مقدمـــة:
لكل عصر من العصور قضية تفرض نفسها وتشغل عقول المفكرين والباحثين وتدفعهم إلى البحث عن الحلول المالئمة لها، وقضية هذا العصر هي التدهور البيئي الذي يعد من أخطر القضايا الراهنة وأبرزها والتي يصعب تأجيل الاهتمام بها لأنها تمس أهم عنصر من عناصر الكون الا وهو الانسان. إذ تعد معضلة البيئة أبرز تحد تواجهه البشرية على الاطالق في الوقت الراهن، وذلك بفعل الاختالالت الهائلة والتقلبات الجسيمة التي شهدتها المنظومة البيئية في كافة مناحيها ومكوناتها والتي وصلت أوجها في الوقت الحالي، فهي قضية لا تقتصر على هذا الطرف أو ذاك، أو تلك الدولة دون غيرها، أو تلك المجموعة بمعزل عن سواها، وإنما هي مسؤولية وواجب ملقى على عاتق الكل دون استثناء ، فما هيالاسماء واحدة نستظل بها ونتنفس هواءها، وذات المياه التي تسقى منها الكائنات الحية من إنسان وحيوان ونبات، وهي عين التربة التي تأوينا وتلبي حاجياتنا، وليس من المغالاة من شيء أنها تجسد محور القضايا التي حظيت بالاهتمام الدولي في العقود الاخيرة، وذلك لأن خللها ليس بالامر الهين الذي يمكن إصالحه والتحكم فيه ببساطة، بقدر ما أن الضرر الذي يعتري المنظومة مافتئ يتسع ليصيب كل المجالات البيئية.
وقد خلق الله سبحانه وتعالى السماوات والارض وما بينهما من كائنات حية وكواكب ونجوم على وضع تكون فيه هذه المخلوقات صالحة للحياة على وجه الارض، حيث قال تعالى في محكم تنزيله"الذي خلق سبع سماوات طباق ا ما ترى في خلق الرحمان من تف اوت ف ارجع 2 البصر هل ترى من فطور" ، ويتمثل هذا الوضع اللهي في وجود دورة محددة وتوازن دقيق وتنسيق كالم بما يكفل انتظام الحياة وعدم توقفها، إذ قال سبحانه وتعالى "ال الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في ف لك يسبحون" ، ولحماية الكون والمحافظة عليه أمر اللهالانسان باستخالفه في الارض، حيث قال سبحانه وتعالى "وإذ ق لا ربك للمالئكة إني جاعل في الارض خليفة" ، ومن أجل ذلك سخر له الكائنات "وسخر لكم ما في السماوات والارض جميعا منه" ، وجعل كل شيء مقدرا في هذا الوجود ومقننا،لقوله تعالى"إنا كل شيء خلقناه بقدر" .
غير أن تدخل الانسان بنشاطه السلبي وإتالفه للعديد من العناصر المكونة لها أدى إلى فساد الحياة على وجه الارض، السيما في ظل التحوالت العميقة التي طرأت على المنظومة البيئية منذ بزوغ فجر الثورة الصناعية والقفزة الاقتصادية التي عرفتها البشرية خلال العقود الاخيرة، بالاضافة إلى زيادة عدد السكان وتنامي الاستثمارات الفالحية والاسراف في استغالل الموارد الطبيعية ، مما أفضى إلى مشكالت بيئية متعددة من قبيل: تلوث الهواء، تلوث المياه، تراجع الغطاء النباتي وتفاقم مشكلة النفايات وانتشار الامراض، كما أن التقدم العلمي والتكنولوجي قد أدى إلى تطور الحياة الانسانية في شتى المجالات خاصة ذلك التطور المذهل في وسائل الاتصال والمواصالت، وتطور تكنولوجيات الصناعات الثقيلة كالطائرات والاساطيل البحرية والجوية والسيارات والصناعات الكيماوية التي أدت بال شك إلى تطور الانسانية، بيد أن ذلك التطور قد أدى إلى نتائج عكسية للبيئة التي يعيش فيها الانسان وسائر الكائنات الحية من نبات وحيوان وهو ما دفع البعض إلى القول أن" التطور والتقدم العلمي جعل –بضم الجيم وكسر العين- في كثير من الاحيان نقمة على الانسان بدل أن يكون نعمة له وللبيئة التي يعيش فيها".
لذلك تعالت الاصوات بين شعوب العالم تنادي بضرورة المحافظة على البيئة من الاعتداءات الواقعة عليها وحمايتها، وذلك من خلال وضع التشريعات واآلليات الكفيلة للحد من الاضرار الواقعة عليها، أو على الاقل التقليل منها إيمانا بأن الحماية الوقائية للبيئة خير من حمايتها العالجية والمتمثلة في التعويض عن الاضرار بعد وقوعها. وقد حظيت فكرة اللجوء إلى اآلليات البديلة لحل النزاعات بعناية خاصة وتم الاعتماد على الكثير من الوسائل في العديد من النصوص التشريعية سواء من طرف المشرع المغربي أو التشريعات المقارنة، غير أن خصوصية النزاعات البيئية كنزاعات تتعلق بمجال حيوي هو البيئة، باعتبارها تراثا مشتركا الانسانية جمعاء وباعتبار حماية البيئة أضحت تشكل بعدا جوهريا من أبعاد التنمية المستدامة، إلى جانب البعد الاقتصادي والاجتماعي، كل ذلك اقتضى التفكير في إيجاد تدابير ووسائل بديلة عن اآلليات الرسمية التقليدية من شأنها أن تساهم في الحد من الاعتداءات البيئية أو على الاقل التقليص منها، ويسير الاتجاه الحديث نحو الاخذ ببعض الوسائل واآلليات البديلة في مجال حماية البيئة، كخيار يعول عليه لتجاوز الفشل الذي برهنت عنه سياسة العقاب التقليدية.
وبالتالي فاآلليات البديلة تتدخل في حل النزاعات البيئية إما قبل نشوء النزاع البيئي - وتدخلها هنا يكون قبليا- وإما بعد نشوئه -ويكون تدخلها حينئذ بعديا-، كما أن اآلليات المستعملة سواء كانت قبلية أو بعدية تختلف حسب ما إذا كانت النزاعات البيئية وطنية أو دولية، إذ أن كل نزاع له آلية محددة ومختلفة استعملها المشرع الوطني أو الدولي من أجل تجنب النزاعات البيئية قبل حدوثها أو تسويتها وديا بعد وقوعها.
أوال: تحديد المفاهيم الاساسية:
عملت معظم دول العالم على وضع خطط وتشريعات، وإنشاء مؤسسات لحماية البيئة وإيجاد اآلليات الكفيلة بوضع حد للنزاعات المرتبطة بها، والمغرب كغيره من الدول انتهج نفس المنهاج من خلال إصدار العديد من التشريعات والقوانين لحماية البيئة ورعايتها، مثل 9 القانون رقم 17.49 المتعلق بدراسة التقييم البيئي ، والقانون 03.11 المتعلق بحماية ،والقانون رقم 12.99 11 ، والقانون 03.13 المتعلق بمكافحة تلوث الهواء 10 واستصالح البيئة ، والقانون رقم 00.28 المتعلق بتدبير 12 بمثابة ميثاق وطني للبيئة والتنمية المستدامة ، والقانون رقم 15.77 المتعلق بمنع صنع الاكياس البالستيكية 13 النفايات والتخلص منها وغيرها من 15 ، والقانون رقم 15.36 المتعلق بالماء 14 وتصديرها وتسويقها واستعمالها القوانين، ونتيجة لذلك فقد تضمنت هذه التشريعات أحكاما لمساءلة المخالفين لاللتزامات والواجبات المتعلقة بحماية البيئة وهو ما يسمى "بالمسؤولية عن الاضرار البيئية"، وخلال هذه الدراسة سيتم الوقوف على اآلليات البديلة لفض النزاعات البيئية أي اآلليات المتاحة لفض وتسوية النزاع البيئي سلميا ووديا دون اللجوء إلى قضاء الدولة.
وعليه فاآلليات البديلة: هي تلك اآلليات والطرق التي يلجأ إليها الاطراف كبديل للتقاضي أمام القضاء العادي، عند وقوع نزاع بينهم قصد التوصل لتسوية وحل ذلك النزاع بطريقة ودية وسلمية . النزاعات: جمع نزاع من نازع، ينازع، نزاعا، ومنازعة والنزاع بمعنى الشقاق،ويقال ، والنزاع بصفة عامة هي حالة من عدم أمر منازع فيه أي أمر حوله نزاع وخصام الانسجام في الاهداف والسلوك، أو هي ظاهرة عامة تظهر عندما يدرك فردان أو مجموعتان أو أكثر أن لديهم أهدافا متعارضة، على أن يتم تسوية الخالف إما بالعنف والقوة أو استخدام وسائل وآليات سليمة الحتواء النزاع وفضه دون اللجوء إلى الجهات القضائية البيئية: تستقي كلمة البيئة جذورها في اللغة العربية من الفعل الثالثي "بوأ" ويقال لغة تبوأ فالن منزلة في قومه بمعنى احتل مكانة عندهم، كما يقال تبوأ الرجل منزال أي نزل ، وأورد ابن منظور في معجم لسان العرب معنى باء إلى الشيء أي رجع إليه، كما فيه أحال ابن منظور إلى معنيين متقاربين لنفس الكلمة، بحيث يحيل الاول على الاصالح ، ويقال عن البيئة كذلك" المحيط"، فيقال المكان وهيئته، والثاني بمعنى النزول والاقامة "الانسان ابن بيئته" كما جاء أن البيئة هي الوسط والمحيط بما تشتمله من هواء وماء ، وفضاء وتربة وكائنات حية أما في الاصطالح، فتحيل الداللة الاصطالحية لمفهوم البيئة على أنها الوسط أو المجال المكاني الذي يعيش فيه الانسان مؤثرا ومتأثرا، وهذا الوسط قد يتسع ليشمل منطقة ، كما ورد تعريف آخر للبيئة بأنها: الوسط كبيرة جدا وقد يضيق ليكون منطقة صغيرة جدا الذي يولد فيها الانسان وينشأ ويعيش فيه إلى نهاية عمره، وتشمل البيئة جميع العوالم الطبيعية والبيولوجية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية وكل ما يؤثر على الانسان بطريقة 22 مباشرة أو غير مباشرة .
وقد حمل مؤتمر الامم المتحدة للبيئة البشرية المنعقد سنة 1972 بمدينة ستوكهولم شعارا "نحن لا نملكالاكرة أرضية واحدة "، إشارة إلى أن البيئة ككل واحدة ولا تتجزأ مهما تباعدت مواقع البشر فإنهم يعيشون على الارض نفسها ويعانون من المشاكل ذاتها،حيث عرفها المؤتمر المذكور أعاله بأنها "كل شيء يحيط بالانسان سواء كان طبيعيا أو بشريا"، في حين عرفها مؤتمر بلغراد لسنة 1975 بأنها "العالقة القائمة في العالم الطبيعي والبيوفيزيائي بينه وبين العالم الاجتماعي الاساسي الذي هو من صنع "، وفي المؤتمر الدولي للتربية البيئة الذي عقد في مدينة تبليسي بجمهورية الانسان جورجيا السوفياتية خلال الفترة الممتدة من 14 إلى 26 أكتوبر 1977 عرف البيئة أنها "الاطار الذي يعيش فيه الانسان ويحصل منه على مقومات حياته من غداء وكساء ودواء ومأوى ويمارس فيه عالقاته مع إخوانه من بني البشر" وقد عرف المشرع المغربي البيئة من خلال القانون 03.11المتعلق بحماية واستصالح البيئة في مادته الثالثة حيث جاء فيها "البيئة هي مجموعة من العناصر الطبيعية والمنشآت وكذا العوالم الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي تمكن من تواجد الكائنات الحية والانشطة الانسانية وتساعد على تطوراتها." كذلك عرفها من خلال الفقرة الاولى من المادة الاولى من القانون رقم 17.49 المتعلق بالتقييم البيئي بأنها" مجموع العناصر الطبيعية والمنشآت البشرية وكذا العوالم الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي تمكن من تواجد الكائنات الحية ولأنشطة البشرية وتساعد على تطورها والحفاظ عليها".
أما المشرع المصري عرف البيئة بأنها" المحيط الحيوي الذي يشمل الكائنات الحية وما تحتويه من مواد وما يحيط بها من هواء وماء وتربية وما يقيمه الانسان من منشآت" في حين عرفها المشرع اللبناني من خلال المادة الثانية من قانون البيئة رقم 444 بأنها "المحيط الطبيعي والاجتماعي الذي تعيش في الكائنات الحية كافة ونظم التفاعل داخل ،والمشرع الجزائري عرفها في القانون رقم 03.10 المتعلق المحيط وداخل الكائنات" بحماية البيئة في إطار التنمية المستدامة في المادة الرابعة وبالتحديد في فقرتها السابعة أن البيئة "تتكون من المواد الحيوية والالحيوية كالهواء والجو والارض وباطن الارض والنبات والحيوان، بما في ذلك التراث الوراثي وأشكال التفاعل بين الموارد وكذا الاماكن والمناظر والمعالم الطبيعية ."
وانطالقا من وحي عبارة "لكل داء دواء" "ولكل نزاع حل" ظهرت فكرة اآلليات البديلة لفض النزاعات في مختلف المجالات، ومنها المجال البيئي فهي قبل كل شيء "آلية" لأن الاشخاص الذين يعتمدون عليها يبررون بها الغاية التي يودون الوصول إليها، وإذا لم تعطي اآللية الاولى أكلها يتجهون إلى استخدام اآلليات الاخرى حسب الاحولا وهي أيضا "بديلة" والبديل يحل محل شيء دون أن يكون أقل قيمة منه وعليه يقصد باآلليات البديلة لفض النزاعات البيئية مختلف الاجراءات والمساطر الودية، التي يتم سلوكها لحل النزاعات البيئية الناشئة عن مخالفة الاحكام والقوانين المتعلقة بحماية البيئة، إن على المستوى الوطني أو الدولي، إذ يتم تسوية الاشكالات البيئية وحلها قبل عرضها على قضاء الدولة.