بحث بعنوان الالتزام بتكييف الواقعة الاجرامية
رسائل و أطروحات في القانون الجزائري

مقدمة
يثير تكييف الواقعة الإجرامية مشاكل عديدة و متنوعة سواء من الناحية النظرية أو من الناحية التطبيقية، فمن الناحية النظرية نجد أن الفقهاء لم يتمكنوا من وضع نظرية كالمة المعالم بخصوص مسلأة تكييف الواقعة الإجرامية، بل حتى أنهم لم يتفقوا على تعريف موحد يلم بجميع جوانب التكييف، أو ضبط أسسه و قواعده، أما من الناحية التطبيقية فإن المشاكل التي يثيرها التكييف تكمن في الوقائع و الظروف التي تؤثر في التكييف سواء سلبا أو إيجابا، و كذا الإجراءات القانونية التي تتأثر في حد ذاتها بالتكييف، كما تطرح المشكلة كذلك عند تطبيق التكييف أو تعديل أو تغيير التهمة بعد تكييفها من جهات معينة عبر جميع المراحل التي تمر عليها الدعوى العمومية، إبتداء من جهة الإتهام وصولا إلى محكمة النقض باعتبارها أعلى درجة من درجات التقاضي. و التكييف في القانون الجزائي هو " إعطاء الفعل المكون للجريمة وصفه القانوني الصحيح،ومن ثم تحديد طبيعته القانونية وفقا لنص القانون، و بيان ما إذا كان يشكل جناية أو جنحة أو مخالفة " .
و عليه نجد أن أول مشكلة تعترض التكييف تتمثل في معرفة ما إذا كانت الوقائع التي تم إثباتها قابلة للتكييف القانوني أم لا؟ أي أنها تتماثل مع مضمون القاعدة القانونية المزعوم تطبيقها أم لا؟ فتكييف الواقعة الإجرامية واجب يقع على المحكمة الجزائية التقيد به في الحكم الذي تنتهي إليه بعد تحليل الوقائع، و استخلاص الوصف القانوني، و كذا النص الذي ينطبق على تلك الأفعال المجرمة، على أن تتقيد بوقائع الدعوى سواء من حيث مادياتها أو من حيث أشخاصها، دون أن تكون ملزمة بالتقيد بالتكييف الذي أسبغته جهة الإتهام على وقائع الدعوى باعتبارها أول جهة قضائية خولها القانون مهمة تكييف الواقعة الإجرامية موضوع الدعوى العمومية، أو التكييف الذي أحيل إليها من جهة التحقيق سواء كان قاضي تحقيق أو غرفة الإتهام. كما يعد التكييف مرحلة من مراحل الفصل في الدعوى العمومية، فهو عملية ذهنية منطقية تعد من صميم نشاط القاضي الجنائي المؤسس على الإستدلال المنطقي عند فصله في الدعوى العمومية، و ذلك بعد أن يقوم بإثبات الوقائع موضوع الدعوى التي رفعت إليه.
أهمية الدراسة:
تبرز أهمية هذا الموضوع لما له من أثر في تحديد نوع الجريمة في إطار التقسيم الثلاثي جنايات – جنح – مخالفات، و تحديد إختصاص المحكمة التي يؤول إليها البت في الدعوى المرفوعة إليها، و بذلك إسباغ التكييف القانوني المناسب للوقائع، و كذا في تسبيب الأحكام و القرارات الجنائية تسبيبا قانونيا سيما و أنها محل رقابة من جهة قضائية عليا. كذلك تبرز أهميته بالنسبة لأطراف الدعوى الجنائية كل حسب دوره و مصلحته في الدعوى، و تنتج كل تلك الأهمية من ارتباط التكييف مباشرة بمبدأ الشرعية الجنائية، إضافة إلى إرتباطه بالتهمة الجنائية و ما يترتب عليها و التي هي ذات أثر سلبي على المتهم تقوم على نشاط إجرائي يتمثل في إسناد أو محاولة إسناد واقعة تشكل جريمة إلى متهم عن طريق رسم هذه الواقعة و تحديد معالمها و حدودها و ذلك من خلال ما تقوم به النيابة العامة من تحقيقات و مناقشات و استجوابات لتحديد الواقعة الإجرامية.
بالإضافة إلى ذلك تبدو أهمية الموضوع من أهمية الإجراءات الجزائية، حيث أنه يشتمل على غالبية الإجراءات إذ يتعرض لسلطة الإتهام و سلطة التحقيق و كذا سلطة الحكم، مع تحديد إختصاصات كل منهم، و كذا من حيث المحاكمة الجزائية من خلال وضع آليات تمكنها من نظر الدعوى العمومية المرفوعة إليها، و القيود التي هي ملزمة بعدم تجاوزها و هذا بهدف تحقيق العدالة و تطبيق القانون. أسباب اختيار الموضوع: ترجع أسباب إختيار الموضوع لأهميته في مجال الإجراءات الجزائية، سواء من الناحية النظرية أم من الناحية التطبيقية، و لقلة المؤلفات التي تناولته كموضوع مستقل –هذا إن لم نقل لندرتها ، - إضافة إلى الطابع الذي يميز هذا الموضوع كونه موضوع عملي أكثر من كونه نظري، و هو من صميم عمل القاضي و دعامة من دعائم إصدار الأحكام القضائية بشكل قانوني، بل و يثير إهتمام كل باحث في القانون.
و تجدر الإشارة إلى أن هذا الموضوع لم تتم دراسته بشكل علمي مفصل سواء من الناحية النظرية أو من الناحية التطبيقية، و السبب في ذلك يرجع إلى ما يكتنف هذا الموضوع من صعوبات و مشاكل، الأمر الذي حال دون تمكن الفقهاء من وضع نظرية كالمة و شالمة لبيان تكييف الواقعة الإجرامية، و كذا آليات تطبيقه على المستوى العملي، سيما و أن التكييف يمثل أهم الجوانب الإجرائية التي تمثل الدعامة التي يقوم عليها عمل القاضي الجزائي عند نظره الدعوى العمومية، كما أن رجال القانون الذين كتبوا في هذا الموضوع اعتمدوا في دراستهم على الإختلافات الفقهية حول بعض المسائل التي تشمل التكييف دون الوصول إلى إجماع و لو جزئي لإزالة الغموض و اللبس الذي يثيره هذا الموضوع.
الدراسات السابقة:
أما عن الدراسات التي تناولت هذا الموضوع فيمكن القول أنها تكاد تكون ضئيلة، سيما و أن المنهجية التي تم تناول الموضوع من خلالها عبارة عن تحليل لآر اء فقهية في ظل غياب نصوص قانونية خاصة بالتكييف، لتحديد أسسه و ضوابطه و آلياته، و من بين هذه الدراسات كتاب التكييف في المواد الجنائية لمحمود عبد ربه القبلاوي، و التكييف في المواد الجنائية لمحمد علي سويلم، ومؤخرا كانت هناك مذكرة لنيل شهادة دكتوراه حول تكييف الإتهام و أثره في مراحل الدعوى الجنائية وهي دراسة مقارنة بين التشريع و أحكام الشريعة الإسلامية، أما باقي الدراسات فهي واردة كعناصر فقط في مواضيع مختلفة مرتبطة بالقانون الجنائي سواء من الناحية الإجرائية أو من الناحية الموضوعية.
إشكالية الموضوع:
يطرح موضوع االاتزام بتكييف الواقعة الإجرامية إشكالية هامة تتمثل في: ما هي آليات تطبيق التكييف على الواقعة الإجرامية موضوع الدعوى العمومية المعروضة على القضاء؟ كما يطرح عدة تساؤلات فرعية تتمثل في: ما هي أسس و قواعد التكييف؟ و ما هي الوقائع و الإجراءات المؤثرة في التكييف؟ و كيفية تطبيقه عبر مراحل الدعوى العمومية؟
المنهج المعتمد:
للإجابة على الإشكالية و التساؤلات التي يثيرها هذا الموضوع، إعتمدت في هذه الدراسة على مناهج متنوعة تقتضيها طبيعة الدراسة: فالمنهج الوصفي كان إستعماله من أجل توضيح بعض المفاهيم القانونية التي تتعلق بالموضوع، كتحديد مفهوم التكييف و مفهوم الواقعة الإجرامية و المطابقة، و كل المصطلحات القانونية التي لها علاقة بالموضوع. أما المنهج الإستقرائي فمن أجل ملاحظة عناصر الموضوع و الوقوف على جميع الجزئيات و الحقائق التي تتعلق بالموضوع، و كذلك المشاكل التي يثيرها هذا الموضوع سواء من الناحية النظرية أو من الناحية التطبيقية.
و المنهج الإستدلالي لأنه الأصلح في تكييف الوقائع. كما اعتمدت المنهج المقارن في بعض الحالات التي قارنت فيها بين نصوص بعض التشريعات كالتشريع الجزائري و المصري و الفرنسي، مع الإشارة في بعض الحالات إلى التشريع الإيطالي و البلجيكي. أهداف الدراسة: إن الهدف الأساسي من هذه الدراسة، هو الوقوف على مفهوم التكييف سيما و أن الفقه الذي يختص بهذه المسلأة لم يتمكن من وضع نظرية و مفهوم شالم لهذا المصطلح القانوني، و كذا الوقوف على معرفة أسسه و قواعده، و معرفة الحدود التي يلتزم بها كل من هو مختص بتطبيق التكييف، سواء كانت جهة إتهام أو جهة تحقيق أو جهة حكم، و كذا كيفية تأثر التكييف و تأثيره على الوقائع و الإجراءات القانونية.
خطة البحث:
لدراسة هذا الموضوع كانت الخطة بتقسيمه إلى فصلين، تناول الفصل الأول االاتزام بتكييف الواقعة الإجرامية من الناحية النظرية، و الذي تم تقسيمه إلى مبحثين، تناول المبحث الأول بنيان تكييف الواقعة الإجرامية، و ذلك من خلال التطرق إلى بيان الواقعة الإجرامية في المطلب الأول، و بيان النص القانوني أو القاعدة الجنائية في المطلب الثاني، فيما تناول المبحث الثاني قواعد تكييف الواقعة الإجرامية و ذلك من خلال التطرق للقواعد العامة التي تحكم التكييف في المطلب الأول، و القواعد الخاصة بالتكييف في المطلب الثاني. و تناول الفصل الثاني االاتزام بتكييف الواقعة الإجرامية من الناحية التطبيقية، و تم تقسيم هذا الفصل إلى مبحثين، المبحث الأول تضمن الوقائع و الإجراءات المؤثرة في التكييف، و هذا من خلال تقسيمه إلى مطلبين، المطلب الأول تضمن الوقائع المؤثرة في التكييف، أما المطلب الثاني فتضمن الإجراءات التي تتأثر بالتكييف، و تناول المبحث الثاني تطبيق التكييف عبر مراحل الدعوى العمومية، و قد تم تقسيمه بدوره إلى مطلبين، المطلب الأول يبرز تطبيق التكييف قبل إحالة الدعوى على جهة الحكم، فيما يبرز المطلب الثاني تطبيق التكييف بعد الإحالة. لنصل إلى خاتمة الموضوع التي تناولت عرض ملخص للموضوع، و إبراز النتائج التي تم التوصل إليها من خلال دراسة هذا الموضوع، و أخيرا الإقتراحات.