التطور التاريخي للمسؤولية الجنائية للطبيب
مجموعة بحوث وعروض في القانون الجنائي والمسؤولية الجنائية للطبيب
1 - المسؤولية الطبية في التشريعات القديمة .
إذا كانت لمهنة الطب جذور تاريخية عريقة في الحضارات القديمة، فإن المسؤولية الطبية ليست حديثة العهد، فهي قديمة قدم الطب نفسه، وقد عرفتها أقدم الحضارات من بينهم قدماء المصريين، الذين اهتموا بالطب ووضعوا مجموعة من القواعد التي كان يتبعها الأطباء القدامى في سجل أطلق عليه (السفر المقدس)، وفرضوا على الطبيب إتباع ما جاء في هذا الكتاب وإلا تعرض للمسؤولية والعقاب الذي كان يصل إلى حد الإعدام.
و قي عهد البابليين والآشوريين ببلاد الرافدين، تطورت مهنة أو فن الطب، فتقررت المسؤولية الطبية للمرة الأولى في تشريع (حمو رابي)، وذلك من خلال تحريم الأعمال الغير المشروعة لمهنة الطب، ولم يسمح للطبيب بالعمل إلا بعد انتهاء من دراسة الطب وأداء القسم، وقد تضمنت مدونة حمورابي11 مادة من أصل 282 مادة، تتعلق بالأطباء والصيادلة و البياطرة، ونصت على بعض الغرامات التي كان يلزم بها الأطباء في حالة ارتكابهم الأخطاء الطبية.
وعند اليونان، وضعت مجموعة من الضوابط الخاصة بمزاولة مهنة الطب، وجعله علما قائما على البحث والتجربة، وكانت بداية لتطور الطب، خاصة بعد وضع (قسم أبو أقراط)، الذي تضمن بعض الواجبات المفروضة على الطبيب، وكذلك مسؤولياته تجاه المريض، وقد كانت مسؤولية الأطباء في عمومها صورية، بسبب سكوت المرضى وامتناعهم عن الشكوى، وشعور الأطباء بعضهم تجاه بعض بالزمالة(1)٬ وما يمكن ملاحظته في هذه الفترة هو أن هناك تباين في العقوبة المقررة للطبيب المخطئ بناء على الوضع الاجتماعي لكل من الطبيب والمريض كما امتدت الصيرورة التاريخية للطب إلى الرومان، الذين قاموا بتعليم الطب وجعله مفتوح في وجه عامة الناس، كما جردوا المشتغلين بالعلاج بطريقة السحر والشعوذة من صفة طبيب، وكانوا يعاقبون وفقا لقانون ( أكويلا Aquila)، وكانت المسؤولية تقام عن الخطأ العمدي والإهمال، وكانت عقوبة الطبيب تصل احيانا إلى الإعدام (2).
2 - المسؤولية الجنائية للطبيب في الشريعة الإسلامية : لقد أجازت الشريعة الإسلامية ممارسة الطب، ومنحت الأطباء الحرية التامة في مزاولة أعمالهم الطبية، ومن المسلم به أن نفس الإنسان جسده ملك لله غز وجل و ليس ملكا له ، بأي حال من الأحوال ولدلك فلا يجوز للإنسان أن يتعدى على نفسه، و يلحق الضرر بها سواء كان هدا الاعتداء مباشرا كالقتل، أو كان الاعتداء غير مباشر كان يعرض الإنسان نفسه للمخاطر او يمتنع عن الاخد بالأسباب في العلاج مصداقا لقول الله تعالى(ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما )(3)٬ قوله تعالى (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة)(4).
وقد جاء في السنة النبوية ايصا جملة من الأحاديث النبوية التي تؤكد ما اورده الله في محكم كتابه، منها قول الرسول صلى الله عليه وسلم (تداووا عباد الله فإن الله لم يضع دواء إلا ووضع له شفاء)(1) .
وقد اعتبر فقهاء الشريعة الإسلامية أن مهنة الطب تحتاج إلى الاجتهاد في علاج الأمراض على أحسن وجه، ولو خالف الطبيب أراء غيره من الأطباء متى بنى اجتهاده على أساس طبي دقيق، فلا يسأل الطبيب ولو خالف بعض أراء زملائه متى كان رأيه يقوم على أساس سليم،وعليه ان يبحث دائما عن سبيل العلاج التي تحقق للمرضى السكينة و الاستقرار .
ويستفاد مما سبق٬ أن الشريعة الإسلامية تحث على تعلم مهنة الطب، والامتناع من معالجة الناس من دون علم لما لها من خطر على صحتهم، لذلك يسأل الطبيب (الجاهل)، عما ينتج عن أفعاله من إلحاق الضرر بالناس، و يعتبر متعمدا في إلحاقه الضرر بهم(2) ، وقد كانت النظريات الطبية في العهد الاسلامي لثر كبير على تاريخ الطب في المغرب و الاندلس فاشتهرت المنطقة بالطب النباتي، خلال القرن 6ه/ 12م، الدي ابتكره العديد من الأطباء، من بينهم الطبيب (أبو مروان عبد الملك بن زهر) الذي تميز في علاج الأمراض المستعصية ، و(أبو الوليد بن رشد) الذي تميز في علم التشريح والجراحة.
أما في العهد المر يني، خاصة في زمن السلطان (أبي الحسن علي المر يني)، ما بين 710ه / 1310م و 731 ه / 1331 م اشتهر الطبيب( أبو الحسن علي المراكشي) في علم الطب النباتي لعلاج الأمراض الجنسية و التجميلية (3) .
3- المسؤولية الجنائية في التشريعات الحديثة : - التشريع الفرنسي ׃ صدر أول قانون منظم لمهنة الطب في فرنسا في 10 مارس 1803 و عرف بقانون (فنتزوز 19 Ventouse)، وتضمن مجموعة من القواعد التنظيمية لمهنة الطب، إلا انه لم يتضمن الأحكام الخاصة بالمسؤولية الطبية، و في عهد نابليون، صدر قانون العقوبات الفرنسي في سنة 1810، الذي تضمن بعض القواعد العامة التي تحكم العمل الطبي، و تمتاز هذه الفترة بكونها كانت تحمل في طياتها البوادر الأولى للمسؤولية الطبية، ولكن بشكل محدود؛ كالإجهاض، والإفشاء السر المهني .
و تعتبر المحاكم الفرنسية الجهة الرئيسية التي قامت بالخطوة الحقيقية في مجال لإرساء قواعد المسؤولية الطبية، فقد قضت محكمة النقض الفرنسية في حكمها الصادر 18 يونيو 1855 في قضية (Thouret noroy gaine) (1)، بمسؤولية الطبيب الذي أصبح كأي شخص عادي قابلا لمقاضاته في حالة ارتكابه لخطأ جسيم، ومباشرة بعد صدور هدا القرار الشهير تلته مجموعة من النصوص القانونية في المجال الطبي والمسؤولية الطبية الى ان استقر الوضع على قانون 15يونيو 2000 المتعلق بالصحة العامة الفرنسي .
־ التشريع المصري و الإماراتي׃ بالنسبة للقانون المصري، فقد صدر أول قانون ينظم مهنة الطب رقم 142سنة 1948، و الذي تم تعديله بقانون رقم 415 سنة 1954،ثم تلاه صدور قانون رقم 537 المتعلق بمزاولة مهنة جراحة الأسنان، وقانون رقم 140 لسنة 1981 المتعلق بمزاولة مهنة التوليد أما المشرع الإماراتي، فقد أصدر قانون اتحادي رقم 07 سنة1975 في شان مزاولة مهنة الطب البشري(1) ، و قانون اتحادي رقم 3 سنة 1987 المتعلق بقانون العقوبات ، و اخيرا قانون المسؤولية الطبية والتامين الطبي سنة 2000.
ֲ المشرع المغربي׃ يعد قانون 19 فبراير 1960 المتعلق بمزاولة مهنة الطب والصيدلة وجراحي الأسنان والعقاقيريين والقوابل، أول قانون ينظم مهنة الطب بعد الاستقلال، وقد تم تعديله بقانون رقم 10.
94 الصادر في 21 غشت 1996، و بعد ذلك اصدر المشرع المغربي مجموعة من القوانين المنظمة للعمل الطبي منها قانون 18 يوليو 1995 المتعلق بالتبرع بالدم البشري(2)، وقانون 98 – 16 الصادر 1999 المتعلق بالتبرع بالأعضاء البشرية وأخذها وزرعه(3)٬وصدور مدونة التغطية الصحية الأساسية وفق قانون 65.
00 سنة ٬2002ومدونة الصيدلة والأدوية بمقتضى قانون 04-04-17 سنة 2006 (4) .
وعلى العموم، فإن هذه القوانين المنظمة لمهنة الطب والعمل الطبي بصفة عامة، لم تفرد أحكام خاصة بالمسؤولية الجنائية للطبيب، لذلك فلا مناص من الرجوع الى القواعد التقليدية للقانون الجنائي، هذا التوجه تتقاطع فيه عدة تشريعات جنائية حول المسؤولية الطبية