذه المنصة المحامين بعد انشاء حساب خاص بهم من تسجيل الدعاوى و تقديم الطلبات و الدفوع المتعلقة بها و تحميل إلى الموقع جميع الوثائق المتعلقة بالقضية الى المنصة.
كما يتمكن المحامي من خلال هذه المنصة من التواصل مع جميع المحاكم من كل الدرجات و الادارات القضائية دون الحاجة للتنقل اليها، كما تمكنهم من اداء جميع الضرائب و الرسوم عبر نفس المنصة مع امكانية التوصل بوصل للاداء الكترونيا.
لكن يلاحظ من المنصات المخصصة للمهن القضائية عدم وجود تناسق بينها، خصوصا و أن هذه المهن كثيرا فيما تتداخل بينها، ما يلزم المعني بالأمر من التقدم المباشر إلى كتابة الضبط للإطلاع أو إجراء خدمات لها علاقة بالمهن الأخرى، فيجب دائما أن الهدف من الرقمنة هو تفادي بطئ الإدارة و مشاكلها و التقليل من الحضور المادي للمواطن لتجنب الإزدحام، فلا رقمنة إم كان نصف الإجراء يتم رقميا و النصف الآخر يجب إكماله داخل أسوار الإدارة.
كما يوفر نفس الموقع خدمات موجه الى التجار و الشركات في اطار الاجراءات التي تخص مسك السجل التجاري و تدبيره، فقد مكنت منصة "e-justice" للشركات و التجار إمكانية إجراء معاملاتهم التي تخص السجل التجاري رقميا دون الحاجة للتنقل إلى المحاكم، يدخل في إطار هذه الخدمات جميع التقييدات التي تكون في السجل التجاري و الإطلاع عليها.
المطلب الثاني: آفاق و تطلعات تحديث الإدارة القضائية.
تسعى الكثير من الدول منها المغرب إلى التقدم أكثر في رقمنة الإدارة القضائية و جعل الوسائل الإلكترونية المتحكم فيها، و من تطلعات الدول العمل بالمحكمة الرقمية (الفقرة الأولى)، و جعل إعطاء دور كبير للذكاء الإصطناعي في تدبير الإدارة الرقمية (الفقرة الثانية).
الفقرة الأولى: المحكمة الرقمية.
تعتبر المحكمة الرقمية من الأهداف التي يسعى المغرب إلى تحقيقها في المستقبل القريب، فقد سبق ان جعلها من أهداف ميثاق اصلاح منظومة العدالة، تحديدا في الهدف الرئيسي السادس تحت عنوان 'تحديث الإدارة القضائية و تعزيز حكامتها'، في بابه الفرعي الثالث الذي نص على ارساء مقومات المحكمة الرقمية، فاكدت التوصية رقم 187 من نفس الباب على ضرورة وضع مخطط مديري لارساء مقومات المحكمة الرقمية و تقوية البنية التحتية التكنولوجيا و توفيرالبرامج المتعلقة بادارة القضايا و المساطر، كما نصت التوصية رقم 188 على ضرورة تعديل المقتضيات القانونية بما يمكن من استعمال التكنولوجيا الحديثة في تصريف القضايا امام المحاكم، ونزع التجسيد المادية عن الاجراءات والمساطر القضائية.
كما أكد التقرير العام المتعلق بالنموذج التنموي الجديد الصادر سنة 2021 على ضرورة رقمنة الادارة القضائية و الخدامات التي تقدمها الى المواطن، و اكد على ضرورة تســريع وتيــرة رقمنــة المســاطر الداخليــة قصـد توثيـق إجراءاتهـا ونشـر المقـررات القضائيـة لإضفـاء الشـفافية عليهـا، وإحـداث منصـة رقميـة قضائيـة توفـر لـكل مواطـن خدمـة قضائيـة فعالـة سـريعة وعـن قـرب، بمـا فـي ذلـك التبليـغ الالكترونـي.
بذكر التبليغ الإلكتروني، و بدراسة مشروع قانون المسطرة المدنية نستفيد أنه جاء بمستجد التبليغ الإلكتروني كإحدى وسائل التبليغ القانونية، و التي يتكون مكملة للمساطر و الإجراءات التي سبق رقمنتها، و خطوة كبيرة في تقريب الإدارة من المواطن.
فالافاق الواعدة للمحكمة الرقمية سوف تمكن من إجراء محاكمات عن بعد دون ابتداء من تسجيل القضية و مرورا في الجلسات و انتهاء بصدور الأحكام و تنفيذها، حيث ستكون هذه الإجراءات كلها عبر منصات إلكترونية تمكن المتقاضين من التفاعل مع دفاعهم و و قضاة الحكم و النيابة العامة، ما ينتظر منه إضفاء الشفافية و النزاهة على المحاكمة خصوصا و ما يرافقها من انتقادات وطنيا و دوليا.
و قد سبق للمغرب أن عمل بالمحكمة الرقمية تجريبا في زمن كورونا، و قد كثرت سلبياتها من قبيل ضعف التجهيزات التي كثيرا ما كانت تنقطع وسط الجلسة و تؤجل القضية بسببها، و ضعف الموارد البشرية المسيرة لهذه التجهيزات، كما طرح الفقهاء إشكال قانوني يرتبط بمبادئ المحاكمة العادلة الذي هو الحضورية و التواجهية التي تغيب في المحاكمة الرقمية، ما يدعوا إلى إحاطة المحكمة الرقمية التي هي مستقبل المحكمة الشفافة و النزيهة و العادلة بكل ما يساعد تحققها من أطر بشرية مؤهلة، و تجهيزات عصرية فعالة و إطار قانوني مستقر.
الفقرة الثانية: استعمال الذكاء الاصطناعي في تدبير إجراءات الإدارة القضائية.
كثر الحديث عن الذكاء الاصطناعي و عن التغيير الذي يمكن ان يحدثه في كل المجالات، ففكر البعض في تسخير قدراته في مجال العدالة و القضاء و تدبير الادارة القضائية، فحاولت بعد الدول خلق انظمة الكترونية تعتمد على الذكاء الاصطناعي لتدبير علاقات الادارة القضائية مع المواطن بشكل اوتوماتيكي، من قبيل برمجة أنظمة مهمتها تدبير الاجراءات اليومية المتكررة التي تقوم بها الادارة القضائية و المحاكم، و قد سبق لوزارة العدل المغربية محاولة برمجة نظام معلوماتي يعتمد على الذكاء الإصطناعي من شأنه أن يتكلف بتنظيم اوقات الجلسات و تصريف القضايا إلى الهيئات المختصة دون تدخل رئيس المحكمة الذي يعتبر هو المختص في هذه الاجراءات.
كما لجأت مجموعة من الدول إلى محاولة تطبيق الذكاء الاصطناعي في مجال النطق بالأحكام، عبر خلق انظمة ذكية و برمجتها على تحليل ملايين من القضايا التي سبق حلها، ومن خلالها يتمكن الذكاء الاصطناعي استعمال المعلومات التي جمعها من القضايا التي درسها للنطق بحكم في قضية معينة، فبينت بعض التجارب على نجاعة هذه الانظمة الذكية و ان قراراتها تكون دقيقة و متقاربة مع قرارات القضاة.
في نفس الاطار، انشأت الدولة فرنسية نظام ذكي تحت اسم "Data-juste" الذي يقوم بتحديد مقدار التعويضات الذي يطالب بها في القضايا، كالتعويضات عن الحوادث و التعويضات التي تدخل في اطار قانون الشغل و التعويضات المطالب بها في القضايا المدنية و الزجرية العادية، يتم هذا عبر المقارنة بالقضايا السابقة التي درسها النظام الذكي و استعمال خورزمياته في تحديد التعويض بناء على حيثيات القضية.
خاتمة:
كاستنتاج، يمكن القول أن وزارة العدل قطعت أشواط كثيرة في مجال رقمنة الإدارة القضائية مع تطلعات واعدة تسابق فيها الزمن لتحقيقها على أرض الواقع، لكن من الباطن تظهر عدة اختلالات يجب على المعنيين بالأمر تصحيحها خصوصا فيما يتعلق بالموارد البشرية التي تبقى غير مؤهلة للعمل بالوسائل المعلوماتية بشكل فعال و احترافي، و من جهة أخرى تبقى أغلب الفئة المستهدفة من هذه الرقمنة من المواطنين لا تستطيع التعامل مع التكنولوجيا ما يطرح سؤال التوعية و التعليم على استعمال هذه الوسائل، فيجب دراسة الحالة الإجتماعية للمواطنين قبل إجبارهم على التعامل مع وسائل إلكترونية معلوماتية تفوق قدراتهم. لكن و بالنظر إلى مستقبل رقمنة الإدارة القضائية، لا يمكن للمرء إلا انتظار الأفضل مع دخول الذكاء الإصطناعي في المجال الذي حتما سيزيل العديد من العقبات و المشاكل.