المراحل التي مر منها علم التفسير
نشأة علم التفسير: اقتضت السنة الإلهية إرسال الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام بلسان قومهم. لذا فقد بعث محمدٌ صلى الله عليه وسلم في قوم عرب، وأُنزِل عليه القرآن بلسان قومه العربي { إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون }. فكانوا يفهمونه بسليقتهم ولسانهم العربي. غير أن إعجازه؛ سواء اللفظي منه والأسلوبي ( لغة وبلاغة ) جعلهم يتفاوتون في فهمه وإدراكه؛ فما أُشكل على أحدهما اتضح للآخر فبينه له، وما غمُض عليهم جميعاً استفسروا عنه النبي صلى الله عليه وسلم فبينه لهم ووضحه، فنشأ بذلك علم التفسير.
مراحل علم التفسير: مرّ علم التفسير بمراحل أربع:
المرحلة الأولى: التفسير في عهد النبي صلى الله عليه وسلم:
من المعلوم أن الله تعالى تكفل بحفظ كتابه الكريم وجمعِهِ في صدر وفؤاد نبيه المصطفى صلى الله عليه وسلم. ثم أمره وكلفه ببيانه وتفسيره. فكان صلى الله عليه وسلم بذلك المصدر الرئيسي في بيان ما استشكل على صحابته الكرام رضي الله عنهم من نصوص القرآن الكريم.
غير أن العلماء اختلفوا في القدر المفسَّر من قِبَلِه صلى الله عليه وسلم. فكانوا في ذلك على مذهبين أساسيين:
1) المذهب الأول يرى أن النبي صلى الله عليه وسلم بين المعاني كما بيّن
الألفاظ؛ استناداً إلى قول الله تعالى:{ وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون}. والبيان يحوي المعاني كما الألفاظ. كما أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا إذا تعلموا عشر آيات لم يتعلموا غيرها حتى يعملوا بها. إضافة إلى أن المقصود من الكلام بيان المعنى لا اللفظ فقط، والقرآن أولى بذلك. يقول ابن تيمية رحمه الله: (( يجب أن يُعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم بيّن لأصحابه معاني القرآن كما بيّن لهم ألفاظه، فقوله تعالى:{ لتبين للناس ما نزل إليهم} يتناول هذا وهذا )).
2) المذهب الثاني يرى أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يبين إلا القدر اليسير من معاني القرآن الكريم؛ وذلك لكونه لم يؤمر بالنصّ على المراد في الآيات كلها، حتى يترك المجال مفتوحاً أمام العلماء للتفكر. كما أنه لو فسره كله لما كان لدعائه لابن عباس بالتفقه في الدين فائدة.
والراجح أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يبين كل معاني القرآن الكريم؛
لأن من الآيات ما يرجع فهمها إلى معرفة اللغة العربية، ومنها ما يتبادر فهمه إلى الأذهان لوضوحه، كقوله تعالى:{ حُرِّمت عليكم أمهاتكم } أي الوَطْءُ. ومنها ما استأثر الله تعالى بعلمه من الأمور الغيبية. ومنها ما لا فائدة في معرفة أكثر من معناها ولا طائل في معرفة ما وراء ذلك ( معرفة لون كلب أهل الكهف، وعصا موسى من أي الشجر هي؟..).
منهج النبي صلى الله عليه وسلم في التفسير: أما منهجه صلى الله عليه وسلم في التفسير فكان جله بيانا لمجمل، أو توضيحا لمشكل، أو تخصيصا لعام، أو تقييدا لمطلق، أو بيانا لمعنى لفظ أو متعلقه.
المرحلة الثانية: التفسير في عهد الصحابة رضي الله عنهم:
لقد كان الصحابة رضي الله عنهم يفقهون القرآن الكريم بسليقتهم العربية بعيداً عن الشُّبَهِ. فإذا خفي عليهم معنى استفسروا الرسول صلى الله عليه وسلم عنه فبينه لهم، وإلا بأن لم يتيسر لهم ذلك اجتهدوا، فتفاوتوا بموجب ذلك في فهمه وفقهه { تَخَوُّفٍ، وَ أَبّاً، فاطِرِ السموات والأرض..} . ويرجع تفاوتهم إلى أمور، منها: تفاوتهم في أدوات الفهم، وفي ملازمة الرسول صلى الله عليه وسلم وحضور مجالسه، وفي معرفة أسباب النزول، وفي المدارك العقلية، والعلوم الشرعية.
مميزات التفسير عند الصحابة رضي الله عنهم: هذا وقد امتاز تفسير الصحابة للقرآن الكريم بميزات عديدة، لعل من أهمها: قلة الأخذ
بالإسرائيليات، وعدم شمول تفسيرهم للقرآن الكريم كاملا؛ وذلك لتضلعهم في اللغة، فكانت بعض الآيات واضحة عندهم لا تحتاج إلى تفسير وبيان.
كما أن من ميزات تفسيرهم عدم تعمقهم فيه ( في التفسير ) تعمقا مذموما؛ بحيث يتجنبون ما لا فائدة فيه، مكتفين بالمعنى العام. أيضاً امتازوا بقلة التدوين ونُدْرَتِهِ؛ بحيث نجد أن أغلب ما روي عنهم كان بالرواية والتلقين، باستثناء بعض الصحابة الذين دوَّنُوا ما سمعوه عن النبي صلى الله عليه وسلم كالصحيفة الصادقة لعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه.
منهج الصحابة رضي الله عنهم في التفسير: سلك الصحابة رضي الله عنهم في تفسير القرآن العظيم مسالك ثلاثة:
تفسير القرآن بالقرآن ؛ باعتبار أن مجموعة من الآيات تأتي مجملة في موضع مفصلة في آخر. مطلقة في موضع مقيدة في آخر، وهكذا..حتى بعض القصص جاءت موجزة في موضع مفصلة في آخر. وهذا النوع أحسن طرق التفسير كما قال ابن تيمية رحمه الله.
تفسير القرآن بالسنة ؛ فإن لم يجد الصحابة في القرآن ما يفسر بعضه بعضا رجعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فبينه ووضحه؛ كتفسيره صلى الله عليه وسلم للظلم في قوله تعالى:{ الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم}
بالشرك. وتفسيره للحج الأكبر بيوم النحر.
الاجتهاد والاستنباط ؛ فإن لم يجدوا التفسير لا في القرآن ولا في السنة اجتهدوا رأيهم؛ وذلك لكونهم أدرى بأوضاع اللغة العربية وأسرارها، وهو أمر يساعد على فهم الآيات التي يتوقف فهمها على معرفة اللغة العربية. كما هم أدرى بعادات العرب وأخلاقهم، وهذا يعين على فهم ما يتعلق بإصلاح العادات وتهذيب السلوك من الآيات. إضافة إلى أنهم أعلم بأحوال اليهود
والنصارى في الجزيرة العربية وقت نزول الوحي. كما هم أعرف بأسباب النزول الذي يساعد على فهم الآيات، كما قال ابن تيمية رحمه الله:
"معرفة سبب النزول يساعد على فهم الآية، فإن العلم بالسبب يورث العلم
بالمسبب ". كما امتازوا بقوة الفهم والإدراك، مع تفاوتهم في ذلك فيما بينهم.
أشهر الصحابة بالتفسير: هذا وقد اشتهر عدد من الصحابة بالتفسير،هم : الخلفاء الأربعة، وابن عباس، وابن مسعود، وعبد الله بن الزبير بن العوام، وزيد بن ثابت، وأبي ابن كعب، وأبو موسى الأشعري، وأم المؤمنين عائشة رضي الله عنهم أجمعين.
مدارس التفسير: إن أكثر الصحابة رواية في التفسير أربعة: علي بن أبي
طالب، وابن مسعود، وابن عباس، وابن كعب. أما علي فلسعة علمه وتفرغه له أيام الخلفاء الثلاثة وتأخر وفاته. أما الثلاثة الباقون فلأنهم أنشأوا ما يسمى " مدارس التفسير ".
مدرسة ابن مسعود في الكوفة: يعتبر ابن مسعود رضي الله عنه سادس رجل يلج الإسلام، خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، أثنى عليه الصحابة كثيرا. يقول رضي الله عنه: " والذي لا إله غيره ما نزلت آية من كتاب الله إلا وأنا أعلم فيمن نزلت وأين نزلت ولو أعلم مكان أحد أعلم بكتاب الله مني تناله المطايا لأتيته ". ومن أشهر
تلامذته: مسروق، وقتادة، وعمرو بن شرحبيل وغيرهم.توفي رضي الله عنه سنة 32ه.
مدرسة ابن عباس في مكة: يعتبر ابن عباس رضي الله عنه ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، ولد قبل الهجرة بثلاث سنين. دعا له النبي صلى الله عليه وسلم بقوله:
(اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل ) . ومن أشهر تلامذته: مجاهد، وعكرمة مولاه وعطاء بن أبي رباح وغيرهم.توفي رضي الله عنه سنة 68ه.
مدرسة أبي بن كعب في المدينة: يعتبر ابن كعب سيد القراء، وأحد كُتَّاب الوحي. قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم: ( أقرؤهم لكتاب الله أبي بن كعب ). ومن أشهر تلامذته: ابنه الطفيل، وزيد بن أسلم، وأبو العالية الرياحي وغيرهم. توفي رضي الله عنه في زمن الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنهم أجمعين.
حكم تفسير الصحابي: إذا كان مما لا مجال للرأي فيه فحكمه الرفع ووجب الأخذ به. وإلا؛ بأن كان من اجتهاداته فموقوف، ما دام لم يسنده إلى النبي صلى الله عليه وسلم. كما أوجب بعض العلماء الأخذ بموقوف الصحابي نظراً للأحوال والقرائن التي اختص بها عن باقي الأمة.
المرحلة الثالثة: التفسير في عهد التابعين:
لم يكن ثمة فرق بين منهج الصحابة والتابعين في التفسير؛ لذا فقد كانوا يتحرجون عن الكلام فيه بما لا علم لهم به. لذلك فهم يشتركون مع الصحابة رضي الله عنهم في أهم أسس التفسير. لكنهم وبسبب تلقيهم التفسير عن الصحابة، واتساع الفتوحات الإسلامية ظهرت أسس أخرى.
منهج التابعين في التفسير: يقوم منهج التابعين في التفسير على ما يلي:
(١) تفسير القرآن بالقرآن. (٢) تفسير القرآن بالسنة. (٣) تفسير القرآن بأقوال الصحابة؛ فكانوا يقدمون تفسير شيوخهم؛ الصحابة، على كلامهم. (٤) الفهم والاجتهاد؛ لكونهم تلقوا التفسير عن الصحابة وسمعوا منهم ما لم يسمعه غيرهم.(٥) أقوال أهل الكتاب من اليهود والنصارى؛ فكما هو معلوم أن القرآن الكريم يذكر القصص موجزة، وبما أن النفس البشرية ميالة إلى تقصي الجزئيات وتتبعها راحت تبحث عن مثل هذه التفاصيل وذلك بعد اتساع الفتوحات الإسلامية ودخول أهل الكتاب في الإسلام، وهم أعلم وأدرى بهذه الجزئيات والتفاصيل؛ لورودها في كتبهم؛ التوراة والإنجيل، فظهر بموجب ذلك ما يسمى بالإسرائيليات. وأكثر رواة هذه الإسرائيليات عبد الله بن سلام، وكعب الأحبار، ووهب بن منبه، وعبد الملك بن جريج.
مميزات التفسير عند التابعين: يمتاز تفسير التابعين بميزات، هي:
← دخول الإسرائيليات في التفسير.
← إتمام التفسير وشموله القرآن كله.
← ظل التفسير محتفظا بطابع الرواية والتلقين، لكن بصبغة خاصة؛ كل أهل بلد يعنى بالتلقي عن إمام بلده.
← كثرة الخلافات التفسيرية؛ باعتبار أنهم أضافوا آراءهم إلى جانب أقوال شيوخهم.
← ظهور نواة الخلاف المذهبي، نتيجة بعض الآراء التفسيرية.
← إسناد التفسير إلى قائله؛ لتمييز الصحيح من السقيم، والقوي من الضعيف.
أشهر المفسرين من التابعين: إن من أشهر المفسرين من التابعين؛ مجاهد بن جبر، وسعيد بن جبير، والحسن البصري، وعكرمة، وقتادة بن دعامة، وأبو العالية الرياحي وغيرهم.
حكم تفسير التابعي: اختلف العلماء في تفسير التابعين للقرآن الكريم؛ فذهبت طائفة إلى أنه لا يجب الأخذ بتفسيرهم؛ وذلك لكونهم لا سماع لهم من النبي صلى الله عليه وسلم كما الصحابة، إضافة إلى أنهم لم يشاهدوا القرائن والاحوال التي نزل عليها القرآن، أيضاً فإن عدالتهم غير منصوص عليها كما الصحابة رضي الله عنهم أجمعين.
وذهبت أخرى؛ وهم أكثر المفسرين، إلى القول بأخذ تفسيرهم؛ لتلقيهم إياه عن الصحابة، وسماعهم منهم ما لم يسمعه غيرهم.
والراجح التفصيل؛ إن أجمعوا على تفسير واحد وجب الأخذ به، وإن اختلفوا لا يكون قول بعضهم حجة على بعض ولا عن من بعدهم. وبالتالي نرجع إلى لغة القرآن أو السنة أو عموم لغة العرب أو أقوال الصحابة في ذلك.
المرحلة الرابعة: التفسير في عهد التدوين:
بدأ عصر التدوين في أواخر القرن الأول الهجري وبداية القرن الثاني منه؛ حيث دون الحديث بمختلف أبوابه وموضوعاته. وقد مرّ علم التفسير بمراحل أربع:
١) المرحلة الأولى: حيث دون التفسير على أنه باب من أبواب الحديث، دون أن يُفرَدَ له تأليف خاص به. وممن دونه على هذه الصيغة: وكيع بن الجراح، وشعبة بن الحجاج، وعبد بن حميد، ويزيد بن هارون السلمي.
وقد امتازت هذه المرحلة بالعناية الخاصة بالإسناد، وتضمين التفسير ضمن أبواب الحديث، وعدم الاقتصار على التفسير المرفوع عن النبي صلى الله عليه وسلم بل حتى الموقوف منه والمقطوع.
٢) المرحلة الثانية: في هذه المرحلة أصبح التفسير علما مستقلا قائماً بذاته. فكان أول من صنف في التفسير عبد الملك بن جريج كما نصَّ على ذلك ابن تيمية وابن خلكان رحمهما الله تعالى. وأشهر من ألف في هذه المرحلة؛ ابن ماجة، وابن جرير الطبري، والنيسابوري، وابن أبي حاتم، والحاكم، وغيرهم.
وقد امتاز التدوين في هذه المرحلة بتدوين التفسير المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعين، واعتماد الإسناد المتصل إلى صاحب التفسير، والعناية بالنقد والتحري في رواية الأحاديث في التفسير؛ فكانوا يجمعون بين الصحيح منها والسقيم مع الاكتفاء بالإسناد عملا بقاعدة « من أسند فقد أبرأ ذمته ». كم تم الإكثار من تدوين الروايات الإسرائيلية في التفسير.
٣) المرحلة الثالثة: شكَّلت هذه المرحلة منعطفا خطيراً في التفسير؛ حيث عمل المفسرون على اختصار الأسانيد، ونقل الآثار عن السلف دون نسبتها إلى صاحبها، أيضاً زاد القول بالتفسير بالرأي المحمود منه والمذموم، كذلك الحرص على الإكثار من رواية الأقوال في الآية الواحدة، والتوسع في استقصاء الأخبار الإسرائيلية والخوض فيما لا فائدة فيه، حتى انشغل الناس بذلك عما يفيدهم وأمَّتَهم.
٤) المرحلة الرابعة: بعد أن كان التفسير يعتمد على النقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم صار يعتمد على الرأي؛ نتيجة ظهور فرق ومذاهب
إسلامية، حتى أضحى كل مفسر يفسر حسب ما يوافق مذهبه وعقيدته، بل وفَنَّهُ أيضاً؛ فالنحوي يهتم بالإعراب، والأخباري يهتم بسرد القصص،
والكلامي يملأ تفسيره بأقوال الحكماء والفلاسفة والردّ عليهم، وهكذا..
وينبغي الإشارة إلى أن تتابع هذه المراحل لا يعني انفصالها التام عن بعضها البعض، بل قد تجد المرحلة السابقة لها نواة في المرحلة التالية لها، والعكس صحيح.
ومن أهم المؤلفات في عصر التدوين في التفسير بالمأثور نجد: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية، وجامع البيان في تفسير القرآن للطبري، وتفسير القرآن العظيم لابن كثير، ومعالم التنزيل للبغوي.
أما في التفسير بالرأي فنجد: الكشاف للزمخشري، ومفاتيح الغيب للرازي، وتفسير الجلالين لجلال الدين المحلي وجلال الدين السيوطي، و في ظلال القرآن لسيد قطب.