الوجه الثالث والعشرون ان يقال لا ريب ان النفس الذي هو القلب يوصف بالنطق
الوجه الثالث والعشرون ان يقال لا ريب ان النفس الذي هو القلب يوصف بالنطق
ِ وَالْقَوْلِ كَمَا يُوصَفُ بِذَلِكَ اللِّسَانُ وَإِنْ كَانَ الْقَوْلُ وَالنُّطْقُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ يَتَنَاوَلُ مَجْمُوعَ الْأَمْرَيْنِ وَلِهَذَا كَانَ مَنْ جَعَلَ النُّطْقَ
وَالْقَوْلَ هُوَ لِمَا فِي اللِّسَانِ فَقَطْ بِمَنْزِلَةِ مَنْ جَعَلَهُ لِمَا فِي الْقَلْبِ فَقَطْ وَمَنْ جَعَلَ اللَّفْظَ مُشْتَرِكًا بَيْنَهُمَا فَقَدْ جَمَعَ الْبَعِيدَيْنِ بَلْ أَثْبَتَ النَّقِيضَيْنِ فَإِنَّهُ يَجْعَلُ اللَّفْظَ الشَّامِلَ لَهُمَا مَانِعًا مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا فَإِنَّهُ إذَا قَالَ أُرِيدُ بِهِ هَذَا وَحْدَهُ أَوْ هَذَا وَحْدَهُ مَعَ أَنَّ اللَّفْظَ أُرِيدَ بِهِ كِلَاهُمَا كَانَ نَافِيًا لِكُلٍّ مِنْهُمَا فِي حَالِ إثْبَاتِ اللَّفْظِ لَهُ وَإِنَّمَا اللَّفْظُ الْمُطْلَقُ مِنْ الْقَوْلِ
وَالنُّطْقِ وَالْكَلَامِ وَنَحْوِ ذَلِكَ يَتَنَاوَلُهُمَا جَمِيعًا كَمَا أَنَّ لَفْظَ الْإِنْسَانِ يَتَنَاوَلُ الرُّوحَ وَالْبَدَنَ جَمِيعًا وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا قَدْ يُسَمَّى بِالِاسْمِ مُفْرَدًا وَمَنْ لَمْ يَسْلُكْ هَذَا الْمَسْلَكَ وَإِلَّا انْهَالَتْ عَلَيْهِ الْحُجَجُ لِمَا نَفَاهُ مِنْ الْحَقِّ فَإِنَّ دَلَالَةَ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ وَاللُّغَوِيَّةِ وَالْعُرْفِيَّةِ عَلَى شُمُولِ الِاسْمِ لَهُمَا وَعَلَى تَسْمِيَةِ أَحَدِهِمَا بِهِ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَرَ لَكِنَّ هَذَا النُّطْقَ وَالْكَلَامَ
الَّذِي هُوَ مَعْنَى الْخَبَرِ الْقَائِمِ بِالنَّفْسِ هَلْ هُوَ شَيْءٌ مُخَالِفٌ لِلْعِلْمِ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ ضِدًّا لَهُ أَوْ هُوَ هُوَ أَوْ هُوَ مُسْتَلْزِمٌ لَهُ فَدَعْوَى إمْكَانِ مُضَادَّتِهِ لِلْعِلْمِ مِمَّا يُحِسُّ الْإِنْسَانُ بِنَفْسِهِ خِلَافُهُ وَدَعْوَى مُغَايِرَتِهِ لِلْعِلْمِ أَيْضًا فَإِنَّ الْإِنْسَانَ لَا يُحِسُّ مِنْ نَفْسِهِ بِنِسْبَتَيْنِ جَازِمَتَيْنِ كُلٌّ مِنْهُمَا بِتَنَاوُلِ الْمُفْرَدَيْنِ إحْدَاهُمَا عِلْمٌ وَالْأُخْرَى غَيْرُ عِلْمٍ وَلِهَذَا لَمْ يَتَنَازَعْ فِي ذَلِكَ لَا
الْمُسْلِمُونَ وَلَا مَنْ قَبْلَهُمْ مِنْ الْأُمَمِ حَتَّى أَهْلُ الْمَنْطِقِ الَّذِينَ يُثْبِتُونَ نُطْقَ النَّفْسِ وَيُسَمُّونَهَا النَّفْسَ النَّاطِقَةَ هُمْ عِنْدَ التَّحْقِيقِ يَرُدُّونَ ذَلِكَ إلَى الْعِلْمِ وَالتَّمْيِيزِ وَلِهَذَا لَمَّا أَرَادَ حَاذِقُ الْأَشْعَرِيَّةِ الْمُسْتَأْخِرِينَ أَبُو الْحَسَنِ الْآمِدِيُّ أَنْ يَحُدَّ الْعِلْمَ بَعْدَ أَنْ تَعَقَّبَ حُدُودَ النَّاسِ بِالْإِبْطَالِ وَرَدَّ قَوْلَ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ غَنِيٌّ عَنْ الْحَدِّ أَوْ أَنَّهُ يُعْرَفُ بِالتَّقْسِيمِ وَالتَّمْثِيلِ قَالَ هُوَ
صِفَةٌ جَازِمَةٌ قَائِمَةٌ بِالنَّفْسِ يُوجِبُ لِمَنْ قَامَ بِهِ تَمْيِيزًا وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ إنْ كَانَ فِي النَّفْسِ مَعْنًى لِلْخَبَرِ غَيْرُ الْعِلْمِ فَهَذَا الْحَدُّ مُنْطَبِقٌ عَلَيْهِ وَلِهَذَا لَمَّا قَسَمَ الْأَوَّلُونَ وَالْآخَرُونَ الْعِلْمَ إلَى تَصَوُّرٍ وَتَصْدِيقٍ وَجَعَلُوا التَّصَوُّرَ هُوَ الْعِلْمُ بِالْمُفْرَدَاتِ الَّذِي هُوَ مُجَرَّدُ تَصَوُّرِهَا وَالتَّصْدِيقَ الْعِلْمَ بِالْمُرَكَّبَاتِ الْخَبَرِيَّةِ مِنْ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ فَسَمَّوْا الْعِلْمَ بِذَلِكَ تَصْدِيقًا
وَجَعَلُوا نَفْسَ الْعِلْمِ هُوَ نَفْسَ التَّصْدِيقِ وَلَوْ كَانَ فِي النَّفْسِ تَصْدِيقٌ لِتِلْكَ الْقَضَايَا الْخَبَرِيَّةِ لَيْسَ هُوَ الْعِلْمَ لَوَجَبَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْعِلْمِ بِهَا وَتَصْدِيقِهَا وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا الْعِلْمَ وَالتَّصْدِيقَ قَدْ يَعْتَقِدُهُ الْإِنْسَانُ فَيَعْقِلُهُ وَيَضْبِطُهُ وَيَلْتَزِمُ مُوجِبَهُ وَقَدْ لَا يَعْتَقِدُهُ وَلَا يَعْقِلُهُ وَلَا يَضْبِطُهُ وَلَا يَلْتَزِمُ مُوجِبَهُ فَالْأَوَّلُ هُوَ الْمُؤْمِنُ وَالثَّانِي هُوَ الْكَافِرُ.
إذَا كَانَ ذَلِكَ فِيمَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ عَنْ اللَّهِ فَلَيْسَ كُلُّ مَنْ عَلِمَ شَيْئًا عَقَلَهُ وَاعْتَقَدَهُ أَيْ ضَبَطَهُ وَأَمْسَكَهُ وَالْتَزَمَ مُوجِبَهُ كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ مَنْ اعْتَقَدَ شَيْئًا كَانَ عَالِمًا بِهِ فَلَفْظُ الْعَقْدِ وَالِاعْتِقَادِ شَبِيهٌ بِلَفْظِ الْعَقْلِ وَالِاعْتِقَالِ وَمَعْنَى كُلٍّ مِنْهُمَا يُجَامِعُ الْعِلْمَ تَارَةً وَيُفَارِقُهُ أُخْرَى فَمِنْ هُنَا قَدْ يُتَوَهَّمُ أَنَّ فِي النَّفْسِ خَبَرًا غَيْرُ الْعِلْمِ وَلَفْظُ الْعَقْدِ وَالْعَقْلِ لَمَّا كَانَ
جَارِيًا عَلَى مَنْ يُمْسِكُ الْعِلْمَ فَيَعِيهِ وَيَحْفَظُهُ تَارَةً وَيَعْمَلُ بِمُوجِبِهِ كَانَ مُشْعِرًا بِأَنَّهُ يُوصَفُ بِذَلِكَ تَارَةً وَبِضِدِّهِ تَارَةً وَهُوَ الْخُرُوجُ عَنْ الْعِلْمِ وَعَنْ مُوجِبِهِ وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ اللَّفْظُ فِيمَنْ يُمْسِكُ بِمَا لَيْسَ بِعِلْمٍ، وَمِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ امْتَنَعَ أَنْ يُوصَفَ اللَّهُ بِالِاعْتِقَادِ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ عَالِمٌ لَا يَجُوزُ أَنْ يُفَارِقَهُ عِلْمُهُ وَلَا يَعْتَقِدَ مَا لَيْسَ بِعِلْمٍ فَوَصْفُهُ بِهِ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ
وَصْفِهِ بِضِدِّ الْعِلْمِ، وَلَفْظُ الْفِقْهِ وَلَفْظُ الْفَهْمِ كِلَاهُمَا يَسْتَلْزِمُ عِلْمًا مَسْبُوقًا بِعَدَمِهِ وَهَذَا فِي حَقِّ اللَّهِ مُمْتَنِعٌ.