أولا- الاطار العام للموضوع
تكتسي السلطة القضائية أهمية خاصة، باعتبارها أهم ضمانة الحترام حقوق الانسان وحماية مصالح الافراد والجماعات، وباعتبارها اآللية المعهود إليها ضمان سيادة القانون، ومساواة الجميع أمام مقتضياته. ويترتب عن الثقة في استقالل و نزاهة القضاء، دوران عجلة الاقتصاد بشكل فعال ومنتج، وتنشيط الاستثمارات، وتحقيق التنمية، وتشجيع الاستثمارات الخارجية، وتلميع صورة المغرب في وجه المستثمرين الاجانب الذين يبحثون عن قضاء ناجع وفعال وسريع يضمن لهم حقوقهم. فالقضاء يعتبر إحدى أهم الدعامات الاساسية لبناء دولة الحق و القانون، وهو يضطلع بمهمة الفصل في الحقوق المتنازع حولها، وفق مساطر قانونية تضمن شروط المحاكمة العادلة شكال ومضمونا.
إذ أن الحق في محاكمة عادلة، وحق اللجوء إلى القضاء، ومبدأ ضمان حق الدفاع، وغيرها من الضمانات القانونية الاخرى تدور كلها في فلك الاستقاللية، فاستقاللية القاضي والقضاء، وحياد العدالة في محور كل تلك الضمانات القانونية، وهو ما يفسر كون مبدأ استقاللية السلطة القضائية هو محور الاهتمام العالمي الحديث، فال مجال كلية للحديث عن أي ضمانات قانونية في أي ميدان قانوني، طالما أن من يترجم تلك القواعد 4 القانونية إلى واقع عملي غير مستقل وغير محايد . ونظرا لأهمية مبدأ استقاللية السلطة القضائية في حياة الامم، فإنه أصبح مقياسا لمؤشرات التنمية في دول العالم بصورة يحسم في طبيعة ومدى تقدم الدول أو تأخرها.
ولذلك فقد نصت جل دساتير الدول المتحضرة، على مبدأ استقاللية السلطة القضائية عن السلطتين التشريعية والتنفيذية، بما في ذلك دساتير المملكة المغربية.الاأن المالحظ، هو أن الدساتير المغربية السابقة و خصوصا دستور سنة 1996 ،لم تكن تعترف للقضاء بوصف السلطة، بحيث نص الفصل 82 من دستور سنة 1996 على أن: " القضاء مستقل عن السلطة 5 التشريعية وعن السلطة التنفيذية" . وعلى إثر ذلك، كثر الجدل بين فقهاء القانون، واختلفت اآلراء حول طبيعته، هل هو وظيفة، أم سلطة، أم هيئة قضائية؟ حيث أن هناك من كان يعتبره سلطة، والبعض اآلخر كان يراه وظيفة، في حين ذهب فريق ثالث إلى اعتباره هيئة قضائية تختلف طبيعتها ومهمتها عن باقي السلط الاخرى في الدولة، مع العلم بأن اعتبار القضاء سلطة مستقلة كان يلقى قبولا عاما 6 في غالبية النظم القانونية، وفي عالمنا المعاصر بما في ذلك المغرب . ولقد وضع دستور سنة 2011 لبنة أساسية في استقاللية السلطة القضائية، إذ من بين المرتكزات التي أشار إليها الخطاب الملكي ل 9 مارس 2011 ضرورة الارتقاء بالقضاء إلى سلطة مستقلة، وبذلك تقرر إحداث المجلس الاعلى للسلطة القضائية برئاسة الملك، وهذه إشارة إلى أن المغرب دخل منذ سنة 2011 مرحلة فصل السلط، لينهي بذلك الخالف الفقهي الذي كان دائرا في إطار دستور سنة 1996 حول طبيعة القضاء بالمغرب.
وقد حرص أيضا دستور سنة 2011 على التأكيد على استقالل القضاء، إذ أنه خصص الباب السابع منه للسلطة القضائية – تحت عنوان السلطة القضائية – وهو ما يفصح بجالء على أن دستور 2011 اعتبر القضاء إحدى سلطات الدولة الثالث، حيث جاء فيه على أن:" . كما أنه عمل على السلطة القضائية مستقلة عن السلطة التشريعية وعن السلطة التنفيذية" إيراد العديد من النصوص التي تؤكد هذا الاستقالل. إذ نص على أنه : " يمنع كل تدخل في القضايا المعروضة على القضاء، ولا يتلقى القاضي بشأن مهمته القضائية أي أوامر أو تعليمات ولا يخضع لأي ضغط. و يجب على القاضي، كلما اعتبر أن استقالله مهدد، أن يحيل الامر إلى المجلس الاعلى للسلطة القضائية" . كما أنه نص على أنه :" لا يلزم قضاة الاحكامالابتطبيق القانون ولا تصدر أحكام القضاءالاعلى أساس التطبيق العادل للقانون".
كما قرر" بأن يتولى القاضي حماية حقوق الاشخاص والجماعات وحرياتهم وأمنهم القضائي وتطبيق القانون ... هذا وإذا كان دستور سنة 2011 قد متع القضاة بالعديد من الضمانات ، وأهمها حقهم في التعبير بما يتالءم مع واجب التحفظ والاخالقيات القضائية، إضافة إلى إمكانية انتمائهم إلى جمعيات، أو إنشاء جمعيات مهنية مع احترام واجبات التجرد والاستقالل والاخالقيات القضائية، فإنه اعتبر بأن كل إخلال من القاضي بواجب الاستقالل والتجرد خطأ مهنيا جسيما، بصرف النظر عن المتابعات القضائية المحتملة. فالمشرع المغربي يهدف من وراء ذلك إلى التأكيد على أهمية المبدأ الدستوري المتعلق بربط المسؤولية بالمحاسبة، والذي يجعل من كل شخص يمارس مسؤولية عمومية، سواء كان معينا أو منتخبا، أن يقدم طبقا للمقتضيات المقررة قانونا، تصريحا كتابيا بالاصول والممتلكات التي في حيازته، وذلك بمجرد تسلمه لمهامه، وأثناء ممارستها، وعند انتهائه منها.
وتجدر الاشارة في هذا الصدد، إلى أن مستجدات دستور سنة 2011 بخصوص السلطة القضائية، وأيضا توصيات الهيئة العليا للحوار الوطني حول إصالح منظومة العدالة، تمت ترجمة محتوياتهما في القانونين التنظيميين المتعلقين بالمجلس الاعلى للسلطة القضائية والنظام الاساسي للقضاة، من أجل توطيد استقاللية السلطة القضائية، وإبراز مكانتها بين السلطات الاخرى في الدولة. ثانيا- أهمية الموضوع يكتسي موضوع استقالل السلطة القضائية أهمية كبيرة سواء من قبل المنظمات الدولية أو الوطنية ذات الصلة بالموضوع. بحيث نجد كثير من المؤتمرات والندوات التي نظمت والتي ما زالت تنظم تتطرق لموضوع استقالل السلطة القضائية، الذي يعتبر قطب الرحى لكل ممارسة ديموقراطية. وتتجلى الاهمية العلمية لموضوع استقالل السلطة القضائية، في كون أن هذا الموضوع يعتبر من المواضيع التي تفرض نفسها بإلحاح في مجال الدراسات القانونية.
كما أنه يلقى اهتماما واسعا من قبل العالمين في المجال القانوني والحقوقي، سواء أكانوا أساتذة في كليات الحقوق، أو قضاة، أو محامون... أما بالنسبة للأهمية العملية لموضوع استقالل السلطة القضائية، فتتجلى في كون أن استقالل القضاء والعدل هما وجهين لعملة واحدة،لانهبواسطة القضاء المستقل يتحقق العدل، وتصان الحقوق، ويتضاعف شعور المواطنين بالامن والاستقرار. ثالثا- إشكاليات البحث يثير موضوع استقالل السلطة الكثير من الاشكاليات والتساؤالت التي سنحاول الاجابة عنها و تفكيكها من خلال التطرق إلى النصوص الدستورية و القانونية المنظمة للسلطة القضائية وتحليلها، وكذلك من خلال إبراز المكانة التي يحتلها القضاء في النظام السياسي المغربي و في المجتمع على مستوى الواقع العملي.
وإذا كان المشرع المغربي قد أصدر القانونين التنظيميين المتعلقين بالمجلس الاعلى للسلطة القضائية و النظام الاساسي للقضاة بالجريدة الرسمية للمملكة يوم الخميس 14 أبريل 2016 ،والذين يضمان مجموعة من القواعد القانونية التي تنظم السلطة القضائية بالمغرب، فإن الاشكالية المحورية التي تثار في هذا الصدد هي كالتالي:
إلى أي حد استطاع المشرع المغربي من خلال دستور 2011 و القوانين التنظيمية المتعلقة بالسلطة القضائية لسنة 2016 تقوية و توطيد الدعامات والضمانات الالزمة الستقالل السلطة القضائية بالمغرب؟ وتتفرع عن هذه الاشكالية المحورية، مجموعة من التساؤالت الفرعية أهمها: - هل استطاع دستور 2011 و القوانين التنظيمية المتعلقة بالسلطة القضائية لسنة 2016 التأسيس لسلطة قضائية حقيقية ومستقلة؟ - وهل استطاع دستور 2011 و القوانين التنظيمية المتعلقة بالسلطة القضائية لسنة 2016 حسم الخالف الفقهي حول اعتبار القضاء "سلطة" أم "وظيفة" من وظائف السلطة التنفيذية؟ - ما هي دعامات استقالل السلطة القضائية بالمغرب؟ - ما هي ضمانات استقالل القضاة بالمغرب؟ رابعا- المناهج المعتمدة في البحث الاحاطة بالاشكالية المحورية، ومختلف التساؤالت الفرعية المتعلقة بهذا البحث، كنا مجبرين من الناحية المنهجية على اعتماد أكثر من منهج، ذلك أن تدخل وتشعب هذا الموضوع لن يسعفنا في فهمه اعتماد منهج واحد.
لذلك كان من الضروري الاعتماد على مجموعة من المناهج العلمية، أهمها:
- المنهج البنيوي: و ذلك من خلال التطرق إلى بنية و تشكيلة مؤسسة المجلس الاعلى للسلطة القضائية قبل و بعد دستور 2011.
- المنهج المقارن: وذلك من خلال إجراء مقارنة بين النصوص الدستورية و القانونية المنظمة للسلطة القضائية قبل و بعد دستور من 2011 ،من أجل إبراز المكانة التي أصبحت تحتلها السلطة القضائية بالمغرب. و تجدر الاشارة إلى أن المنهج العلمي فرض علينا اعتماد التحليل و المالحظة انطالقا من جمع النصوص الدستورية و القانونية التي تنص على هذا الاستقالل و تحليل واقع استقالل القضاء بالمغرب. خامسا- خطة البحث وعلى أساس ما سلف ذكره ، سنتطرق لموضوع استقالل السلطة القضائية بالمغرب "الدعامات والضمانات"، من خلال الوقوف على الدعامات الكفيلة لتوطيد استقالل السلطة القضائية بالمغرب وذلك في فصل أول. على أن نقف على الضمانات الالزمة الستقالل القضاة بالمغرب في فصل ثان. وهكذا تتحدد خطتنا كالتالي:
الفصل الاول: دعامات استقالل السلطة القضائية بالمغرب.
الفصل الثاني: ضمانات استقالل القضاة بالمغرب.