القضاء الجنائي الدولي

القضاء الجنائي الدولي

القضاء الدولي الجنائي

المقـــدمـــة

تعود فكرة تأسيس المحكمة الجنائية الدولية إلى حوالي قرن من الزمن تقريبا، وذلك عندما طرحت فكرتها لأول مرة في أعقاب الحرب العالمية الأولى .

على أن فكرة القضاء الدولي الجنائي ليست جديدة تماما في مجال العلاقات الدولية، حيث عرفها العالم منذ زمن بعيد(1) ، إلا أن الدعوات الصريحة بضرورة وجود قضاء دولي منظم والجهود المبذولة من أجل تأسيس محكمة جنائية دولية تدعمت وتكرست بفعل التطورات التي عرفتها الحياة الدولية مع نهاية القرن التاسع عشر(2) ، عندما بدأت معالم القانون الدولي الجنائي بالظهور ,وبداية القرن العشرين خصوصا عقب الحربين العالميتين الأولى والثانية.

وعلى الرغم من قدم فكرة القضاء الدولي الجنائي ، وأن فكرة إنشاء محكمة جنائية دولية قد طرحت منذ انتهاء الحرب العالمية الأولى ، وعلى الرغم من صدق الجهود المبذولة قبل تأسيس الأمم المتحدة وفي إطارها ، وكذلك في أعمال الجمعيات والمنظمات غير الحكومية ... بهدف إنشاء المحكمة وأنها كانت قد استوفت أهم جوانبها من البحث ، فقد ظلت العوامل السياسية والإيديولوجية وتباين مواقف الدول من إنشاء المحكمة إبان مرحلة الحرب الباردة علاوة على الجوانب القانونية خصوصاً مبدأ السيادة وعدم تمتع الفرد بالشخصية القانونية الدولية ، تشكل أهم العراقيل التي حالت دون إنشائها .

وعلى الرغم من التغيرات الجذرية التي مست مبدأ السيادة ، وبالرغم من أن حلقات المسؤولية الجنائية الشخصية قد بدأت منذ الحرب العالمية الأولى ، إلا أن غياب محكمة جنائية دولية يمتد اختصاصها إلى الأفراد وتمثل آلية قمع ضد تجاوزاتهم ، قد جعل من مخالفة أحكام القانون الدولي الإنساني وارتكاب المجازر ، وانتهاك القيم واستمرار التجاوزات السافرة لحقوق الإنسان ، تبقى غالباً دون عقاب .

وإذا كانت الحرب العالمية الأولى قد بلورت فكرة إنشاء قضاء دولي جنائي لمحاكمة مرتكبي الجرائم الدولية، فإن الحرب العالمية الثانية كانت نقطة البداية الحقيقية في إنشاء القضاء الدولي الجنائي وبداية التطبيق العملي للمحاكمات الجنائية الدولية.

وفي ظل أهمية ما أفرزته نتائج تلك المحاكمات وعلى ضوء الانتقادات التي وجهت لها بذلت عدة مجهودات في إطار الأمم المتحدة وخارجها تدعمت بصورة أكثر فاعلية عقب انتهاء الحرب البادرة بانتهاء القطبية الثنائية وزوال الصراع الإيديولوجي والذي تزامن مع تنامي النزعات القومية والاستقلالية في العديد من البلدان والتي غالبا ما كانت مصحوبة باندلاع صراعات عنيفة وتصفيات عرفية ومجازر وحشية وفرت من جديد الظروف الملائمة للحديث بقوة عن إمكانية إنشاء قضاء دولي جنائي وتأسيس محكمة جنائية دولية ، وهو ما تجسد بالفعل بالتوقيع على مشروع النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية بروما في 17 يوليو 1998م .

وانطلاقاً مما يقوله نظامها الأساسي يمكن تعريف المحكمة الجنائية الدولية بأنها : هيئة قضائية جنائية دولية دائمة مستقلة ومكملة للولايات القضائية الجنائية الوطنية أنشئت باتفاقية دولية لتمارس سلطتها القضائية على الأشخاص الطبيعيين المسؤولين عن ارتكاب الجرائم الدولية الأشد خطورة والمدرجة في نظامها الأساسي .

ويمكن أن نستخلص من خلال هذا التعريف مجموعة من العناصر الأساسية للمحكمة وذلك على الشكل التالي :

1- أن المحكمة مؤسسة جنائية دولية دائمة ، وهو ما يميزها عن عدة محاكم جنائية دولية أخرى أنشئت لزمان ومكان محددين ، كما هو الحال في محاكمات الحرب العالمية الثانية - محاكمات نورمبرج وطوكيو - أو كما هو شأن المحكمة الجنائية الدولية الخاصة بيوغسلافيا السابقة ، وكذلك المحكمة الجنائية الخاصة برواندا .

2- أن المحكمة أنشئت بموجب اتفاقية دولية - بحيث وقع على نظامها الأساسي جل دول العالم - لمتابعة المجرمين الدوليين أينما كانوا ، وهي بذلك تختلف عن محكمتي نورمبرج وطوكيو اللتان أنشئتا باتفاق بين دول الحلفاء بغرض محاكمة المسؤولين عن ارتكاب الجرائم الدولية من الألمان واليابانيين ، كما تختلف عن محكمتي يوغسلافيا ورواندا اللتان أنشئتا بموجب قرارات اتخذها مجلس الأمن الدولي للنظر في الجرائم المرتكبة فوق إقليمــي الدولتــين .

3- أنها محكمة مكملة للإجراءات القضائية الجنائية الوطنية ، أي أنه متى ما كانت الدولة مستعدة وقادرة على مباشرة إجراءات الدعوى الجنائية لديها ، فإنه يفضل هذا الإجراء على إجراءات المحكمة الدولية .

4- أن المحكمة ذات اختصاص مستقبلي وستختص فقط بمتابعة الأشخاص الطبيعيين .

5- أن المحكمة ستنظر في أشد الجرائم خطورة والتي تثير قلق المجتمع الدولي بأسره ، بحيث يكون من المستحيل أن ترفض أي دولة اختصاص المحكمة بأية جريمة وتصبح مع ذلك طرفاً في نظامها الأساسي .

وتأتي دراستنا للمحكمة انطلاقاً من أن تأسيسها هو في حد ذاته تعبير عن المراحل التي قطعها النظام القانوني الدولي في تطوره ، وانعكاس لتزايد الوعي العام بأهمية إنشاء محكمة جنائية دولية استناداً إلى أن مختلف التجارب الدولية السابقة في المجال الجنائي(1) . والتساؤلات التي أثارتها تجارب المحاكم الخاصة ، تؤكد أن أهمية إنشاء محكمة جنائية دولية تنبع من أن مختلف المشاكل الدولية تحتاج - ليس فحسب - إلى التزامات سياسية وأخلاقية ، وإنما كذلك إلى إجابات قانونية .

فماهي أهم مراحل تأسيس المحكمة الجنائية الدولية ؟ وماهي أهم مضامين نظامها الأساسي ؟

للإجابة على مختلف التساؤلات المتصلة بمراحل تحديد البنية القانونية للمحكمة الجنائية الدولية ارتأيت أن أتناول أولا إنشاء المحكمة الجنائية الدولية ( فصل أول) قبل دراسة الإطار القانوني للمحكمة الجنائية الدولية في (فصل ثاني).

تعتبر عملية إنشاء المحكمة الجنائية الدولية الدائمة السلسلة الأكثر أهمية في نظام القانون الدولي العام ذاته.

ففي غياب محكمة تمتد اختصاصاتها إلى الأفراد وتمثل آلية قمع ضد تجاوزاتهم، بجانب محكمة العدل الدولية التي يقتصر اختصاصها على الدول، فإن ارتكاب المجازر واستمرار التجاوزات السافرة لحقوق الإنسان والتعدي على أهم قيم ومبادئ النظام القانوني الدولي ظلت دائما بدون عقاب.

ومع أن مؤسسي الأمم المتحدة قد " اعتبروا أن إنشاء محكمة جنائية دولية يشكل عنصرا أساسيا من أجل السلام واحترام حقوق الإنسان(1)، إلا أن عملية إنشاء هذه المحكمة ظلت تصطدم بالعديد من الصعوبات وتجابه بالكثير من الاعتراضات(2) .

ولأن اختصاص المحكمة سيمتد لمحاكمة الأشخاص الطبيعيين الذين قد يمثلون أثناء ارتكابهم لمخالفات تستوجب محاكمتهم قيادات مرموقة في بلدانهم، ولاستمرار التمترس خلف مبدأ السيادة والحصانة، ولكثير من المعوقات السياسية والقانونية، لا غرو أن تستغرق فكرة القضاء الدولي الجنائي كل هذا الوقت وأن تبذل في سبيل إنشاء المحكمة الجنائية الدولية كل تلك المجهودات.

والواقع أن ترسخ فكرة القضاء الدولي الجنائي وبداية التطبيقات العملية لفكرة المحاكمات الجنائية الدولية ثم الشروع في إعداد نظام أساسي للمحكمة الجنائية الدولية الدائمة هي أهم الأحداث التي يمكن على إثرها التأريخ لميلاد المحكمة الجنائية الدولية. فكيف ترسخت فكرة القضاء الدولي الجنائــــي ؟، وما هي أهم التطبيقات العملية للمحاكمات الجنائية الدولية؟، وكيف تم التوصل في النهاية إلى صياغة النظام الأساسي للمحكمة؟

المبحث الأول :ترسيخ فكرة القضاء الدولي الجنائي

حفل مطلع القرن العشرين بأحداث كبيرة ومهمة أثرت تأثيرا بالغا في تطور القانون الدولي الجنائي وتوضيح الكثير من مبادئه وأحكامه خاصة ما يتعلق منها بفكرة القضاء الدولي الجنائي وتأسيس المحكمة الجنائية الدولية، ولعل من أبرز تلك الأحداث اندلاع الحربين العالميتين الأولى والثانية.

وإذا كانت أحداث الحرب العالمية الأولى قد أعقبها عقد عدة معاهدات تطرقت في أجزاء أساسية منها إلى فكرة القضاء الدولي الجنائي، كما تعالت الدعوات الصريحة إلى ضرورة مثل هذا القضاء وبذلت في سبيل ذلك عدة مجهودات، فإن أهم ما تمخض عن أحداث الحرب العالمية الثانية فيما يتصل بهذا الخصوص قيام أول تطبيق عملي لفكرة القضاء الدولي الجنائي في العصر الحديث.

فما هي أهم الجهود الدولية في سبيل إنشاء القضاء الدولي الجنائي؟ وماهي أهم التطبيقات العملية لفكرة المحاكمات الجنائية الدولية؟ .

المطلب الأول : الجهود الدولية المبذولة لإيجاد قضاء دولي جنائي

يمكن تصنيف الجهود الدولية من أجل إنشاء قضاء دولي جنائي إلى:

أ- دور المؤسسات الدولية غير الحكومية .

ب- الجهود السياسية الرسمية في ظل عصبة الأمم.

أولاً : دور المؤسسات الدولية غير الحكومية : (1)

1- جهود جمعية القانون الدولي (2) :

عقدت جمعية القانون الدولي في « ببيونسس آيرس » بالأرجنتين سنة 1922 مؤتمرا علميا تقدم على إثرها مقررها الخاص بتقرير تضمن الدعوة إلى إنشاء محكمة جنائية دولية. وقد وافق المؤتمر على هذا المقترح، كما عهد إلى صاحب التقرير مهمة إعداد مشروع المحكمة المزمع إنشاؤها.

وبالفعل فقد تقدم السيد ( بلوت) بهذا المشروع في المؤتمر الذي انعقد بفينيا سنة 1926، ووافق عليه غالبية المجتمعين. وتتكون المحكمة وفقا لهذا التصور من خمسة عشر قاضيا أصليين وخمسة احتياطيين، على أن تكون المحكمة دائرة من دوائر محكمة العدل الدولية الدائمة، وأن تختص بالنظر في الجرائم الدولية المسندة إلى الدول أو الأفراد، وأن يتم تكوينها بناء على اتفاق دولي، وقد تم إيداع هذا المشروع لدى عصبة الأمم.

2- الاتحاد البرلماني الدولي :

ساهم الاتحاد البرلماني الدولي في إنشاء وتطوير الكثير من قواعد القانون الدولي، كما كان له الفضل في الدفاع عن فكرة القضاء الدولي الجنائي. وفي المؤتمر الثالث والعشرين للاتحاد البرلماني الدولي المنعقد في واشنطن في الفترة من 1-17 أكتوبر سنة 1925، تقدم الفقيه الروماني (بيللا) بدراسة تشتمل إمكانية إقامة محكمة جنائية دولية ونيابة عامة خاصة وغرفة اتهام تختص بالاتهامات الموجهة إلى الأشخاص الطبيعيين بجانب محكمة العدل الدولية المختصة بنظر الاتهامات الموجهة إلى الدول وكجزء منها، وقد أقر المؤتمر البرلماني هذا المشروع.

وفي سنة 1948 صدر تقرير عن المؤتمر السابع والثلاثين للاتحاد الدولي والمنعقد في روما، اشتمل على ثمانية عشر بندا جاء في البند العاشر منها النص على حث المجتمع الدولي بضرورة الإسراع بوضع قانون عقوبات دولي، وإقامت محكمة جنائية لمعاقبة الجرائم ضد السلام وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية وخاصة جريمة إبادة الأجناس،...

3- الجمعية الدولية للقانون الجنائي:

عقدت الجمعية أول اجتماع لها في بروكسيل سنة 1926، أقرت فيه فكرة إنشاء قضاء دولي جنائي عن طريق إسناد اختصاص جنائي إلى محكمة العدل الدولية الدائمة، وشكلت لجنة لوضع مشروع لائحة للمحكمة الجنائية كلفت اللجنة الفقيه ( بيللا ) بوضع المشروع ، وقد جاء مشروع الفقيه ( بيللا) مركزا بالأساس على إنشاء محكمة جنائية دولية كجزء من محكمة العدل الدولية التي سوف يمتد اختصاصها إلى المسائل الجنائية.

وتتكون هذه المحكمة الجنائية المقترحة من خمسة عشر قاضيا أصليين وثمانية قضاة احتياطيين على أن يتم اختيارهم من المتخصصين في القانون، وتقوم المحكمة بكامل هيئاتها بالنظر في الاتهامات الموجهة للدول أو الهيئات العامة أو الأشخاص الطبيعيين، بحيث يمتد اختصاص المحكمة لعدة مسائل أساسية : (1)

1- أحوال التنازع في الاختصاصات القضائية أو التشريعية التي تثور بين الدول المختلفة، وكذا التنازع الذي يثور بخصوص تناقض الأحكام القضائية الحائزة لقوة الشيء المحكوم فيه والصادر بسبب جريمة واحدة من محاكم عدة دول.

2- مسؤولية الدولة جنائيا في حالات العدوان غير المشروع أو انتهاك أحكام القانون الدولي، وتوقيع الجزاءات الجنائية والتدابير الوقائية ضد الدولة المعتدية أو المخلة.

3- المسؤولية الجنائية الفردية المترتبة على أفعال العدوان أو الجرائم المقترنة بها كجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية.

4- القيام بتفسير القواعد الجنائية الموحدة في الدول المختلفة.

ثانياً : الجهود السياسية

1- تقرير لجنة المسؤوليات :

شكل المؤتمر التمهيدي للسلام الذي انعقد في باريس سنة 1919 لجنة مكونة من خمسة عشر عضوا، أطلق عليها لجنة المسؤوليات، أنيط بها بحث كافة الجوانب القانونية المترتبة على الحرب العدوانية، وقد تقدمت اللجنة بتقرير تضمن عدة مسائل أساسية من أهمها، وجوب إنشاء محكمة دولية تتولى المحاكمة عن كافة صور الإخلال بقواعد وقيم القانون الدولي، وتوقيع الجزاء المناسب عليه .(2)

أما عن المحكمة المزمع إنشاؤها فكان تصور اللجنة أن تشكل من 22 قاضيا، وأن تطبق في القضايا المعروضة عليها مبادئ قانون الشعوب الناتجة عن العادات الثابتة والمرعية بين الدول المتمدنة، وقوانين الإنسانية ومقتضيات الضمير العام، كما تضع المحكمة نظامها الداخلي والإجراءات المتبعة أمامها وكذا الجزاءات التي يمكن أن توقعها بالنسبة للجرائم التي تقوم بالنظر فيها(1).

2- التوقيع على معاهدة فرساي :

أسفر مؤتمر السلام الذي انبثقت عنه لجنة المسؤوليات السابقة عن التوقيع على معاهدة فرساي في 28 يونيو 1919 التي جاء في المادة 227 منها الإشارة إلى إمكانية إنشاء محكمة خاصة لمحاكمة الإمبراطور الألماني" غليوم الثاني" لارتكابه انتهاكات صارخة ضد مبادئ الأخلاق الدولية وقدسية المعاهدات...

وكان مقترحا أن تنشأ هذه المحكمة الخاصة من خمسة قضاة من جنسيات مختلفة يمثلون دول الحلفاء، على أن تقوم المحكمة بتحديد العقوبة التي ترى تطبيقها على جرائم الإمبراطور وأن تجري المحاكمة وفقا للقيم المستلهمة من المبادئ السياسية السامية بين الدول، واحترام الوجبات والتعهدات الرسمية والتأكيد على الأخلاق الدولية، ومنح الإمبراطور كافة الضمانات الجوهرية لممارسة حق الدفاع عن نفسه(2) .

وبالإضافة إلى ذلك تطرقت المادة 229 إلى ضرورة محاكمة مرتكبي جرائم الحرب الموجهة ضد رعايا عدة دول متحالفة أمام محكمة عسكرية مشكلة من قضاة ينتمون إلى الدول صاحبة الشأن، ويحق للمتهم في جميع الأحوال الضمانات الأساسية للدفاع عن نفسه.

3- أحكام ميثاق عصبة الأمم : (1)

عهد عصبة الأمم هو أحد أهم الإنجازات القانونية المترتبة على أحداث الحرب العالمية الأولى، وكان من أهم ما جاء به فيما يتعلق بالقضاء الدولي الجنائي ما نصت عليه المادة (14) على أن "يعد مجلس العصبة مشروعات بشأن إنشاء محكمة دائـمة للدول"

وبناء على هــــذه المــــادة شكـــل مجلس العصبة لجنـــة برئاســــة البارون ( ديسكا- مب) عضو مجلس الشيوخ البلجيكي حينئذ لوضع مشروع نظام المحكمة، وقد انتهت اللجنة في تقريرها الذي عرضته في 13 يوليو 1920 إلى إنشاء محكمة جنائية دولية وذلك بعد ما وقفت على الفضائع التي ارتكبت أثناء العمليات العسكرية (2) .

واعتبر أن هذه المحكمة تكون مختصة بالنظر في جرائم النظام العام الدولي وجرائم قانون الشعوب على أن يكون لها سلطة تكييف الجرائم وتحديد العقوبات وطرق تنفيذها مستهدية بمبادئ قانون الشعوب، باعتبارها مبادئ مستقرة في العرف الدولي وقوانين الإنسانية ومستلزمات الضمير العام...

4- اتفاقية جنيف المتعلقة بإنشاء محكمة جنائية دولية : (1)

جاءت هذه الاتفاقية المؤرخة في 17 نوفمبر 1937، عقب اغتيال ملك يوغسلافيا ووزير خارجية فرنسا في مرسيليا 1924، الأمر الذي أثار اهتمام عصبة الأمم وجعلها تعقد مؤتمرا دوليا في جنيف، عقب الفكرة التي تقدمت بها فرنسا إلى العصبة طالبة من خلالها النظر في إنشاء محكمة جنائية دولية لمكافحة جرائم الإرهاب.

وقد انبثق عن هذا المؤتمر اتفاقية جنيف التي ورد في ديباجتها أن الغرض من هذه المحكمة النظر في عدد محدد من الجنايات والجنح التي يرتكبها أشخاص طبيعيين...، وأن هذه المحكمة مقرها لاهاي ويمكن أن تنعقد في أي مكان آخر تبعا للظروف. وتتكون من خمسة قضاة من جنسيات مختلفة تختارهم محكمة التحكيم الدولية من بين الفقهاء المشهود لهم بالكفاءة في القانون الجنائي ومن خمسة قضاة مساعدين من جنسيات أخرى مختلفة، على أن يكون اللجوء إلى المحكمة اختياريا وبحيث أن الدولة التي يقع في يدها المتهم، عليها أن تحاكمه أو تسلمه إلى هذه المحكمة.

وأعطى لقضاة المحكمة بموجب هذه الاتفاقية كذلك كافة الحصانات والامتيازات الممنوحة للدبلوماسيين، وينتخبون لمدة عشر سنوات، وتكون جلسات المحكمة علنية وأن يصدر الحكم مسببا، ويعهد بتنفيذه إلى الدولة التي قدمت المتهم إلى المحكمة أو الدولة التي تحددها المحكمة بعد أخذ موافقتها، ويمكن الطعن في أحكام الإدانة الصادرة عنها بواسطة التماس إعادة النظر فقط، فيما عدا ذلك تبقى أحكام المحكمة نهائية.

على أنه لم يتم التوقيع على هذه الاتفاقية إلا من قبل 13 دولة، كما أن قيام الحرب العالمية الثانية قد حال دون انضمام الدول إليها ولم تدخل مرحلة النفاذ.

ويمكن القول أن هذه الاتفاقية كمعاهدة فرساي وما تضمنته أحكام ميثاق العصبة وتقرير لجنة المسؤوليات، كانت سباقة بالإشارة إلى ضرورة الاتفاق حول إنشاء محكمة جنائية دولية، وخطوة مهمة نحو ترسيخ الفكرة بهدف إصباغ حماية فعلية على قيم ومصالح المجتمع الدولي.

وفي الواقع لقد ساهمت أحداث الحرب العالمية الثانية بشكل أكبر في تقدم ونضوج الأفكار المتعلقة بمشروع القضاء الدولي الجنائي سواء فيما يتعلق بتطوير القانون الدولي الجنائي أو فيما يتعلق بإنشاء المحكمة الجنائية الدولية.

5- التوقيع على اتفاقية لندن 1945:

كان من أهم ما تمخض عن الحرب العالمية الثانية من نتائج فيما يتعلق ببداية السعي الحقيقي نحو إنشاء القضاء الدولي الجنائي، بداية صدور العديد من التصريحات وانتهاء بالتوقيع على اتفاقية لندن سنة 8 أغسطس 1945 المتعلقة بإنشاء المحكمة الجنائية الدولية بنورمبرج، وقد جاءت هذه الاتفاقية بناء على التقرير المقدم من القاضي الأمريكي " جاكسون" في 6 يونيو 1945 والذي وضح فيه الخطوط العريضة والأساسية للجرائم التي ارتكبها زعماء النازية والطريقة التي ستنشأ بها المحكمة واختصاصاتها وكيفية المحاكمة.

وبالتوقيع على هذه الاتفاقية يمكن القول أن العالم قد دخل مرحلة جديدة من مراحل تطوير فكرة القضاء الدولي الجنائي حيث سيعرف لأول مرة بداية التطبيق العملي لفكرة العقوبة الجنائية الدولية.

المطلب الثاني :بداية التطبيق العملي لفكرة القضاء الدولي الجنائي(1) .

أولاً: تبلور فكرة المحاكمات الدولية العسكرية :

1- محاكمات الحرب العالمية الأولى :

"كانت محاكمات الحرب العالمية الأولى شبه النظرية أول تطبيق لفكرة القضاء الدولي الجنائي في العصر الحديث ...، كما كانت خطوة نحو إقرار هذا النوع من القضاء، وكان الفشل الذي منيت به مثـــــارا للكثير من الجهــــــود ..." (2)

وفي الواقع فقد أثيرت مشاكل قانونية عديدة كانت محل بحث الساسة والفقهاء وهم يتصدون للسعي نحو إنشاء أول محكمة جنائية دولية من أهمها مشكلة تحديد الاختصاص التشريعي والقضائي، وتحديد المسؤولية الناشئة عن الجرائم الجماعية، وأخيرا اختلاف النظم القانونية لدول الحلفاء ...

وبدون الخوض في تفاصيل هذه المشاكل يمكن القول أن لجنة المسؤوليات المشار إليها سابقا كانت قد أوصت في 15 مارس 1919 بأن مجرمي الحرب يقسمون إلى طائفتين :

- الطائفة الأولى : من مجرمي الحرب وتخضع للسلطات القضائية للدولة التي سبب ارتكاب تلك الجرائم حدوث إضراراً بها .

- الطائفة الثانية : فتضم مجرمي الحرب الذين اقترفوا جرائم مضرة بعدة دول أو إضرارا برعايا عدة دول ...، وهذه الطائفة لا تخضع للاختصاص القضائي الوطني، بل يجب إنشاء محكمة دولية من أجل محاكمة هذه الطائفة، وكان الاقتراح أن تشكل هذه المحكمة من 22 قاضيا منهم 15 قاضيا أساسيين يمثلون كل من الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا واليابان، وقاض واحد لكل من بلجيكا واليونان وبولندا والبرتغال ورومانيا وتشيكوسلوفاكيا قضاة مساعدين، باعتبار أن هذه الدول الأخيرة كانت مصالحها أقل من مصالح الدول التي تمثلت بقضاة أساسيين، على أن اعتراض المندوب الأمريكي في اللجنة بحجة أنه :

أولا : لا يوجد تشريع مكتوب ولا عقوبات منصوص عليها وفقا للقانون القضائي حتى يتسنى للمحكمة الحكم في جرائم الحرب .

ثانيا: أنه لا يوجد تبرير معقول لعقاب الأشخاص الذين يعطون الأوامر لمرؤ وسيهم لارتكاب جرائم الحرب على أساس أنهم فاعلين غير مباشرين، بالإضافة إلى أسباب أخرى كانت السبب وراء هدم فكرة إنشاء محكمة جنائية دولية (1)، ومع ذلك فقد تضمنت معاهدة فرساي الإشارة إلى أهمية قيام محكمة جنائية دولية لمحاكمة مرتكبي الأفعال المجرمة وشكلت المواد 227 إلى 229 أساسا لإنشائها .

على أن أحكام المواد السابقة لم يتم تنفيذها تماما، كما أنه لم يحاكم سوى بعض الضباط الألمان الذين وقعوا فعلا بالأسر بواسطة محاكم عسكرية فرنسية وبريطانية .

أما الحكومة الألمانية والتي كانت ملزمة بموجب المعاهدة المذكورة بتسليم المتهمين بارتكاب جرائم دولية لمحاكمتهم أمام المحكمة المنشأة لهذا الغرض، مع تزويد قوات الحلفاء بكل الوثائق والمعلومات التي من شأنها تسهيل ضبط الجناة وتقديمهم للمحكمة، فلم تسلم سوى ستة ضباط أثناء 1919، إذ سارعت بإصدار قانون بإنشاء محكمة الإمبراطورية في ليبزج للنظر في تلك الجرائم(2).

ومع أن المحكمة قد قاضت بعض المتهمين(3) فإنها لم تصدر أحكاما إلا على ستة فقط حكمت عليهم بعقوبات هزيلة لا تتناسب وحجم الجرائم المنسوبة إليهم كما افتقر قضاتها إلى الخبرة اللازمة لدرجة أنها كانت تتلمس في أحيان كثيرة بعض المعاذير للمتهمين من صنف " أن ما اقترفوه لا يعدو إلا أن يكون من قبيل الحماس العسكري الزائد" (1)

وفوق ذلك فالإمبراطور الألماني غليوم الثاني والذي شكلت المحكمة لمحاكمته بصفة خاصة قد فر إلى هولندا التي رفضت تسليمه إلى دول الحلفاء لمحاكمته متذرعة بعدة أسباب من أهمها أن الاتهام الموجه إليه ذو طابع سياسي وليس قانوني، كما أن محاكمته أمام أعدائه سيجعل من إمكانية تحقيق العدالة أمرا مشكوكا فيه علاوة على أنه لم يرتكب أي فعل معاقب عليه طبقا للقانون الهولندي.

ويمكن القول أن هذه الأحداث كانت بمثابة نقطة البداية في تطبيقات القضاء الدولي الجنائي على الرغم أنها لم تشكل فعلا تطبيقاً واضحاً له، وضاعت على المجتمع الدولي فرصة نجاح أول تطبيق قضائي دولي جنائي في العصر الحديث (2) .

والأكثر من ذلك أن الجمعية العامة لعصبة الأمم حينها قد رفضت منح اختصاص جنائي للمحكمة الجنائية المشكلة في اقتراح البارون « دسكامب » بناء على قرار مجلس العصبة استنادا إلى المادة 14 من العهد، وذلك بحجة أن هذه الفكرة تعد سابقة لأوانها.

ومع ذلك كانت تلك المحاكمات شبه النظرية التي أعقبت أحداث الحرب العالمية الأولى معبرة عن مرحلة متقدمة يتجاوز بموجبها الفكر القانوني مرحلة البحث والايصاء إلى مرحلة التطبيق بغض النظر عن تحقيق تلك التجربة لكل النجاح المنتظر، كما أنها هيأت لتوفير المناخ الفكري والشعبي لإنجاح أية تجربة مقبلة إذا توفرت لها الإرادة والظروف(1) .

2- محاكمات نورمبرج وطوكيو :

لئن كانت أول تجربة لتطبيق القضاء الدولي الجنائي التي أعقبت الحرب العالمية الأولى قد باءت بالفشل في تحقيق كل ما كان منتظرا منها، إلا أنها مع ذلك مهدت الطريق أمام إنشاء أول محكمة جنائية دولية وقيام أول محاكمات جنائية دولية في التاريخ.

ولأهمية تلك المحاكمات في تطوير فكرة القضاء الدولي الجنائي خاصة، والقانون الدولي الجنائي عامة، وبالرغم من كل الانتقادات التي وجهت إلى تلك المحاكمات الشهيرة والمعروفة بمحاكمات " نورمبرج" سنحاول التطرق بإيجاز شديد إلى الكيفية التي أنشئت بها تلك المحكمة وطبيعة المحكمة المنشأة وكذا التعرف على أهم الانتقادات التي وجهت إلى تلك المحاكمات التي تمت في إطارها كونها سابقة للتطبيق الفعلي لفكرة القضاء الدولي الجنائي ستؤسس على ضوء الكيفية التي تمت بها والانتقادات التي وجهت إليها والمبادئ الهامة التي رسختها لإمكانية الحديث بجدية عن ضرورة إنشاء المحكمة الجنائية الدولية الدائمة ومرجعية أساسية من مرجعياتها.

أولا: إنشاء المحكمة :

بدأ الإعداد لمحاكمة جرائم الحرب العالمية الثانية ( 39-45م) أثناء سير المعارك الحربية وما نتج عنها من فضاعات وانتهاك لكل القيم الإنسانية وبدأت بإصدار إعلانات وتصريحات من قبل الدول التي احتلتها ألمانيا تؤكد على التمسك بضرورة وحتمية تقديم المسؤولين عن ارتكاب تلك الفضاعات أمام عدالة منظمة من ذلك تصريح سان جيمس بالاس في 12 يناير 1942 ثم تصريح موسكو في 30 أكتوبر 1943 والذي قرر الحلفاء من خلاله أنهم سيقدمون زعماء النازية للمحاكمة عن الجرائم التي ارتكبوها(1)، ثم مؤتمر بوتسدام في أغسطس 1945 والذي أكد على حتمية تطبيق عدالة سريعة وحقيقية على المتهمين بارتكاب أي من الجرائم الدولية من الألمان.

ورغم تباين وجهات النظر حول من هي الفئات التي ستحاكم وكيف ستتم المحاكمة؟ وما هي العدالة الحقيقية تلك؟ فإن فكرة المحكمة القضائية كانت هي الفكرة الأقرب إلى المشروعية والمنطق وحظيت بالتأييد الذي جاء بصفة رسمية عند انعقاد مؤتمر يالطا سنة 1945 لتنسيق خطط الدول الحليفة وحل مشاكل ما بعد الحرب.(2)

وعند انتهاء المعارك وإعلان هزيمة ألمانيا بالتوقيع على وثيقة التسليم في 8 مايو 1945 تدارس الحلفاء في عدة جلسات جملة تقارير عن وجوب محاكمة مجرمي الحرب من الألمان وخلصوا في النهاية إلى تبني التقرير الأمريكي الذي تقدم به القاضي( روبرت جاكسون) وذلك ضمن نصوص اتفاقية لندن التي تم التوقيع عليها في 8 أغسطس 1945 . (1)

لقد استبعد (جاكسون) في تقريره النظر في جرائم الخونة والأشخاص الذين كانوا منفذين لخطة إجرامية واسعة النطاق وضعها رؤساؤهم، وكذا الأشخاص الألمانيين الذين قتلوا الطيارين الذين هبطوا بمظلاتهم إلى الأرض، وجرائم القتل الجماعي التي ارتكبت في حق المدنيين في الأقاليم المحتلة.. مقرراً أن هؤلاء سوف يحاكمون أمام محاكم عسكرية عادية طبقا لقوانين البلاد المحررة التي ارتكبت فيها.

وعليه فقد تم حصر اختصاص المحكمة في محاكمة مجرمي الحرب الكبار الذين ليس لجرائمهم مكان جغرافي معين، زيادة على إضفاء الصفة الإجرامية على عدد من المنظمات النازية التي شجعت على مثل تلك الجرائم.

ومن هنا فعند التوقيع على اتفاقية لندن في 8 أغسطس 1945 المتعلقة بإنشاء المحكمة الجنائية الدولية تضمنت المادة الأولى التأكيد على هذه المسألة عندما نصت على " تنشأ محكمة عسكرية دولية.. لمحاكمة مجرمي الحرب الذين ليس لجرائمهم تحديد جغرافي معين، سواء كانوا متهمين بصفة شخصية أو بصفتهم أعضاء في منظمات أو هيئات أو بكلتي الصفتين".

ثانيا: تشكيل المحكمة (1)

أشارت المادة الثانية من اتفاقية لندن إلى أن تشكيل المحكمة العسكرية الدولية واختصاصاتها وسلطتها تنص عليها اللائحة الملحقة بالاتفاقية والتي تعتبر جزءا لا يتجزأ منها...

وبالفعل فهذه اللائحة الملحقة والتي تضمنت ثلاثين مادة كانت أول ما عنيت به هي مسألة تشكيل المحكمة والتي جاءت على الشكل التالي:

 

 

1- هيئة القضاة :

نصت المادة الثانية على أن تشكل المحكمة من أربعة قضاة أصليين وأربعة قضاة احتياطيين، بمعنى أن تقوم المحكمة على قاعدة التساوي في تمثيل الحلفاء، على غرار معاهدة فرساي لعضو أصلي ونائب يحل محله في حالة تعذر حضوره لأي سبب، ولا يعتبر حكم المحكمة صحيحا إلا بحضور أربعة أعضاء سواء الأعضاء الأصليين أو نوابهم.

أما رئيس المحكمة فيتم انتخابه من قبل جميع القضاة ويمكن استبداله بغيره بموافقة ثلاثة من القضاة.

ولم تمانع اللائحة من إمكانية إنشاء محاكم أخرى لنفس الغرض محكومة بنفس نصوص اللائحة أما المقر الدائم للمحكمة فقد كان مدينة " برلين" على أن تتم المحاكمة الأولى في "نورمبرج"

2- لجنة الإدعاء :

نصت المادة 14 من اللائحة على وجوب إنشاء هذه اللجنة والتي تتكون من ممثل لكل من الدول الأربع يعاونهم عدد من المختصين، ويقومون جميعاً بمباشرة دور الإدعاء أمام المحكمة، ويقوم كل مدع منهم بمفرده بالحصول على فحص جميع الأدلة واستجواب الشهود ثم إعداد تقرير الاتهام والقيام بدور النيابة العامة، وتقدم مختلف التقارير إلى لجنة الإدعاء مجتمعة لإقرارها ورسم خطة العمل ثم تحديد مجرمي الحرب على نحو نهائي تمهيدا لمحاكمتهم بعد التصديق على وثيقة الاتهام المقدمة من كل مدع حتى يتم إحالة أوراق الدعوى إلى المحكمة.

 

 

ثالثا: طبيعة المحكمة المنشأة

اتفق الحلفاء على أن تكون المحكمة المنشأة ذات طبيعة عسكرية، وذلك ضماناً لسرعة الفصل في القضايا التي ستعرض عليها، وتفادياً للاعتراضات الفنية والقانونية التي يمكن أن تواجهها هذا من ناحية، ومن ناحية فالمحكمة العسكرية يقوم اختصاصها أصلاً على ما يوضع لها من نظام وهو نظام عادةً ما يتسع إلى ما لا يتسع له النظام القضائي المألوف.

كما أن اختصاص المحكمة العسكرية لا يتقيد بالإقليم الذي وقعت فيه الجريمة بالإستناد إلى قوانين الحرب التي تسمح للقائد المحارب أن يعاقب بواسطة محكمة عسكرية كل من يثبت ارتكابه لعمل عدائي مخالف لقوانين الحرب وعاداتها أينما كان ارتكاب هذا العمل.

كل هذه الاعتبارات وغيرها جعلت الحلفاء يفضلون هذه الطبيعة العسكرية التي من شأنها تجاوز الإجراءات الطويلة التي عادة ما يتطلبها اللجوء إلى القضاء العادي وهو ما تحقق واقعياً عندما بدأت المحكمة تمارس اختصاصاتها في 20 نوفمبر 1945 وانتهت من عرض القضايا في 31 أغسطس 1946 وأصدرت أحكامها في أول أكتوبر 1946 (1) .

رابعا: اختصاص المحكمة :

أشارت اللائحة في مادتها السادسة إلى مسألة الاختصاص، مؤكدة أن المحكمة تختص بمحاكمة وعقاب كل الأشخاص الذين ارتكبوا بصفتهم الشخصية أو بوصفهم أعضاء في منظمة تعمل لحساب دول المحور إحدى الجرائم الدولية، وهي الجرائم التي أشرنا إليها في نقطة سابقة وتنحصر في الجرائم ضد الإنسانية، والجرائم ضد السلام، وجرائم الحرب.

وبالنسبة لتحديد شخص المجرم، فاللائحة لم تقتصر على الفاعلين الأصليين لتلك الجرائم، بل أنزلت منزلتهم كل من أدار أو أسهم أو حرض أو اشتراك سواء في تجهيز أو تنفيذ إحدى الجرائم، أكان رئيساً أو قائداً عسكرياً أو مرؤوساً أو جندياً.

خامسا: إجراءات المحاكمة وإصدار الأحكام :

بعد قيام الإدعاء بفحص وجمع وتقديم الأدلة واستجواب الشهود، ثم التصديق على وثيقة الاتهام وإحالتها إلى المحكمة، تبدأ المحاكمة بتلاوة قرار الاتهام، ثم بسؤال المتهم إذا كان مذنباً أو غير مذنب، ويعقب ذلك عرض تحليلي للاتهام من جانب الإدعاء وسماع وجهة نظر الدفاع وأقوال الشهود(1) .

وبعد استكمال تلك الإجراءات تتداول المحكمة بشأن إصدار الحكم وتصدر بناء على ما سبق حكمها بالإدانة أو البراءة، وتعاقب المحكمة ما بين الإعدام والسجن المؤبد أو المحدد، فضلاً عن إمكانية مصادرة كل الأموال المتعلقة بالجريمة وتسليمها إلى مجلس الرقابة في ألمانيا الذي شكله الحلفاء عقب إعلان هزيمة ألمانيا 5 نونبر 1945 وهو المجلس الذي يعهد إليه مهمة تنفيذ العقوبة، وله كذلك سلطة تخفيفها في أي وقت دون تشديدها، كما له أن يرفع إلى لجنة الإدعاء تقريره بما عسى أن يكتشف من جرائم جديدة يكون أحد المحكوم عليهم قد ارتكبها حتى تستطيع أن تتخذ في شأنه ما تراه من جزاءات عادلة.

ومن ضمن الاعتمادات المخصصة لمجلس الرقابة في ألمانيا نصت المادة 30 من اللائحة على أن تتكفل الدول الأربع الموقعة على اتفاقية لندن وهي الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي وبريطانيا والحكومة المؤقتة للجمهورية الفرنسية بكافة نفقات المحكمة والمحاكمة.

وبالنسبة للتطبيق العملي لمحاكمات الحرب العالمية الثانية (2) فقد حوكم أمام محكمة نورمبرج 24 متهما من كبار مجرمي الحرب بصفتهم

الكثير من الانتقادات، ولأهمية هذه المسألة نخصص النقطة التالية لتناولها بشيء من التفصيل.

ثانياً : أهم المشاكل القانونية التي واجهت محكمة نورمبرج :

هناك ثلاث مشاكل قانونية واجهت محكمة نورمبرج باعتبارها أول محكمة جنائية دولية وهذه المشاكل هي: (1)

1- مشكلة القانون الواجب التطبيق :

وهي من أكبر المشاكل التي واجهتها المحكمة فاعتماد القانون الألماني في محاكمة كبار مجرمي الحرب من الألمان والذي شكلت المحكمة أساساً للقيام بها أمر مستحيل وذلك حتى لا تتكرر مهزلة ( ليبرج)، كما أنه لا يمكن تطبيقه كذلك لتعدد المناطق الجغرافية والبلدان التي ارتكبت فيها الجرائم، وحتى وإن تم تحديد أماكن ارتكابها وبالتالي الأخذ بقاعدة الاختصاص الإقليمي فقد بد أن الأمر غير ممكن وذلك لسببين هما:

- أن الجرائم المنسوبة إلى المتهمين هي أفعال غير منصوص عليها في القوانين الوطنية لتلك الدول التي ارتكبت فيها، كما أن الاشتراك فيها لا يمكن تقريره بموجب القانون الداخلي.

- أن المحاكمة لا تتم من قبل الدول المنتصرة وإنما نيابة عن ضمير العالم المتمدن وبالتالي يجب أن تكون ذات صفة دولية.

- ولأن ميثاق ( نور مبرج) التزم الصمت حيال القانون الواجب التطبيق كان على المحكمة أن تختار أحد أسلوبين:

ü إما أن تمارس سلطتها بطريقة تحكميه في اختيار القانون الواجب التطبيق.

ü وإما أن تلجأ إلى القياس وتعمل على تطبيق نص المادة 38 من النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية، وتلجأ بالتالي إلى تطبيق الاتفاقيات الدولية والعرف أو مبادئ القانون المعترف بها بين الأمم المتمدنة، وكذا أحكام القضاء ومذاهب كبار الفقهاء كمصدرين احتياطيين.

وقد اضطرت المحكمة في كثير من الأحيان إلى تطبيق هذا الأسلوب الأخير خاصة في نطاق تعريف الجرائم الدولية.

2 - مشكلة شرعية الجرائم والعقوبات :

استندت هيئة الدفاع على هذا المبدأ معتبرة أن المحكمة ستعاقب على جرائم لم تكن قائمة قبل إبرام ميثاق " نور مبرج" مما يعني تخلف الركن الشرعي سواء في التجريم أو في تحديد العقوبة الواجب تطبيقها.

وعندما تصدت المحكمة لهذا الدفع لم تنكره وإنما استندت إليه لتؤكد أن الركن الشرعي لهذه الجرائم مستقر في القانون الدولي الذي أقرته مختلف المواثيق والاتفاقيات الدولية السابقة على إنشاء المحكمة، علاوة على الأعراف المستقرة في العلاقات بين الأمم والتي أضفت صفة التحريم على إتيان أي جريمة من الجرائم التي باشرت المحكمة المعاقبة عليها، وبالتالي فإن محاكمات "نور مبرج" كشفت فقط عن هذه الطبيعة الإجرامية لتلك الأفعال دون أن تكون منشئة لها، " وبوصفها محكمة دولية فإن لها الحق القانوني بتطبيق قواعد القانون الدولي الراسخة على المجرمين باعتبارهم أعداء للإنسانية جمعاء"(1) .

3- مشكلة حجية الحكم الصادر عن المحكمة وطريقة تنفيذه :

بالإضافة إلى ما أثير حول مسألة شرعية الجرائم والعقوبات، وبما أن لائحة المحكمة قد نصت على جواز الحكم بعقوبة الإعدام أو أي عقوبة أخرى إلا أنه ترك تقدير باقي العقوبات للسلطة التقديرية للمحكمة، مما يعني جواز خلق العقوبات بصورة تحكمية، بدون ضابط أو معيار .

ومن ناحية ثانية هناك مسألة كيفية تنفيذ العقوبات التي يصدر بها حكم المحكمة وهي مسألة لا تقل أهمية عن مسألة الشرعية العقابية.

على أي فقد تمكنت المحكمة من تلافي هذا النقص وذلك باختيار عقوبة السجن في الحالات التي قدرتها كما أنيط بمجلس الرقابة في ألمانيا تنفيذ كل العقوبات المقضي بها.ً

4- إن المحكمة حاكمت أشخاصا لا يعتبرون من أشخاص القانون الدولي العام : (2)

ومهما يكن فإن مختلف المشاكل التي واجهت هذه المحاكمات هي مشاكل كانت قائمة بالفعل بل وبالاستناد إليها وجهت لمحاكمات " نور مبرج" جملة من الانتقادات، ذهب البعض منها إلى أن المحكمة " ليست لها من صفة الدولية إلا اسمها"(1) .

فغلبة الطابع السياسي على تلك المحاكمات، وعدم توفر الحيدة القضائية اللازمة، وإهدار الكثير من المبادئ القانونية كانت أهم الانتقادات التي وجهت إلى محاكمات الحرب العالمية الثانية(2) .

وأيا كانت الانتقادات التي وجهت إلى محاكمات الحرب العالمية الثانية باعتبارها أول تطبيق عملي ناجح لفكرة القضاء الدولي الجنائي، فإن المبادئ التي جاءت بها تعد بحق " مرحلة فاصلة في تطور القانون الدولي الجنائي"(3) .

ونعتقد بالاستناد إلى ما سبق أن محكمة " نور مبرج" محكمة جنائية دولية مؤقتة بكل معنى الكلمة، فهي محكمة أنشئت باتفاق دولي، كما اعتمد نظامها الأساسي باتفاقية دولية واستندت إلى قواعد ومبادئ القانون الدولي العام في أحكامها وحاكمت مجرمين، ليس لجرائمهم مكان جغرافي محدد والأكثر من ذلك أنها كانت نقطة انطلاق لترسيخ وتطوير القضاء الدولي الجنائي. وكما أشار القاضي الأمريكي " جاكسون إلى أهميتها بالقول يومئذ" إن الوقت لم يحن بعد لإدراك مدى أهمية تأثير أحكام " نور مبرج" على مستقبل القانون الدولي، ولكن هذه الوثيقة تعد وثيقة مهمة، سواء باعتبارها سابقة هامة أو باعتبارها نقطة انطلاق جدية"(1) .

فهي سابقة كونها أول تطبيق جدي ناجح لفكرة القضاء الدولي الجنائي في التاريخ، وهي نقطة انطلاق مهدت لسلسلة من الجهود الدولية المبذولة سواء في إطار منظمة الأمم المتحدة أو خارجها في سبيل إنشاء المحكمة الجنائية الدائمة، بل يمكن على إثرها التاريخ لميلاد المحكمة وذلك منذ أن تلقت الجمعية العامة للأمم المتحدة المبادئ التي جاءت بها أحكام (نور مبرج) وعملت على تقنينها بموجب توصيتها رقم 177 في 21 نوفمبر 1947و انتهاء بالتوقيع على نظامها الأساسي في روما 17 يوليو 1998 .

المبحث الثاني : صياغة النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية

قبل التوقيع على معاهدة روما حول وضع النظام الأساسي، يمكن أن نميز بين مرحلتين أساسيتين من مراحل إنشاء المحكمة الجنائية الدولية وصياغة نظامها الأساسي :

المرحلة الأولى:

وتبدأ عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية وإجراء محاكماتها الشهيرة، بتلقي الجمعية العامة للأمم المتحدة المبادئ التي تمخضت عن محاكمات نور مبرح وطلبت من لجنة القانون الدولي(1)، بتوصيتها رقم 177 /1 في 21 نوفمبر 1947 تقنين تلك المبادئ وإعداد مشروع خاص بالجرائم ضد السلام وأمن البشرية...

 

المرحلة الثانية :

وتبدأ عقب التحولات السريعة التي شهدتها نهاية الثمانينيات والانقلاب الكبير الذي عرفته العلاقات الدولية، والذي دفع بالأمم المتحدة من جديد خصوصاً عقب الطلب المقدم من (ترينادا وتوباغو) في ديسمبر 1989 إلى الطلب من لجنة القانون الدولي بإعادة العمل ومتابعة الجهود لتأسيس المحكمة الجنائية الدولية وذلك بتوصيتها 44/36 في 4 ديسمبر1989 .

وعليه وحتى نتمكن من دراسة الكيفية والظروف التي مهدت لصياغة واعتماد النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية باتفاقية دولية رعتها الأمم المتحدة، لابد من تناول جهود لجنة القانون الدولي، الذي كان دورها أساسياً في كل مرحلة من مراحل صياغة واعتماد النظام الأساسي.

المطلب الأول : جهود لجنة القانون الدولي

أولاً : المرحلة الأولى من جهود لجنة القانون الدولي :

بعد توصية الجمعية العامة 177/1 سنة1947 تمكنت لجنة القانون الدولي من دراسة المبادئ المنبثقة عن محاكمات نور مبرج واستخلصت سبعة مبادئ أساسية صاغتها على النحو التالي: (1)

ü تقنين مبادئ نورمبرج وبداية السعي نحو إنشاء محكمة جنائية دولية دائمة .

1- الاعتراف بمسؤولية الفرد جنائيا على الصعيد الدولي.

2- مبدأ مسؤولية الرؤساء والقادة العسكريين عن الجرائم الدولية.

3- سيادة القانون الدولي العام على القانون الداخلي.

4- المحاكمة العادلة والنزيهة.

5- سيادة الضمير على مقتضيات النظام.

6- تقنين وتحديد الجرائم الدولية وحصرها في الثلاث الجرائم الأساسية المعروفة.

7- مبدأ تأثيم الاشتراك والتخطيط لارتكاب تلك الجرائم.

وعلاوة على موافقة الجمعية العامة بتوصيتها رقم95/1-1948 بالإجماع على هذه المبادئ، والذي أضفى عليها صفة الإلزام والشرعية القانونية الدولية (1)، فأن الأمم المتحدة قد واصلت جهودها الحثيثة في سبيل إنشاء قضاء دولي جنائي مستقل ودائم، وكانت البداية في 9ديسمبر1948 بمناسبة موافقة جمعيتها العامة على مشروع اتفاقية قمع جريمة إبادة الجنس والمعاقبة عليها.

لقد ارتبط الحديث عن هذه الاتفاقية بالحديث عن ضرورة وجود قضاء دولي جنائي خاصة ، عندما أشارت المادة السادسة من ذات الاتفاقية إلى وجوب عدم إفلات مرتكبي تلك الأعمال من العقاب، بل ينبغي محاكمتهم إما أمام المحاكم المختصة للدولة وفي ذات البلد الذي ارتكبت فيه أو أمام محكمة جنائية دولية سوف تكون مخولة بذلك.

وعلى الرغم من أهمية هذا النص فيؤخذ عليه أنه ترك عملية إنشاء المحكمة اختيارياً،كما أن الاتفاقية نفسها قد خلت من النصوص التي تنظم مثل هذه المحكمة.

على أن المنظمة الأممية واصلت جهودها في هذا الاتجاه وأصدرت في نفس العام توصية تحت رقم 260 /ب35 دعت فيها لجنة القانون الدولي للبحث في ما إذا كان مرغوبا إنشاء هيئة قضائية دولية يناط بها محاكمة الأشخاص المتهمين بارتكاب جرائم إبادة الجنس أو أي جريمة دولية أخرى(1) .

وبناء على هذه التوصية بذلت مجهودات في إطار لجنة القانون الدولي كان أهمها لجنة جنيف سنة 1951، ثم لجنة ثانية عرفت بلجنة نيويورك سنة 1953، كان الهدف منها دراسة إمكانية قيام قضاء دولي جنائي وتشكيل محكمة جنائية دولية دائمة .

لقد كان تشكيل لجنتي جنيف ونيويورك في الواقع البداية الفعلية لمجهودات الأمم المتحدة نحو إنشاء محكمة جنائية دولية، وبجانب هذه الجهود بذلت كذلك جهود أخرى من قبل بعض المنظمات واللجان المتخصصة.

ولأهمية الأفكار المقترحة، ولأنه سيتم بالفعل اقتراح ومناقشة مشروع النظام الأساسي للمحكمة المرجوة ارتأينا التوقف عند هذه الجهود مع الإشارة بإيجاز إلى أهم الأحكام التي تضمنتها المشاريع المقترحة للنظام الأساسي للمحكمة (1) .

بالنسبة للجنة القانون الدولي شكلت في 3 يونيو سنة 1949 لجنة ثنائية من كل من السيد ( يكاردو الفارو) مندوب بنما والسيد ( ساند ستروم) مندوب السويد لوضع تقرير حول إمكانية إنشاء محكمة جنائية دولية انتهى كل واحد منهما إلى وضع تقرير منفصل يبين فيه وجهة نظره حول هذه المسألة.

ذهب السيد " ساند ستروم" إلى أن الوضع الحالي للمجتمع الدولي لا يسمح بقيام هذا النوع من القضاء بسبب العديد من المعوقات من أهمها مبدأ السيادة، وعدم وجود قانون للجرائم والعقوبات، وكذلك الانتقادات الموجهة لمحاكمات "نور مبرج" الأمر الذي من شأنه ّأن يعود بالضرر أكثر ما يحقق النفع، ومع ذلك فقد اقترح إمكانية إنشاء دائرة جنائية تتبع محكمة العدل الدولية للتخفيف من الضرر إذا ما تم إنشاء محكمة جنائية دولية مستقلة.

أما السيد (الفارو) فقد اتخذ موقفا مغايراً أو اكثر تقدماً في سبيل إنشاء المحكمة الجنائية الدولية حيث اعتبر أن ذلك أمراً ممكناً ومفيداً، بل نادى بضرورة تحطيم العقبات التي تقف حائلاً دون قيام هذا النوع من القضاء وأهم هذه العقبات فكرة السيادة التي ما انفكت الدول تتذرع بها للتهرب من المسؤولية والجزاء،ناهيك عن كون الجرائم الدولية أكثر ما ترتكب من قبل ممثلي الحكومات وبالتالي فإن محاكمتهم أمام المحاكم الوطنية قد يبدو عديم الفائدة،ومن هنا تأتي أهمية وجود محكمة جنائية دولية متخصصة في هذا الشأن.

وعلى هذا الأساس خلص الفقيه البنمي إلى تصور قيام قضاء دولي جنائي وذلك على النحو التالي:

1- بالنسبة لطبيعة المحكمة فقد أحال إلى الأمم المتحدة مهمة إنشاء المحكمة الجنائية والتي ستكون إما مستقلة وإما الاكتفاء بإنشاء دائرة جنائية تتبع محكمة العدل الدولية، على أن يكون لها صفة الدوام وتختص بمحاكمة الدول والأفراد المتهمين بارتكاب الجرائم الدولية.

2- أما الاختصاص فتختص بالنظر في كل الجرائم الدولية سواء في الحرب أو السلام بالاستناد إلى قانون عقوبات دولي يتضمن النص على كافة هذه الجرائم نزولاً عند مبدأ شرعية الجرائم والعقوبات.

3- وأما تشكيل المحكمة فيقترح تشكيلها من عدد من القضاة ذوي الخبرة في المسائل الجنائية الدولية تتوفر فيهم شروط قضاة محكمة العدل الدولية، إلا الإجراءات فينبغي أن لا تتحرك إلا بمعرفة مجلس الأمن أو عن طريق دولة يفوضها المجلس لهذا الغرض، مع ضرورة تمتع المتهمين بكافة الضمانات لقيام محاكمة عادلة ونزيهة.

وهذا التقرير الذي لم يغفل كذلك الإشارة إلى إنشاء قسم يضطلع بالشؤون الإدارية للمحكمة،كان محيطاً بأهم الجوانب المتعلقة بإنشاء محكمة جنائية دولية دائمة مستفيداً من الخبرات السابقة ومن الانتقادات التي وجهت إلى محاكمات نور مبرج ، بل يمكن القول أن خطوطه العامة ظلت حاضرة طوال المجهودات التالية له بل وحتى التوقيع على النظام الأساسي الحالي للمحكمة.

ومع ذلك ولأن تقريرا الأستاذين قد جاءا متناقضين تماماً فقد أتى موقف لجنة القانون الدولي وكذلك اللجنة القانونية من التقريرين منقسماً داخل كل لجنة، رغم أن الغالبية قد أيدت ورجحت تقرير السيد "الفارو" الداعي إلى إنشاء محكمة جنائية دولية مستقلة عن محكمة العدل الدولية ورأت لجنة القانون الدولي أن الوسيلة المثلى لذلك عقد اتفاقية دولية تقضي إنشائها وتضع لها لائحتها وتحدد اختصاصاتها (1) .

أما داخل اللجنة القانونية فقد انتهى النقاش إلى أن الأمر يتطلب أن يكون أمام الباحث مشروع بالنظام الأساسي لهذه المحكمة و آخر بالقانون الواجب التطبيق، على ضوء الاعتبارات العلمية، ولهذا أصدرت قراراً بتأليف لجنة من سبعة عشر دولة تجتمع بجنيف في أغسطس 1951 لإعداد مشروع أو أكثر في هذا الخصوص (2) .

ü جهود لجنة جنيف لإنشاء محكمة جنائية دولية : (1)

عند أول اجتماع للجنة عرض عليها تقريران عن إنشاء القضاء الدولي الجنائي تقدم بأحدهما السكرتير العام للأمم المتحدة بينما تقدم بالتقرير الثاني الفقيه الروماني( فسبسيان بيللا) تطرق التقريران لأهم المشاكل المتعلقة بإنشاء المحكمة سواء ما يخص عملية الإنشاء والقانون الواجب التطبيق والاختصاص أو حتى إجراءات المحاكمة.

ففيما يتعلق بكيفية إنشاء المحكمة، ذهب تقرير السكرتير العام للأمم المتحدة في مشروعه للمحكمة الجنائية إلى أن عملية إنشاء هذه الهيئة ممكنة باختيار أحد ثلاثة بدائل أساسية هي:

- إمكانية قيامها كهيئة مساعدة للأمم المتحدة عبر قرار من الجمعية العامة بالاستناد إلى المادتين 7ف2و22 من ميثاق الأمم المتحدة.

- وإما بمقتضى معاهدة دولية بين الدول الراغبة وتكون هيئة مستقلة.

- وإما بالوسيلتين معاً وذلك عبر إنشاء المحكمة بقرار من الجمعية العامة، بينما يكون تحديد التزامات الدول بمقتضى معاهدة دولية تعدها الجمعية العامة ويتاح للدول الانضمام إليها.

أما الفقيه( بيللا) فرأى أن يتم إنشاء المحكمة بقرار من الجمعية العامة للنظر فيما يرتكب من جرائم مخالفة لقانون الشعوب، وتتشكل من 15قاضيا من جنسيات مختلفة لدول أعضاء في الأمم المتحدة .

وفيما يتعلق بالقانون الواجب التطبيق اعتبر السكرتير العام أن القانون الذي ستطبقه المحكمة يأتي على غرار المادة 38من النظام الأساسي لمحكمة العدل أو أن تطبق المحكمة قانون العقوبات الدولية بعد إعداده وإقراره .

بينما اعتبر (بيللا) أن القانون الواجب التطبيق يختلف حسب نوع الجريمة، فإن كانت الجريمة مثلا هي جريمة إبادة الجنس انعقد الاختصاص لقانون الدولة التي وقعت الجريمة على أرضها،أما بالنسبة للجرائم ضد السلام فستطبق المحكمة القانون الوطني للمتهم أو قانون محل إقامته إن كان عديم الجنسية أو قانون مكان الفعل، أما إذا كان الفعل مؤثماً وفقاً لاتفاقية دولية تحدد أركانه والقانون الواجب التطبيق تلتزم المحكمة بتطبيق ذلك القانون .

أما ما يتعلق بالاختصاص فقد أجمع التقريران على أن المحكمة تحاكم الأفراد الطبيعيين سواء كانوا فاعلين أصليين أو شركاء مهما كانت مراكزهم، واعتبر أن الاختصاص ذو طبيعة اختيارية، على أن(بيللا) ذهب إلى أنه للمحكمة النظر في تنازع الاختصاص التشريعي والقضائي بين الدول وكذلك الفصل في حالات الطعن بالتماس إعادة النظر في أحكام الإدانة.

وأخيرا فيما يخص إجراءات التحقيق والمحاكمة والحكم، فقد تصور السكرتير العام للأمم المتحدة بأن يبدأ تحريك الدعوى بإحالة القضية من قبل السكرتير العام بناء على توصية من الجمعية العامة أو مجلس الأمن، كما يمكن أن تحال القضية من قبل حكومات الدول في الحالات التي ينص فيها على ذلك، وأن تجري المحاكمة بشكل علني وكذلك صدور الحكم الذي ينبغي أن يكون نهائياً إلا أن يكون هناك استثناء منصوص عليه، ويكون ذلك أمام محكمة العدل الدولية.

أما مشروع (بيللا) فقد جاء ليؤكد أن بداية تحريك الدعوى يكون من قبل الجمعية العامة بأغلبية ثلثي أعضائها الحاضرين على أن يكون من بينهم ثلاثة من الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن أو بواسطة إحالة من مجلس الأمن. وفي حالة جريمة إبادة الجنس ينعقد الاختصاص عندما يحيل القضية أي طرف متعاقد في اتفاقية قمع جريمة إبادة الجنس بشرط الحصول على موافقة مسبقة من الجمعية العامة للأمم المتحدة.

كما شدد"بيللا" كذلك على حرمة إكراه المتهم على الاعتراف بالإدانة، وعلى علانية الجلسات وكذلك الحكم الذي ينبغي أن يكون مسبباً ويصدر بأغلبية القضاة، وأجاز كذلك في مشروعه إمكانية المحاكمة على ذات الجريمة مرتين تأسيسا ًعلى مبدأ سيادة القانون الدولي على القانون الداخلي،كما رفض أسباب الإباحة في الجريمة الدولية وإن أجاز أن تكون هناك ظروف مخففة.

واعتبر كذلك أن الحكم الصادر عن المحكمة نهائي ولا يجوز الطعن فيه إلا عن طريق التماس إعادة النظر، كما أجاز للدول المنوط بها تنفيذ العقوبة حق منح العفو شريطة موافقة الأمم المتحدة على ذلك.

وبعد استعراض التقريرين المقدمين اتخذت لجنة السبعة عشر"لجنة جنيف" من التقرير المقدم من السكرتير العام أساساً للمناقشة، ووضعت بدورها مشروعاً للمحكمة الجنائية الدولية،يتكون من خمس وخمسين مادة موزعة على سبعة أبواب اشتمل الباب الأول على مبادئ عامة والباب الثاني تنظيم المحكمة والباب الثالث اختصاصاتها والباب الرابع يعرض للجنة التحقيق والادعاء والباب الخامس للإجراءات والباب السادس للجنة العفو والباب الأخير خصص للمحاكم الخاصة. وبالنسبة لإنشاء المحكمة بموجب هذا المشروع فهي تنشأ باتفاقية دولية بين الدول الراغبة وأن تتولى الاتفاقية المنشئة تحديد الجرائم ووضع القواعد الإجرائية التي تمارس الاختصاصات على أساسها، وأما ما يخص إحالة القضية إلى المحكمة فقد تضمن المشروع عدة مسائل: فهي إما أن تحال بمعرفة الجمعية العامة للأمم المتحدة، أو عن طريق أي منظمة دولية أخرى تخولها الأمم المتحدة بذلك، وأما بواسطة إحدى الدول الموقعة على اتفاق إنشائها...(1) .

وعند عرض هذا المشروع أمام اللجنة القانونية انقسم أعضاء اللجنة إلى فريقين كما حدث تماما عند مناقشة تقريري (الفارو ) و(ساندستروم) ولذلك تمت إحالة المشروع إلى الجمعية العامة التي نظرته وأصدرت توصية في ديسمبر 1952 قضت بإنشاء لجنة جديدة من 17 دولة أخرى يختارهم رئيس الجمعية العامة بعد أخذ رأي رئيس اللجنة القانونية، سميت هذه اللجنة ب(لجنة نيويورك) حيث كان مقرراً أن تجتمع بمقر المنظمة سنة 1953 لمعاودة النظر في المشروع السابق ودراسة العقبات التي تحول دون إنشاء المحكمة والتغلب عليها، على أن تقدم تقريرها في السنة الموالية .

ü مشروع لجنة نيويورك :

اجتمعت اللجنة في نيويورك من 27 يوليو إلى 20أغسطس 1953 ودرست جملة من المشاريع السابقة، ونوقشت أثناء الاجتماع مختلف الآراء المؤيدة والمعارضة لإنشاء مثل هذا النوع من القضاء، وتبنت اللجنة في النهاية استنادا إلى جملة من الحجج ضرورة إنشائه.

وعند مناقشة مشروع النظام الأساسي لمحكمة جنائية دولية كانت هناك عدة وجهات نظر حول هذه الطريقة كما حدث أثناء المشاريع السابقة، إلا أنه تم تبني الطريقة التي بموجبها تنشأ المحكمة باتفاقية دولية يبرمها مؤتمر ديبلوماسي يعقد تحت رعاية الأمم المتحدة، بحيث لا تنشأ المحكمة إلا إذا تحدد اختصاصها وصودق على نظامها الأساسي بواسطة عدد معين من الدول(1).

وعن علاقاتها بمنظمة الأمم المتحدة، وفي حين ذهب البعض إلى أن الطبيعة الجنائية الخاصة لهذه المحكمة تقتضي أن تكون مستقلة عن هذه المنظمة وذلك لضمان استقرارها وبقائها، ذهب آخرون إلى وجوب قيام علاقة قوية بين المنظمة والمحكمة نظراً لاتصال عمل المحكمة بأهم مقاصد المنظمة خاصة عندما يتعلق الأمر بالحفاظ على السلم والأمن الدوليين، وهذا الرأي الأخير هو الذي تم ترجيحه وتبنته لجنة نيويورك عند إعداد مشروعها (2) .

ولأهمية المشروع المقدم من لجنة نيويورك حول النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية سنحاول الإشارة إلى أهم المرتكزات التي يقوم عليها هذا النظام.

يشمل مشروع النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، وهو الشق الثاني من التقرير الذي تقدمت به اللجنة ولا يختلف كثيرا عن المشروع الذي تقدمت به لجنة جنيف، سبعة فصول ضمت خمساً وخمسين مادة موزعة على النحو التالي: (1)

المبادئ العامة :

تضمنت المواد 3،2،1 أهم خصائص المحكمة والهدف الأساسي من إنشائها وكذا القانون الواجب تطبيقه، فالغرض من إنشاء المحكمة هو محاكمة الأشخاص الطبيعيين المتهمتين بارتكاب الجرائم الدولية التي نصت عليها الاتفاقيات الدولية، أو تلك التي تكون محل اعتراف كامل من المجتمع الدولي.

أما القانون الواجب التطبيق فقد تطرقت المادة الثانية إلى أن القانون الدولي الجنائي هو القانون الذي تطبقه المحكمة.

كما أشارت المادة الثالثة إلى طبيعة المحكمة، معتبرة المحكمة مؤسسة دائمة على ألا تنعقد جلساتها إلا عند الاقتضاء، وكانت لجنة جنيف قد اقترحت بهذا الخصوص أن تكون المحكمة مؤقتة تنشأ لغرض معين، على شكل محكمة " نور مبرج" وهو أمر لم تقبله كل الدول كما كان مثار انتقاد حينها.

تنظيم وإدارة المحكمة :

اشتمل الفصل الثاني من المشروع على 20 مادة من المادة الرابعة حتى المادة الرابعة والعشرين، تناولت كلها ما يتعلق بتنظيم وإدارة المحكمة فتطرقت المادة الرابعة لمؤهلات القضاة وحياديتهم واستقلاليتهم، وهي شبيهة بالشروط المنطبقة على قضاة محكمة العدل الدولية، وتناولت المادة الخامسة عدد القضاة الذين أصبحوا خمسة عشر قاضياً بعد أن كانوا تسعة قضاة فقط في مشروع لجنة جنيف،مع جعل نصاب الانعقاد سبعة قضاة وغرفة الاتهام خمسة قضاة، كما عالجت المواد من 6-19 جنسية القضاة وإجراءات انتخابهم وترشيحهم ومدة عضويتهم وامتيازاتهم وحصاناتهم وأحوال ردهم وعزلهم وحظر بعض الممارسات عليهم أثناء قيامهم بأداء مهامهم أو ما يتعارض مع عملهم القضائي وحددت مدة مباشرة القضاء لعملهم تسع سنوات، كما نصت المادة 20على الجهاز الإداري للمحكمة والذي يتكون من رئيس ونائب و مسجل وقلم كتاب.

ولم يتم تحديد مقر دائم للمحكمة مع أنه سمح لها بالانعقاد في أي مكان تراه مناسبا كما ورد في المادة 21 ، أما المادة 22 فقد تعرضت للأجور والمرتبات التي تمنح للقضاة، وحددت المادة 23 نظام التمويل ونسبة الاشتراك التي تلتزم بها الدول،وتدفع من هذه الحصيلة نفقات المحكمة ومصاريف الدفاع عن المتهم غير القادر على توكيل محام ولجنة العفو والإفراج،كما تضمنت المادة 24 لائحة إجراءات المحكمة ومن بينها القواعد العامة للإثبات.

اختصاص المحكمة :

تضمن الفصل الثالث من المشروع المواد من 25-32 ،حيث قصر اختصاص المحكمة على الأشخاص الطبيعيين أياً كانت صفاتهم.

وتنص المادة 26 على أن اختصاص المحكمة يكون بمقتضى معاهدة أو اتفاق خاص أو حتى تصريح فردي، بمعنى أنه يجب الموافقة على اختصاص المحكمة وحكمها مع مراعاة أية نصوص توردها الدولة أو الدول المانحة، ولا يؤثر ذلك على الاختصاص الجنائي الوطني،ما لم تنص الوثيقة المانحة للاختصاص على خلاف ذلك.

وعليه فكما أن للدول حق منح الاختصاص فلها كذلك الحق في سحبه من المحكمة بشرط ضرورة إخطار السكرتير العام للأمم المتحدة، ومعلوم أن الهدف من هذا الإجراء تشجيع الدول على منح المحكمة الاختصاص اللازم.

وبالنسبة لوجود المتهم في دولة ثالثة لم يشترط المشروع موافقة هذه الدولة على الاختصاص، إلا أن المادة 34 بينت أنه يقع على عاتق هذه الدولة تقديم مساعدتها للمحكمة، كما أنها ملزمة إذا قبلت هذا الالتزام بموجب معاهدة دولية أو أي وثيقة أخرى.

ولأنه لم يتم تحديد الجرائم التي ستنظر بها المحكمة بدقة، الأمر الذي قد يجعل من اختصاصها محل نزاع من جانب الخصوم أو من جانب أية دولة لذا تضمن المشروع أن المحكمة هي التي تنظر وتفصل في أي دفع يثار عند بدء النظر في الدعوى، ولكن إذا أثيرت المسألة أثناء المرافعات وإجراءات المحاكمة فإن المحكمة من حقها أن تختار الوقت الملائم للفصل في القضية بموجب ما تضمنته المادة 30 من المشروع.

أما العقوبات فقد تركت لسلطة المحكمة التقديرية مع مراعاة أية بنود منصوص عليها في أي اتفاقية أو تصريح منفرد،كما يجوز للمحكمة أن تحكم بعقوبة الإعدام في الجرائم ضد السلام وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية.

الهيئات المعاونة للمحكمة :

وتشمل هيئة الاتهام والإحالة وهيئة الإدعاء العام، وخصصت لها المادتان 33-34 بحيث تتكون من خمسة قضاة يختارون سنوياً لمدة سنة،على أنه ليس لقاضي التحقيق والإحالة في قضية ما أن يجلس للحكم في موضوع تلك القضية، وهذه الغرفة هي التي تقوم بفحص أدلة الإثبات المقدمة من الشاكي مؤيدة لادعائه، وتحدد الإجراءات أمام هذه الغرفة، وتتخذ كافة الإجراءات لضمان محاكمة نزيهة وعادلة.

الإجراءات :

تضمن الفصل الخامس المواد35-52 والتي تناولت كل مراحل الإجراءات من اتهام ومرافعات وحكم وطرق الطعن فيه،بحيث تشمل ورقة الاتهام عرضاً موجزاً وواضحاً للوقائع التي تكوَّن الجريمة، وقواعد القانون الذي بمقتضاه أسند الاتهام، وللمحكمة أن تأذن بإدخال تعديلات على الاتهام وتعلن ورقة الاتهام للمتهم والدولة التي يتبعها بجنسيته.

كما لا يمكن حسب المادة 37 أن تخضع القضايا المعروضة أمام المحكمة لهيئة محلفين إلا إذا تم التنصيص على خلاف ذلك في وثيقة منح الاختصاص للمحكمة.

وتضمنت المادة 38 جملة من الضمانات والحقوق لصالح المتهم،على انه إذا تبين للمحكمة أنها لا يمكن أن تكفل العدالة في الدعوى،فلها أن تصدر حكماً مسبباً بإيقاف كل الإجراءات...، وتكون جلسات المحكمة علنية، إلا إذا رأت المحكمة لصالح تحقيق العدالة عكس ذلك...

وفي حالة إذا ما سحبت الدولة الشاكية الادعاء فالمحكمة وحدها هي التي تقرر الإفراج عن المتهم، ويصدر حكم المحكمة بحضور سبعة قضاة على الأقل ويكون الحكم مسبباً وموقعاً عليه من قبل القضاة الذين أصدروه ومن رئيس المحكمة والمسجل.

ويصدر الحكم بجلسة علنية، ولا يجوز الطعن في أحكامها، والطريقة الوحيدة للاستئناف هي التماس إعادة النظر بشرط اقتناع المحكمة بظهور واقعة جديدة لها تأثير حاسم على القضية كانت مجهولة على المحكمة والمتهم معاً.

أما التنفيذ فقد أنيط بحسب اتفاق يوقع بين الدول التي منحت الاختصاص للمحكمة يتعلق بهذا الغرض.

لجنة العفو والإفراج :

وتتكون هذه اللجنة من خمسة أعضاء تختارهم الدولة مانحة الاختصاص للمحكمة، وعلى اللجنة قبل الفصل في الالتماس بالعفو أو الإفراج المشروط أن تستطلع رأي المحكمة دون أن تتقيد به.

المحاكم الخاصة :

تناولت المادة 54 من مشروع لجنة جنيف والمادة 55من مشروع لجنة نيويورك مسألة المحاكم الخاصة مؤكدة على أنه ليس في هذا النظام ما يخل أو يمس حق دولتين أو أكثر من الدول مانحة الاختصاص للمحكمة في إنشاء محاكم خاصة لمحاكمة مرتكبي الجرائم التي تكون المعاقبة عليها من اختصاص كل من هذه الدول طبقاً للمبادئ العامة في القانون الدولي العام.

وبعد هذه الإحاطة الموجزة بأهم وأكثر المراحل أساسية في تاريخ المحكمة الجنائية الدولية وبالجهود الدولية السياسية وكذلك الفقهية المبذولة والساعية نحو إنشائها، والتوقف عند أهم المشاريع المقدمة تنفيذاً لهذه الفكرة، يمكن القول أن الفكرة قد استوفت حقها من البحث النظري الجاد والمتعمق وأن تحول المحكمة إلى شيء واقعي وملموس أضحى مسألة إرادة سياسية.

4- تعثر جهود الأمم المتحدة في إنشاء المحكمة الجنائية الدولية :

رغم أن الجمعية العامة تلقت مشروع النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية مفصلا ومتضمناً أهم المسائل الأساسية لإنشائها من قبل لجنة نيويورك، إلا أن الجمعية العامة ومنذ دورتها التاسعة في سبتمبر1954 ظلت ترحل مسألة مناقشة إنشاء المحكمة إلى الدورات الموالية تحت عدة مبررات سياسية وقانونية من أهمها ضرورة التوصل أولاً إلى تعريف العدوان بوصفه جريمة من جرائم القانون الدولي الجنائي، وكذا التوصل إلى صياغة مدونة الجرائم ضد السلام وأمن البشرية هذا من ناحية.

ومن ناحية ثانية أرادت الجمعية العامة بهذا التأجيل المتكرر تجنب إمكانية فشل كل هذه المجهودات بسبب اشتداد الحرب الباردة حينئذ والتخوف من أن تتكلف الدول مواقف سلبية من المشروع فقط لمآرب سياسية.

وعلى الرغم من أن الجمعية العامة للأمم المتحدة قد توصلت في 14ديسمبر1974 بتوافق الآراء إلى وضع تعريف للعدوان، فإن تكريس فكرة القضاء الدولي الجنائي وإنشاء المحكمة الدولية الجنائية الدائمة لم يكتب له النجاح.

ومع أن الجمعية العامة قد والت جهودها ومطالبتها للجنة القانون الدولي بمتابعة أعمالها من أجل التوصل إلى إعداد مشروع خاص بالجرائم ضد السلام وأمن البشرية (1)، والبحث في إمكانية إنشاء محكمة جنائية دولية يمكن أن يتضمنها مشروع التقرير الجاري به العمل، إلا أن استمرار الخلافات الإيديولوجية والسياسية الشديدة التي كانت سائدة في فترة القطبية الثنائية والعلاقات الدولية المتوترة والتباينات الكبيرة حول مدونة الجرائم المخلة بسلم وأمن البشرية، كلها عوامل ساهمت في تأجيل إنشاء المحكمة..

بمعنى أنه بالرغم من صدق الجهود المبذولة والرامية إلى إنشاء محكمة جنائية دولية دائمة وأن المحكمة قد استوفت أهم جوانبها من البحث النظري المتعمق فقد ظلت العوامل السياسية بجانب القانونية أهم العراقيل التي جابهت إنشائها، لتواجد مكان المحكمة أصلاً في مفترق الطرق بين ما هو سياسي وقانوني.

وكأنه كان على المجتمع الدولي الانتظار حتى مطلع التسعينيات عقب الانقلاب الكبير الذي شهدته العلاقات الدولية لتدخل المحكمة الجنائية الدولية مرحلة ثانية تكون الظروف فيها مهيأة أكثر للتوقيع على نظامها الأساسي بواسطة اتفاقية دولية تنشأ بموجبها المحكمة بصفة رسمية.

ثانياً : مرحلة وضع مشروع النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية :

الواقع أنه لا يهمنا كثيراً التوقف عند الظروف التي مهدت لتجسيد الفكرة على أرض الواقع وبالتالي التوقيع باتفاق دولي على النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية،هكذا هي أصلاً طبيعة أي تطور يمس بنيان النظام القانوني الدولي الذي تطور غالباً فقط بملاحقة الأحداث والتي تهيء لنمو الفكر القانوني فالصياغة القانونية ثم القبول العام.

1- ملاءمة الظروف الدولية لاعتماد نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية :

إن المتغيرات الدولية الكبرى التي عرفها العالم مطلع التسعينيات، وانهيار نظام القطبية الثنائية الذي هيمن على العلاقات الدولية طوال المرحلة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية حتى بداية سنوات التسعينيات، قد جعلت من هذه الفترة سنوات تحول دولي سريع نحو إنجاز جهاز جنائي دولي،مؤسسة بذلك لأهم مرحلة من مراحل تطور المحكمة الجنائية الدولية والمتمثلة في التوقيع على نظامها الأساسي بروما في السابع عشر من يوليو سنة ألف وتسعمائة وثمانية وتسعين للميلاد.

فعلاوة على انهيار نظام القطبية والصراع الأيديولوجي الذي كان يدفع الدول إلى اتخاذ مواقف متناقضة إزاء العديد من القضايا الدولية والذي كان له أثر كبير في عرقلة تطور النظام القانوني الدولي في جانبه القضائي عامة والجنائي خاصة،فإن انهيار ذلك النظام كان مصحوباً بتفكك بعض الكيانات التي وحدتها الفكرة الإيديولوجية ذاتها، وتزامن هذا التفكك في حالات عدة مع بروز النزاعات العرقية والقومية التي اتخذت منحاً عنيفا ًومأساوياً تمثل في اندلاع حروب أهلية أكثر وحشية وأعمال قتل أكثر بربرية وهمجية من أي حرب سبقتها،كما حدث في منطقة البلقان بجمهورية يوغوسلافيــــا السابقــــة (1) على سبيل المثال، أو في رواندا بسبب صراع طائفي بين قبيلتين تشكلت منهما الدولة.

هذه الأحداث المؤلمة والتي أبان النظام الدولي الحالي بآلياته القائمة عن عجز واضح للتصدي لها، بجانب المعالجات غير الناجحة للعديد من القضايا الدولية الأخرى والتي بالعكس قد تسببت في نتائج عكسية تماماً كما يحدث للشعب العراقي حاليا، بجانب التطور في الفكر القانوني الدولي،... كلها عوامل عززت ودعمت المطلب الدولي الملح نحو ضرورة استعجال إنشاء المحكمة الجنائية الدولية،بل وخلقت القبول والتحبيذ الشعبي والفقهي وحتى السياسي في أحيان كثيرة لها(1) .

وفي الواقع فقد استجابت "الأمم المتحدة " لتلك المتغيرات ورأت بالفعل أن الظروف أصبحت مهيأة ومناسبة أكثر من أي وقت مضى لإنجاز المحكمة الجنائية، وكما صرح السيد (ستيفني مكافري) عضو لجنة القانون الدولي سنة 1990... أنه يوجد حاليا اتفاق عام مبدئي يحبذ إنشاء محكمة جنائية دولية ضمن نظام الأمم المتحدة وأن المناخ الدولي يبدو الآن مؤيدا بشكل خاص لفكرة هذه المحكمة.. وسوف يكون من سوء الحظ إضاعة مثل هذه الفرصة... (2)

ولهذا ورد على الطلب المقدم من (ترينداد وتوباغو) في ديسمبر1989 كانت الجمعية العامة قد طالبت لجنة القانون الدولي في توصيتها رقم49/44 في ديسمبر1989 بإعادة العمل ومتابعة الجهود لتأسيس المحكمة الجنائية الدولية.

وحتى بعد هذا التاريخ كذلك يمكن أن نميز بين مرحلتين أساسيتين من مراحل إعداد مشروع النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية :

المرحلة الأولى والتي امتدت من سنة 1990 حتى سنة1992 والتي تميزت بالربط بين مدونة الجرائم المخلة بسلم وأمن البشرية، والمرحلة الثانية التي ابتدأت بصدور توصية الجمعية العامة إلى لجنة القانون الدولي بالشروع فوراً بوضع مشروع نظام أساسي للمحكمة الجنائية الدولية بوصفها مسألة ذات أولوية.

2- تجاوز العديد من المعوقات القانونية :

أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة توصيتين اثنتين: توصية رقم45/41 في تاريخ 28نوفمبر 1991 والتوصية 46/54 في ديسمبر 1991 دعت فيها لجنة القانون الدولي إلى متابعة دراسة وتحليل القضايا المتعلقة بمسألة ولاية جنائية دولية،بما في ذلك مسألة إنشاء محكمة جنائية دولية(1) وذلك في نطاق دراسة اللجنة لمشروع قانون الجرائم المخلة بسلم وأمن البشرية.

وتنفيذاً لذلك شرعت اللجنة بتشكيل فريق عامل خاص أسندت إليه مهمة البحث في إمكانية إنشاء قضاء دولي جنائي، وبعد مناقشات طويلة ودقيقة للموضوع، ودراسة عدة تقارير تقدم المقرر الخاص بتقريره العاشر الذي خصص بالكامل لبحث إمكانية إنشاء قضاء دولي جنائي،مؤكدا أثناء عرضه للتقرير أمام أعضاء اللجنة،على أن الجمعية العامة لم تطلب منه القيام بوضع نظام أساسي للمحكمة الجنائية المزمع إنشاءها، وإنما طلبت مواصلة دراسة وتحليل المسائل المرتبطة بهذه المسألة.

وفي هذا التقرير تناول المقرر الخاص في الجزء الأول منه بعض الاعترافات والتحفظات التي أثيرت من قبل بعض الدول أثناء عدة لقاءات دولية، أو حتى في إطار مؤسساتها الوطنية حول هل من المستحسن إنشاء مثل هذه الآلية والفائدة المرجوة منها ومدى ملاءمة تأسيسها مع أحكام القوانين الوطنية(1) وهل إنشاء القضاء الدولي الجنائي أمر مرغوب فيه؟، أما الجزء الثاني من تقريره فقد خصص للمسائل المتعلقة بإنشاء المحكمة الجنائية الدولية.

ولأن التغيير الذي طرأ على الأوضاع الدولية يزيد من إمكانية جمع الدعم الدولي لتأسيس القضاء الدولي الجنائي، ولأنه من غير الممكن أن يبقى مشروع قانون الجرائم المخلة بأمن الإنسانية على اختصاص المحاكم الوطنية للمقاضاة على عدة جرائم دولية تضمنها المشروع ومنها العدوان وغيره...، فإنه لا يمكن تصور صدور هذا القانون دون أن يكون مقترناً بجهاز جنائي دولي(2)، بل إن إنشاء المحكمة الجنائية الدولية هو الذي يوفر التطبيق المناسب والأكثر موضوعية لمشروع قانون الجرائم المخلة بسلم البشرية وأمنها.

هذه الفكرة أبرزتها جملة من ردود الحكومات وتعليقاتها على المشروع وكذا المناقشات التي دارت بين أعضاء اللجنة بحيث تكرست فعلاً فكرة أن تطبيق المدونة غير ممكن إلا من خلال وجود هيئة قضائية دولية تتمتع باختصاصات واضحة في محاكمة المتهمين بالجرائم المحددة بداخل المدونة وقادرة كذلك على فرض العقوبات اللازمة.

لقد كان من أبرز ما جاء في تعليقات الدول دعماً لهذه الفكرة ما أوردته حكومة "ترينداد وتوباغو" من تأكيد "على أن من شأن هذا القانون عندما تقبله الدول أن يكون بمثابة صك قانوني دولي يعدد أخطر الجرائم التي تهز ضمير العالم وتخل بالسلم والأمن الدوليين..، إلا أن قانوناً بدون عقوبات ودون قضاء ومحكمة مختصين لن يكون فعالا، ومن أجل ضمان فعالية هذا القانون سيكون من الضروري إنشاء آلية لتنفيذه، وفي هذا الخصوص تؤيد الدولتان إنشاء قضاء دولي جنائي"(1) .

لكن بالرجوع إلى نفس التقرير العاشر وعلاوة على كونه قد خصص الجزء الأول منه للاعتراضات التي أثيرت حول إمكانية قيام قضاء دولي جنائي،بينما تناول الجزء الثاني فيه أهم المسائل المتعلقة بإنشائه وهي الاختصاص والقانون الواجب التطبيق،.. ولأن اللجنة تزاول أعمالها أساساً بتوافق الآراء للحصول على موافقة أغلب الدول،ولأنه لم يتم التوصل إلى هذا التوفيق بين مختلف الآراء حول مشروع المدونة، وفي ظل الانتقادات التي ظلت توجه باستمرار إلى ما سمي بثغرات أساسية بداخله من قبل قوى مهمة ومؤثرة في المجتمع الدولي خاصة الولايات المتحدة الأمريكية (1) أدى في النهاية إلى اعتبار أن الربط بين مشروع المدونة وإنشاء المحكمة أمر غير مستساغ وربما يعرقل إمكانية تأسيسها والتوقيع على نظامها.

وفي ظل تلك الانتقادات والاعتراضات الشديدة على هذا الربط،ناهيك عن أن مختلف المشاريع السابقة كانت مشاريع استطلاعية هدفت إلى إبقاء الموضوع محل اهتمام أعضاء اللجنة والاهتمام الدولي خلال هذه المرحلة الأولى، لم تكن الجمعية العامة قد طلبت من لجنة القانون الدولي الشروع بإنجاز مشروع بالنظام الأساسي للمحكمة بوصفه مسألة ذات أولوية،كان على هذه الأخيرة الاستجابة والأخذ في الحسبان مختلف الظروف والاعتبارات السابقة.

ومن هنا فقد طلبت الجمعية العامة في توصيتها رقم47/33 بتاريخ 25 نوفمبر 1992 و48/31 بتاريخ 9 ديسمبر1993 إلى لجنة القانون الدولي أن تشرع فورا هذه المرة بوضع مشروع نظام أساسي للمحكمة الجنائية الدولية بوصفه مسألة ذات أولوية، لتبدأ مرحلة جديدة تتميز بعدم الربط بين إنشاء المحكمة والتوقيع على مدونة الجرائم ضد السلام وأمن البشرية والشروع في إنجاز المشروع الخاص بالنظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية.

3-إنجاز مشروع النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية :

تضمنت الفقرات 4 - 5 - 6 من توصية الجمعية العامة للأمم المتحدة 47/33 بتاريخ 25 نوفمبر 1992 ثلاثة مسائل أساسية: (1)

4-تحيط الجمعية علما مع التقدير بالفصل الثاني من تقرير لجنة القانون الدولي المعنون بمشروع مدونة الجرائم المخلة بسلم وأمن الإنسانية والذي كرس لمسألة إمكانية إنشاء قضاء دولي جنائي.

5-تدعو الدول إلى تقديم تعليقات كتابية على تقرير الفريق العامل المعني بمسألة إنشاء قضاء دولي جنائي قبل الدورة 45 إلى الأمين العام للأمم المتحدة.

6-يطلب إلى لجنة القانون الدولي أن تواصل أعمالها بشأن هذه المسألة بالإضطلاع والشروع بوضع نظام أساسي لمحكمة جنائية دولية بوصفها مسألة ذات أولوية اعتباراً من الدورة المقبلة..على أن تبدأ بدراسة المسائل التي حددت في تقرير الفريق العامل، وفي المناقشة التي جرت في اللجنة السادسة بغية صياغة نظام أساسي على أساس تقرير الفريق العامل،واضعة في الاعتبار الآراء التي أبديت خلال المناقشات في اللجنة السادسة وكذا أي تعليقات ترد من الدول.

وبالفعل فإن لجنة القانون الدولي كانت قد نظرت في مسألة إنشاء المحكمة الجنائية الدولية ابتداء من دورتها الثانية والأربعين سنة1990 إلى دورتها السادسة والأربعين من سنة 1994 عندما أنجزت في تلك الدورة مشروع نظام أساسي لمحكمة جنائية دولية وقدمته إلى الجمعية العامة(1) . ذلك أن اللجنة كانت قد شكلت فريقا عاملاً لدراسة التقارير المقدمة وتحليل المشاكل الأساسية المتعلقة بإنشاء القضاء الدولي الجنائي يسمى ( الفريق العامل المعني بوضع مشروع نظام أساسي لمحكمة دولية جنائية) ، وبعد أن عقد الفريق عدة جلسات توصل بعدها إلى وضع تقرير يتضمن بيانا مفصلا لعدة قضايا فيما يتعلق بهذه المسألة، واقتراحات محددة بشأن المحكمة الجنائية الدولية، وعند عرض التقرير في جلسة اللجنة 17 يوليو1992 اعتبر التقرير المنجز وثيقة ذات أهمية بالغة نظراً للتحليلات الفقهية الواردة فيه، وتحليل المشاكل التي ينطوي عليها إنشاء هذه المحكمة..علاوة على أن الفريق قد توصل لأول مرة إلى توصيات محددة تعد بمثابة الحد الأدنى والقاسم المشترك لاحتمال الوصول عن طريقها إلى توافق أعمال اللجنة فيما يخص العمل المقبل وقد اعتبر أن من المهم الحسم في عدة أمور أساسية تتعلق بإنشاء المحكمة وهي أمور تشكل في الواقع المحور الرئيسي لتقريره وهذه الأمور هي:(2)

1-ينبغي أن تنشأ المحكمة بموجب نظام أساسي في شكل معاهدة دولية توافق عليها الدول الأطراف.

2- ينبغي للمحكمة في فترة عملها الأولى على الأقل أن تمارس ولايتها فقط على الأشخاص العاديين فقط.

3- ينبغي أن تقتصر الولاية القضائية للمحكمة على الجرائم ذات الطابع الدولي والمحددة في معاهدات دولية نافذة وبالجرائم المحددة في المدونة،مع إمكانية أن تصبح أي دولة طرفاً في النظام دون أن تكون طرفاً في المدونة.

4- ينبغي أن لا تكون في مرحلة عملها الأول على الأقل هيئة دائمة ومتفرغة لكن يمكن أن تنعقد عند الطلب.

وعلى ضوء هذا التقدم المحرز في هذا المجال والتوافق الكبير الذي بدأ داخل اللجنة حول الكيفية التي يمكن أن تنشأ بها المحكمة المنظورة وتعليقات الدول المنصبة نحو هذا الاتجاه ،بدا أنه قد تم الحسم في أهم المسائل المركزية في إنشاء المحكمة، وأن مواضيع التقرير تصلح أساساً لمشروع نظام أساسي لها، من هنا جاءت توصية الجمعية العامة سالفة الذكر .

وبناء على ما سبق كان أمام اللجنة عند مناقشتها لمشروع النظام الأساسي عدة مشاريع وتقارير مهمة، منها تقرير الفريق العامل المشار إليه والتقرير الحادي عشر للمقرر الخاص والمتضمن لمشروع نظام أساسي للمحكمة الجنائية الدولية،بالإضافة إلى تعليقات الحكومات على تقرير الفريق العامل، ومجموعة نصوص أعدتها الأمانة العامة لمشاريع نظم أساسية لمحكمة جنائية دولية أعدت فيما سبق في إطار مجهودات الأمم المتحدة،أو من جهات أخرى عامة أو خاصة... (1)

وبغية الإسراع في إنجاز مشروع النظام شكل الفريق العامل المعني بوضع مشروع نظام أساسي لمحكمة جنائية دولية والذي شكلته اللجنة ثلاث فرق فرعية للنظر في أهم الجوانب العامة والتنظيمية للمشروع بحيث يعالج كل فريق منها بصورة رئيسيه أحد المواضيع الآتية :(2)

- الاختصاص والقانون الواجب التطبيق.

- التحقيق والادعاء.

- التعاون والمساعدة القضائية.

وبموازاة ذلك تم توزيع مواضيع جديدة على مختلف الفرق الفرعية باعتبارها ضمن نطاق النظام الأساسي، وبمناقشة تقارير مختلف الفرق الفرعية... أصدر الفريق نصا أوليا موحدا من بين عدة مشاريع نصوص لمشروع النظام الأساسي للمحكمة تكون من 7 أبواب وسمي"مشروع النظام الأساسي لمحكمة جنائية دولية"(3) .

وتوضح ورود أجزاء كبيرة من نصوص المشروع بين أقواس مدى الصعوبات الكبيرة التي واجهها الفريق العامل في صياغة نص محدد حول نقطة ما ومختلف الآراء والتحفظات التي آثارها النص، وكذا عدم التوصل بعد إلى اتفاق عام على المضمون أو على طبيعته أو لكي يتلقى الفريق توجيهات بخصوصه من الجمعية العامة، وكانت التعليقات التي ترد على بنود المشروع تشرح كثيراً من تلك الصعوبات.

المطلب الثاني : انعقاد مؤتمر روما الدبلوماسي المعني بوضع النظام

الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية (1)

بما أن المشروع السابق قد تعرض لأهم المسائل في النظام الأساسي للمحكمة وتم تقديمه للجمعية العامة أصدرت هذه الأخيرة التوصية رقم 34/53 في 9ديسمبر 1994 بإنشاء لجنة مخصصة لاستعراض المسائل الموضوعية والإدارية الرئيسية الناجمة عن المشروع المعد وصياغة نص كفيل بإجماع دولي كبير، والنظر في الترتيبات اللازمة لعقد مؤتمر دولي للمفوضين وكانت عضوية هذه اللجنة مفتوحة لجميع الأعضاء في الأمم المتحدة، أو أعضاء الوكالات المتخصصة.

وبالفعل فقد اجتمعت اللجنة المخصصة لاستعراض المسائل الأساسية اللازمة لإنشاء محكمة جنائية دولية من 3-13 أبريل ثم من 14-25 أغسطس سنة 1995 حيث كان معروضاً عليها موجز المناقشات المقرة والمتعلقة بموضوع إنشاء المحكمة، وكذا تعليقات الحكومات على المشروع المنجز، وتقرير الأمين العام حول التقديرات المؤقتة لهيئة موظفي محكمة جنائية دولية وهيكلها وتكاليف إنشائها وتشغيلها، بالإضافة إلى عدد من الأوراق غير الرسمية التي أعدها بعض أعضاء اللجنة ووثائق أعدها خبراء ومنظمات غير حكومية. وقد عملت اللجنة إلى إنجاز الدور المنوط بها وذلك في مرحلتين اثنتين :(1)

1- في المرحلة الأولى من عملها استعرضت المسائل الموضوعية والإدارية الرئيسية الناشئة عن مشروع النظام الأساسي لمحكمة جنائية دولية،وأنشأت فريقاً كلف بإعداد ورقة غير رسمية بشأن طرق سير الإجراءات القانونية أدمجت في تقريرها باعتبارها أساساً مفيداً لمناقشات إضافية ثم طلبت من الفريق العامل المعني بوضع مشروع النظام الأساسي إعداد مبادئ توجيهية للنظر في مسألة العلاقة بين الدول الأطراف وغير الأطراف والمحكمة، وكذا مسألة القواعد العامة للقانون الجنائي وقامت بدمج هذه المبادئ التوجيهية ضمن تقريرها.

2-أما في المرحلة الثانية فقد نظرت في الترتيبات المناسبة لعقد مؤتمر دولي للمفوضين، حيث اعتبر عدد كبير من الوفود أن اللجنة قد أنجزت الولاية التي أسندتها لها الجمعية العامة، وأن الوقت قد حان للدخول في مرحلة جديدة من المفاوضات لإعداد نص اتفاقية يعتمدها مؤتمر المفوضين، في حين اعتبر البعض أن الغاية ليس عقد مؤتمر دولي.. بل إنشاء محكمة جنائية فعالة لها سلطتها واستقلالها وتتمتع بدعم ومشاركة على مستوى عالمي..، تأخذ بعين الاعتبار التنوعات الًدستورية والقانونية لكي تكون محكمة حقيقية وهو ما يتطلب بحثا أعمق.

وأخذاً في الحسبان لمجمل الأفكار السابقة أوصت اللجنة أن تتولى الجمعية العامة للأمم المتحدة في المرحلة المقبلة تنظيم الأعمال في وقت مبكر مع تشجيع أكبر عدد ممكن من الدول على المشاركة في تلك الأعمال وتغيير الولاية في الأعمال المقبلة.

وفعلاً تم إنشاء لجنة تحضيرية بموجب توصية الجمعية رقم 50/46 في 11 أكتوبر سنة 1995 لدراسة مختلف المسائل الناشئة عن المشروع، والقيام في ضوء الآراء التي أعرب عنها في الجلسات بإعداد نص موحد ومقبول على نطاق واسع لاتفاقية بإنشاء محكمة جنائية دولية.

اجتمعت هذه اللجنة التحضيرية من 25 مارس إلى12 أبريل ثم من 12-30 أغسطس من سنة 1996 وشرعت في إعداد المهمة المنوطة بها، ثم اجتمعت عدة مرات ثانية في 1997 و1998 من أجل إنجاز صياغة هذا النص لتقديمه إلى المؤتمر بناء على قرار الجمعية العامة رقـــم 51/207 فـــي 17 ديسمبر 1996 (1) وبموجب التوصية رقم 52/160 بتاريخ 15 ديسمبر 1997 أيضا طلبت الجمعية العامة إلى اللجنة أن تواصل عملها وان تحيل إلى المؤتمر الديبلوماسي في نهاية دورتها نص مشروع اتفاقية لإنشاء محكمة جنائية دولية كما طلبت من الأمين العام للأمم المتحدة أن يدعو للمشاركة في أعمال المؤتمر جميع الدول الأعضاء في المنظمة وأعضاء الوكالات المتخصصة، وكذا دعوة ممثلي المنظمات والهيئات الأخرى الدولية والإقليمية والمنظمات المهتمة والهيئات الدولية الأخرى المهتمة،بما في ذلك محكمتي يوغسلافيا ورواندا مراقبين، وكل الهيئات الحكومية وغير الحكومية المعتمدة لدى اللجنة التحضيرية... وذات الصلة بأعمال المؤتمر.

وبما أن اللجنة قد انتهت خلال الاجتماع المنعقد من 16 مارس إلى 3-أبريل 1998 من تحضير المشروع المعد للنظام الأساسي للمحكمة تمت إحالته إلى المؤتمر الدبلوماسي المنعقد بتاريخ من 15-17 يوليو 1998 في مقر منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة بروما"الفاو".

وعند انعقاد المؤتمر عرض عليه مشروع اتفاقية بشأن محكمة جنائية دولية أحالته إليه اللجنة التحضيرية، عهد المؤتمر إلى اللجنة المخصصة لإنشاء المحاكمة الجنائية الدولية بكامل هيئاتها للنظر في مشروع الاتفاقية الذي اعتمدته اللجنة التحضيرية، كما أوكل إلى لجنة الصياغة أمر تنسيق وتدقيق صياغة جميع النصوص المحالة إليها دون تعديل جوهري، ودون إعادة فتح باب النقاشات الموضوعية بشأن أي مسألة وصياغة المواد، والإدلاء بالمشورة فيما يتعلق بالصياغة بناء على طلب المؤتمر أو اللجنة بكامل هيئاتها وتقديم تقارير إلى المؤتمر واللجنة عند الاقتضاء.

وبناء على المداولات وتقارير اللجنة وضع المؤتمر واعتمد في السابع من يوليو سنة 1998 اتفاقية روما بشأن إنشاء محكمة جنائية دولية دائمة رهناً بالتصديق عليها من قبل الحكومات،وفتح باب التوقيع عليها وفقاً لأحكامها من 17 يوليو1998 إلى غاية 17 أكتوبر 1998 في وزارة الخارجية الإيطالية، ثم بعد ذلك إلى غاية 31 ديسمبر(1)000 في مقر الأمم المتحدة بنيويورك،كما فتح الصك للانضمام إليه وفقا لأحكامه،وحرر بنسخة واحدة بالإسبانية والإنجليزية والروسية والصينية والعربية والفرنسية نصوص متساوية الحجية(2) .

لقد تضمن نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية والذي وقعت عليه الدول بأغلبية 120 صوتاً ومعارضة سبع دول وامتناع 21 دولة عن التصويت2 128 مادة موزعة على ثلاثة عشر باباً، تناول الباب الأول مسألة إنشاء المحكمة والباب الثاني الاختصاص والمسؤولية والقانون الواجب التطبيق، بينما خصص الباب الثالث للمبادئ العامة للقانون الجنائي، أما الباب الرابع فقد تعرض لتكوين المحكمة وإدارتها، والباب الخامس للتحقيق والمقاضاة، والباب السادس خاص بالمحاكمة والباب السابع عالج مسالة العقوبات وخصص الباب الثامن للاستئناف وإعادة النظر، أما الباب التاسع تناول مسألة التعاون الدولي والمساعدة القضائية والباب العاشر موضوع التنفيذ، كما خصص الباب الحادي عشر لجمعية الدول الأطراف والباب الثاني عشر لمسألة التمويل، وأخيرا تناول الباب الأخير الأحكام الختامية(3).

إن التوقيع على هذه الاتفاقية يعني ولادة مسار جديد في تطور القانون الدولي عامة والقانون الدولي الجنائي خاصة وإنشاء المحكمة هو السلسلة الأكثر أهمية في النظام القانوني الدولي إذ قد تؤدي لا من الناحية الشكلية ولا من الناحية الموضوعية إلى إضفاء الفعالية والاحترام الواجب لأحكام هذا القانون؟

ذلك أنه باستثناء الاتفاقية الخاصة بجريمة الإبادة في المادة السادسة منها، والاتفاقية الدولية لقمع جريمة الفصل العنصري والمعاقبة عليها في مادتها الخامسة والتي تلتزم الدول بموجبها إما بتقديم المسؤولية عن هذه الأعمال أمام محاكمها الخاصة، وإما بقبول اختصاص محكمة جنائية دولية، ظل القانون الدولي عاجزاً عن مواجهة أشد الجرائم خطورة.

وحتى في الحالتين السابقتين فقد اتضح أن من الصعوبة تقديم مرتكبي تلك الجرائم إلى العدالة، حيث أدى عدم وجود آليه بديله على الصعيد العالمي إلى زيادة تلك الصعوبات،إذ كيف يمكن محاكمة رئيس دولة أو حكومة أو كبار المسؤولين عند ثبوت ارتكاب جريمة الإبادة في بلدهم؟!

ولقد لاحظت لجنة القانون الدولي أنه لم يتم مطلقاً أي اتهام بجريمة الإبادة منذ توقيع الاتفاقية(1)، ولا شك أن أهم نتيجة لذلك هي أن قواعد القانون الدولي تفقد مصداقيتها وتتعرض للتآكل.

ولأن الاتفاقيات تمثل الشكل الأساسي للحقوق على المستوى الدولي، وتمثل كذلك التزامات قانونية محددة ترتب مسؤولية الدول عن الإخلال بها، يجيء أهمية اعتماد النظام الأساسي لمحكمة جنائية دولية دائمة بموجب معاهدة دولية. فماهي أهم مضامين النظام الأساسي للمحكمة ؟ .

لأن القانون الدولي كان ومايزال قانون الدول الحرة المتساوية في السيادة، ينشأ برضاها وتخضع لأحكامه بإرادتها..، ولأن تطوير آليات ومؤسسات النظام القانوني الدولي تتطلب أولاً إجماعاً دولياً عريضاً حول أهمية تلك المؤسسات، جاء الحرص منذ البداية على أن يصاغ النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية بوصفها أحدث مؤسسة من مؤسسات النظام القانوني الدولي، بكيفية يمكن أن يحوز بها رضا الدول،هذه الحقيقة كانت حاضرة منذ بداية التفكير بإنشاء المحكمة، وهي المفسرة كذلك لطول المدة التي استغرقها إنجاز نظامها الأساسي، والمبررة أيضاً لكل فقرة من فقراته.

لقد بدا الأمر جلياً منذ ديباجة هذا النظام الذي كان عليه أن يحمل إجابات واضحة على تساؤلات أساسية، من صنف ما طبيعة المحكمة المقبلة؟ وما علاقتها بمنظمة الأمم المتحدة والدول؟ وما حجم السلطات التي ستمنح لها؟ وما إلى ذلك من التساؤلات المرتبطة بعمل المحكمة.

الأكيد أن مصطلح محكمة ينصرف ليس إلى هيئة قضائية فحسب، (1) بل إلى بنية النظام القضائي الدولي ككل والأجزاء المكونة له، بالإضافة إلى الأحكام العامة والمبادئ المتعلقة بتنظيمه، وعليه كان لابد أن يتضمن النظام الأساسي جملة تلك المبادئ، كما عليه أن يحدد هيئات وأجهزة المحكمة سواء الجهاز القضائي أو الإداري، كما تشكل مسألة الاختصاص والقانون الواجب التطبيق جوهر هذا النظام وأهم موضوعاته.

والأكيد أيضاً أن صعوبة تخلي الدول عن الاختصاص الجنائي المرتبط أوثق الارتباط بمبدأ السيادة الوطنية، كان من أهم معوقات إنشاء المحكمة الجنائية الدولية، ومن هنا لا غرو أن يخصص واضعوا النظام الأساسي أغلب المجهودات المبذولة حول اختصاصات المحكمة، وأن يشكل الباب المتعلق بالاختصاصات والقانون الواجب التطبيق جوهر نظامها الأساسي. ومن هنا يأتي التشديد منذ البداية على قصر اختصاص المحكمة على جرائم دولية "ذات طبيعة خاصة"، وهي جرائم القانون الدولي الأشد جسامة.

وبما أن موافقة دولة على اختصاص المحكمة له تبعات كبيرة متعلقة بالاختصاص الجنائي لمحاكمها، فقد وضعت كذلك عدة تساؤلات من صنف: ما هي المعايير التي سيتم على أساسها تحديد الجرائم الأكثر خطورة والأشد جسامة؟.

وستقتصر دراستنا في هذه النقطة على أهم القضايا المتعلقة بالجانب النظري للنظام الأساسي للمحكمة خصوصاً بنية المحكمة والأحكام المتعلقة بعملها، وكذلك الاختصاصات التي أسندت لها بموجب هذا النظام الأساسي، على اعتبار أنه لا يمكن الإحاطة بكل مضامين النظام الأساسي حتى ما يتعلق بهاتين الجزئيتين، كما أن ذلك ليس الجانب الأهم في موضوعنا هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية فمدى المشاركة في النظام الأساسي من قبل الدول وأهمية ما تقوم به المحكمة من مهام يعني واقعياً إلى أي مدى يمكن أن تساهم المحكمة في تعزيز فعالية القانون الدولي العام؟ وهو موضوع القسم الثاني من هذه الدراسة.

وعليه سنتناول في المبحثين التاليين أولاً بنية المحكمة الجنائية الدولية، وثانياً اختصاصات المحكمة الجنائية الدولية.

المبحث الأول :البنية التنظيمية للمحكمة الجنائية الدولية

يرتبط تناولنا لعملية تنظيم وإدارة المحكمة الجنائية الدولية بمسألتين اثنتين تضمنهما النظام الأساسي: وتتعلق الأولى ببنيات الجهاز القضائي الدولي وبيان أجهزته وهيئاته وتحديد العلاقة بين كل هذه الأجهزة ومدى الاستقلال الممنوح لكل منها إزاء الأخرى.

أما الثانية فتتصل بأهم المبادئ والأحكام المتعلقة بعمل هذه المؤسسة سواء تعلق الأمر بكيفية إنشاء المحكمة وطبيعتها وعلاقتها بالدول وبالمنظمة الدولية وسريان نظامها الأساسي وكفاءتها المالية وما إلى ذلك من الأحكام العامة والخاصة المتعلقة بتنظيم وعمل المحكمة.

وتفصيلاً لهذا الإجمال يمكن دراسة تنظيم وإدارة المحكمة من خلال نقطتين أثنتين:

أولاً: ويتعلق بهيئات وأجهزة المحكمة.

ثانيا: ويتصل بالمبادئ المتعلقة بتنظيم عمل المحكمة.

 

 

المطلب الأول :الأجهزة المكونة للمحكمة الجنائية الدولية

أشرنا إلى أن استخدام عبارة محكمة جنائية دولية تنصرف للدلالة على النظام القضائي الدولي الجنائي ككل ولا تنحصر في المعنى الضمني لهيئة قضاة فقط. فما هي أجهزة وهيئات المحكمة ؟ وكيف تم تنظيم العلاقات بين مختلف هذه الأجهزة؟ .

حددت المادة 34 من نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية بنية هذه المؤسسة الجنائية الدولية في ثلاثة أجهزة أساسية وهي: الجهاز القضائي والجهاز الإداري والجهاز الإدعائي.

ولقد كان الاعتقاد السائد لدى الفريق العامل المعني بوضع مشروع النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية عند مناقشته للمادة الخامسة من مشروع النظام الأساسي(1) ، إنه من المتعين لأسباب مفاهيمية وإدارية وغيرها من الأسباب اعتبار أن هذه الأجهزة تشكل نظاماً قضائياً دولياً ككل، بالرغم من الاستقلال الضروري الذي ينبغي أن يكون بين مختلف هذه الأجهزة خاصة بين الجهازين القضائي والإدعائي وذلك لعدة عوامل تتصل بالأخلاق وبالمحاكمة العادلة.

أولاً : الجهاز القضائي في المحكمة الجنائية الدولية :

نعني بالجهاز القضائي هنا كل هيئة القضاء بما في ذلك هيئة الرئاسة والشعب التي تتكون منها المحكمة وهي الشعبة التمهيدية والشعبة الابتدائية وشعبة الاستئناف.

1- قضاة المحكمة :

في المشاريع الأولى للنظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية،برزت عدة رؤى حول الكيفية التي سيتم بها تنظيم وإدارة المحكمة وتعيين قضاتها ويمكن إجمال كل تلك الرؤى في: (1)

أولاً: فيما يتعلق بتعيين القضاة :

طرحت في البداية فكرة التعيين المباشر لقضاة المحكمة من قبل الدول بحيث تعين كل دولة من الدول أحد مواطنيها ليتبوأ منصب قاض من قضاة المحكمة،على أن يصدر الأمين العام للأمم المتحدة لائحة بالقضاة المعينين وذلك فقط وفقاً للترتيب الهجائي.

ثانيا: تكوين غرف المحكمة :

لأنه لا توجد إمكانية لجلوس كافة القضاة الذين تعينهم حكومات الدول الأعضاء في وقت واحد، فقد تم اقتراح تشكيل الغرفة من تسعة قضاة مع احتمال أن يكون العدد أقل أو أكثر، على أن يتم اختيارهم من قبل رئيس المحكمة من بين القائمة التي يعدها الأمين العام عند إحالة كل قضية إلى المحكمة، وأن يراعي في ذلك بعض المعايير المحددة ضماناً للموضوعية والحياد....

وتبعا لذلك فلا ينبغي مثلاً اختيار قاض يتمتع بجنسية الدولة التي ينتمي إليها المتهم بارتكاب الجريمة، كما لا يجوز اختيار قاض يتمتع بجنسية الدولة التي ارتكبت الجريمة فوق إقليمها...

وأما رئيس المحكمة فسيتم انتخابه إما من قبل الجمعية العامة للأمم المتحدة، أو من لدن كافة القضاة، أو من قبل لجنة معينة من قبل الدول الأعضاء...،كما برزت كذلك بعض المقترحات الداعية إلى الأخذ بإجراءات الترشيح والانتخاب المتبعة في اختيار قضاة محكمة العدل الدولية، والمحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة باعتبار ذلك سيوفر ضمانات أكبر للاستقلال والصفة العالمية ...، واقترح كذلك أن تتولى الجمعية العامة ومجلس الأمن الدولي وليس الدول إجراء الانتخابات من بين المرشحين المتقدمين سواء كانوا من دائرة هذه الدول الأطراف في النظام الأساسي للمحكمة ، أو من خارج تلك الدائرة وذلك بهدف تعزيز مقبولية هذه المؤسسة الدولية... مع مراعاة التمثيل الجغرافي العادل فضلاً عن تمثيل النظم القانونية الرئيسية في العالم...(1)، وأشير كذلك إلى أنه ينبغي أن يعين القضاة وفقاً لأفضل الأساليب الرسمية الممكنة كأن يتم ذلك بواسطة الجمعية العامة كون المحكمة ستنوب عن المجتمع الدولي في ضمان حقوق الإنسان وحرياته، واحترام قيم النظام القانوني الدولي ومبادئه.

أما إذا تم تعيين القضاة من جانب الدول فسيكون من ضمن انعكاسات ذلك وجود عدد ضخم من القضاة، من هنا ينبغي تحديد عدد القضاة مع مراعاة المبادئ التقليدية عند تعيينهم، بما في ذلك المبادئ المرتبطة بتمثيل الأنظمة القانونية والتوزيع الجغرافي العادل ...

ولأن قضاة المحكمة الجنائية سيختلفون عن قضاة محكمة العدل الدولية ومحاكم التحكيم الدولية كون أحكامهم تتصل مباشرة بشرف الأفراد ومصيرهم، فإن إمكانية تعرضهم للضغوط والابتزاز والتهديد كبيرة وعليه من غير المعقول أن يتم تعيينهم من قبل الحكومات، من هنا تأتي أهمية انتخابهم من قبل المجتمع الدولي بشكل محايد وذلك لإبعادهم عن مختلف الضغوطات وحتى تزاول المحكمة عملها باستقلالية.

أما في مؤتمر روما ومراعاة لمختلف الرؤى التي برزت طوال مرحلة إعداد النظام الأساسي تم التوصل عند اعتماد النظام الأساسي إلى أن يتم انتخاب قضاة المحكمة عبر الاقتراع السري في اجتماع"جمعية الدول الأطراف"(1) من بين المرشحين الذين تقدمهم الدول لشغل منصب لدى المحكمة الجنائية الدولية، كما يتم عزل أي قاض من قضاة المحكمة باقتراع سري لجمعية الدول الأطراف، يتخذ بالأغلبية المطلقة، بناء على توصية تعتمد بأغلبية ثلثي القضاة (1) .

وقد تم تحديد عدد القضاة الذين تتألف منهم المحكمة الجنائية الدولية ب 18 قاضياً يعملون على أساس التفرغ لمدة تسع سنوات على أنه يجوز لهيئة رئاسة المحكمة المشكلة اقتراح زيادة أو نقصان(2) . مسألة عدد القضاة الذين تتألف منهم المحكمة، وكذلك مدة عملهم أخذت بدورها جانباً من النقاشات، ففيما يتعلق بتحديد ثمانية عشر قاضياً اعتبرت بعض الرؤى أن هذا العدد غير كاف كون هؤلاء القضاة لن يكونوا مسؤولين فقط بالبت في الدعاوى الابتدائية وإنما كذلك على أعلى الدرجات،كما أن أعضاء هيئة الرئاسة سيختارون من بين هؤلاء القضاة الثمانية عشر، لذا فإن هذا العدد يبدو ضئيلاً(3) . أما فيما يخص طول مدة شغلهم لمناصبهم والمحددة بتسع سنوات فقد اعتبرت أنها نوع من العوض عن الحظر المفروض على إعادة انتخاب القضاة (4) .

وينبغي في القاضي المرشح للمنصب لدى المحكمة أن يتمتع بالأخلاق الرفيعة و الحياد والنزاهة وكل المؤهلات المطلوبة في دول كل منهم ليصبحوا قضاة، كما على كل مرشح أن يكون على دراية كافية بالقانون الجنائي والإجراءات الجزائية، وخبرة كافية في مجال القانون الدولي العام خاصة القانون الدولي الإنساني وحقوق الإنسان مع إجادة تامة للغة واحدة على الأقل من لغات عمل المحكمة(1) .

إما عن طريق انتخابهم بالاقتراع السري في جمعية الدول الأطراف فيكون القضاة الثمانية عشر هم الحاصلون على أعلى نسبة الأصوات ضمن المرشحين وعلى أغلبية ثلثي الدول الأطراف الحاضرة لهذا الاجتماع و المصوتة، وفي حالة عدم انتخاب عدد كافي من القضاة في الاقتراع الأول تجري عملية اقتراع متعاقبة إلى أن يتم شغل المناصب المتبقية. وعلى أي حال لا يجوز أن يكون هناك أكثر من قاض واحد من رعايا نفس الدولة،مع مراعاة الحاجة إلى تمثيل النظم القانونية الرئيسة في العالم، والتوزيع الجغرافي العادل والتمثيل العادل للذكور والإناث عند اختيار القضاة(2)، كما ينبغي أن يكون القضاة مستقلين في أدائهم لوظائفهم، وأن لا يزاولوا أي عمل يمكن أن يتعارض مع مهامهم أو أن يؤثر في استقلالهم، ولا أي عمل آخر ذي طابع مهني.

وعقب انتخاب القضاة الثمانية عشر، يتم انتخاب ثلثهم لمدة ثلاث سنوات، وفي القرعة الثانية لمدة ستة سنوات وفي القرعة الثالثة أي الثلث المتبقي لمدة تسع سنوات، على أنه يجوز انتخاب القضاة المنتخبين لمدة ثلاث سنوات، في القرعة الأولى لمدة ولاية أخرى كاملة، وفي كل الأحوال يستمر القاضي في إتمام أي محاكمة ابتدائية أو استئنافية إذا كان قد بدأ فعلاً النظر في تلك القضية المنظورة أمامه(1)، أما إذا شغر منصب أحد القضاة فيتم انتخاب بديل عنه لإكمال الفترة المتبقية، وإذا كانت فترة الشغور المتبقية أقل من ثلاث سنوات يجوز انتخاب البديل لولاية كاملة بحسب المادتان 36-37 من النظام الأساسي للمحكمة،وفيما عدا هذين الاستثنائين فإنه على خلاف محكمة العدل الدولية فقد اعتبر أن الطبيعة الخاصة لمؤسسة جنائية دولية تؤيد مبدأ عدم إعادة انتخاب القضاة لولاية جديدة (2) .

وفي كل الأحوال يتعهد القضاة قبل مباشرة عملهم وفي جلسة علنية بأداء مهامهم بنزاهة وأمانة، وعقب انتخاب القضاة تنظم المحكمة نفسها بحيث يتم انتخاب هيئة رئاسة المحكمة وتشكيل الشُعَب(3) .

2-هيئة الرئاسة (1) :

هي الهيئة المسؤولة عن الإدارة السليمة والواجبة للمحكمة باستثناء مكتب المدعي العام،كما تقوم بالتنسيق معه في إدارة المحكمة وتلتمس موافقته بشأن جميع المسائل ذات الاهتمام المتبادل.

وتتشكل هيئة الرئاسة من الرئيس ونائبين اثنين بحيث يقوم النائب الأول بدلا عن الرئيس في حالة غيابه أو تنحيته، كما يقوم النائب الثاني بأعمال الرئيس كذلك في حالة غيابه وغياب النائب الأول.

وبموجب النظام الأساسي يتم انتخاب الرئيس ونائبيه بالأغلبية المطلقة للقضاة الذين تتألف منهم المحكمة، ويتم انتخابهم لمرة واحدة فقط حسب المادة 38 فقرة (1) ويعملون على أساس التفرغ بحيث يكونون جاهزين للخدمة على هذا الأساس منذ بداية ولايتهم .(2) ولهيئة الرئاسة في ضوء حجم العمل بالمحكمة وبالتشاور مع أعضاء المحكمة البت في الأمر الذي يكون مطلوباً في حدوده من القضاة الآخرين العمل على أساس التفرغ، كما يجوز لها في أي وقت اعتماد اقتراح بزيادة عدد القضاة أو اقتراح إجراء تخفيض شريطة أن لا يكون هذا التخفيض أقل من عدد قضاة المحكمة الأساسيين (18 قاضياً ) وفي الحالتين ينبغي توضيح الأسباب التي أدت إلى التقدم بأي اقتراح،كما أنه لهيئة الرئاسة وبناء على طلب أي من القضاة إعفاءه من ممارسة أي من المهام المقررة بموجب النظام الأساسي للمحكمة...

3-شعبة تمهيدية وشعبة ابتدائية وشعبة استئناف :

كقاعدة عامة يتم تعيين القضاة بالشُعب على أساس طبيعة المهام التي ينبغي أن تؤديها كل شعبة ومؤهلات وخبرات القضاة، بحيث تضم كل شعبة مزيجاً من الخبرات في القانون الجنائي والإجراءات الجزائية والقانون الدولي العام خاصة القانون الدولي الجنائي والقانون الدولي الإنساني.

- الشعبة التمهيدية: وتتألف هذه الشعبة من عدد لا يقل عن ستة قضاة من ذوي الخبرة في المحاكمات الجنائية،وتمارس الوظائف القضائية في الشعبة بواسطة دوائر،ويقوم ثلاثة من قضاة الشعبة التمهيدية بوظيفة الدائرة التمهيدية، كما يجوز أن يقوم بوظيفة الدائرة التمهيدية قاض واحد فقط، ويعمل قضاة هذه الشعبة لمدة ثلاثة سنوات، كما يستمرون بعد ذلك إلى حين إتمام أي قضية يكون قد بدئ فعلاً النظر فيها بالشعبة(1) .

ويمكن لقضاة الشعبة التمهيدية العمل بالدائرة الابتدائية،إذا رأت هيئة الرئاسة أن في ذلك تحقيق العدالة، ولحسن سير العمل بالمحكمة كذلك، وينبغي مراعاة أن القاضي في هذه الحالة لم يسبق له أن نظر بنفس الدعوى عندما كان عضواً بالدائرة التمهيدية.

وبموجب المادة 57 من النظام الأساسي تمارس الدائرة التمهيدية إصدار الأوامر والقرارات حيث تأذن للمدعي العام بإجراء التحقيقات إذا رأت أن هناك أساساً معقولاً للشروع في إجراء التحقيق وأن الدعوى تقع ضمن اختصاص المحكمة،كما لها كذلك أن تأذن له بالشروع بالتحقيق ريثما تتخذ قرارًا بذلك،إذا كانت هناك فرصة فريدة للتحقيق أو الخوف من ضياع الأدلة أو احتمال كبير بعدم إمكان الحصول على هذه الأدلة في وقت لاحق،كما لها أن ترفض ذلك (2) .

وفي حالة تأكدها من عدم قدرة دولة ما على تنفيذ طلبات التعاون المقدمة من المحكمة لانعدام وجود سلطة وطنية أو عنصر قضائي يمكن أن يكون قادراً على تنفيذ طلبات التعاون المقدمة تأذن للمدعي العام بالقيام بإجراء التحقيق في إقليم تلك الدولة في أي وقت، كما أنها تصدر أمر القبض وأوامر الحضور بعد الشروع في التحقيق في أي وقت بناء على طلب مقدم من المدعي العام إذا اقتنعت بعد فحص الأدلة بوجود أسباب معقولة للاعتقاد بأن الشخص قد ارتكب جريمة تدخل ضمن اختصاصات المحكمة، وأن القبض يعد ضرورياً لضمان حضوره أمام المحكمة أو لضمان عدم قيامه بعرقلة التحقيق وإجراءات المحاكمة وتعريضها للخطر، أو لمنع الشخص من الاستمرار في ارتكاب الجريمة أو أية جريمة أخرى ذات صلة بها تدخل ضمن اختصاص المحكمة... (1) .

كما أن لهذه الشعبة إصدار أمر حضور الشخص المتهم بناء على طلب المدعي العام عوضاً عن أمر القبض بعد التأكد من وجود أسباب معقولة لذلك. ويتضمن أمر الحضور اسم الشخص وأية معلومات ذات صلة والتاريخ المحدد الذي على الشخص الحضور فيه، مع إشارة محددة إلى الجرائم التي تدخل في اختصاص المحكمة والمتهم بارتكابها، مع بيان موجز بالوقائع التي تشكل الجريمة.

أما عن اعتماد لائحة التهم، فتعقد الشعبة التمهيدية جلسة لاعتماد التهم التي يعتزم المدعي العام تقديمها للمحكمة- و بعد تقديم المتهم إلى المحكمة أو حضوره طواعية وذلك بحضوره شخصياً هذه الجلسة أو محاميه- حيث تقرر بناء على وجود أسباب كافية وأدلة جوهرية تدعو للاعتقاد بأن الشخص المتهم قد ارتكب لجريمة منسوبة إليه اعتماد التهم، أو ترفض اعتمادها بسبب عدم كفاية الأدلة أو أنها تؤجل الجلسة وتطلب من المدعي العام إما تقديم مزيد من المعلومات والأدلة، أو إجراء مزيد من التحقيقات. (1)

كما يمكن أن تقدم الطعون المتعلقة بالمقبولية والاختصاص إلى الشعبة التمهيدية شريطة أن يكون ذلك قبل اعتماد لائحة الاتهام، أما إذا اعتمدت اللائحة فتقدم الطعون أمام الدائرة الابتدائية، كما يجوز استئنافها أمام دائرة الاستئناف وفقا للفقرة الثانية من المادة 82 من النظام الأساسي للمحكمة.

الشعبة الابتدائية:

وهي المسؤولة عن سير الإجراءات اللاحقة لاعتماد لائحة التهم من قبل الدائرة التمهيدية وتشكل من قبل هيئة الرئاسة، ويجوز للدائرة الابتدائية أن تمارس أي وظيفة من وظائف الدائرة التمهيدية.

وتتألف أيضاً من عدد لا يقل عن ستة قضاة ذوي خبرة في المحاكمات الجنائية، وتمارس الوظائف القضائية للمحكمة في كل شعبة بواسطة دوائر، ويقوم ثلاثة قضاة من قضاة الشعبة الابتدائية بمهام الدائرة الابتدائية ويعملون لمدة ثلاث سنوات وبعد ذلك إلى حين إتمام أي قضية يكونون قد بدأو النظر فيها، ويجوز الإلحاق المؤقت لقضاة من الدائرة الابتدائية لدى التمهيدية، لكن لا يحق لهذا القاضي الملحق الذي نظر في الدعوى لدى التمهيدية أن يكون قاضياً على نفس القضية في الدائرة الابتدائية .(2)

وتتكفل الدائرة الابتدائية بضرورة أن تكون المحاكمة عادلة وسريعة وفي جو من الاحترام التام لحقوق المتهم مراعية حماية المجني عليهم والشهود، كما تتخذ كافة التدابير لتسهيل سير الإجراءات وتحدد اللغة أو اللغات الواجب استخدامها في المحاكمة، وتصرح بالكشف عن الوثائق والأدلة،أما المحاكمات فتعقد عموما ًأمام الدائرة الابتدائية علنية إلا أنه يجوز بحسب الظروف أو لأهمية بعض المستندات التي يتعين استخدامها أدلة أو لحماية المجني عليهم والشهود أن تجري هذه المحاكمات بصفة سرية (1) . والدائرة الابتدائية تقوم كذلك بالفصل في قبول الأدلة واتخاذ جميع الخطوات اللازمة للمحافظة على النظام أثناء الجلسات وتكفل إعداد سجل كامل بالمحاكمة يتضمن بياناً دقيقاً بالإجراءات..

وتبدأ الإجراءات أمام الدائرة الابتدائية بتلاوة لائحة الاتهام التي اعتمدتها الدائرة التمهيدية، وتتأكد الدائرة من أن المتهم يفهم طبيعة التهم الموجهة إليه، فإذا اعترف المتهم بالذنب طوعاً وبوعي وكان الاعتراف مدعوماً بوقائع الدعوى في التهم الموجهة إليه من قبل المدعي العام، أو أي مواد مكملة يقدمها المدعي العام كذلك، كأدلة أو شهادة الشهود، تتحقق المحكمة من ذلك وتبت فيه، وإذا اقتنعت الدائرة بثبوت هذه المسائل اعتبرت الاعتراف من قبل المتهم مع أي أدلة إضافية جرى تقديمها تقريراً لجميع الوقائع الأساسية اللازمة لإثبات الجريمة المتعلقة بالاعتراف وجاز لها حينئذ إدانة المتهم بتلك الجريمة،أما إذا لم تقتنع الدائرة بثبوتها ولا بالاعتراف الصادر من المتهم اعتبر هذا الاعتراف كأنه لم يكن، وبالتالي تأمر بمواصلة المحاكمة أو تحيل القضية إلى دائرة ابتدائية أخرى،ولها أيضاً أن تطلب من المدعي العام تقديم أدلة إضافية إذا رأت أنه يلزم تقديم عرض أوفى لوقائع الدعوى وذلك تحقيقاً لمصلحة العدالة، كما تأمر بمواصلة المحاكمة وفقاً للإجراءات العادية وتعتبر الاعتراف كأن لم يكن ويجوز لها أن تحيل القضية إلى دائرة ابتدائية أخرى كذلك(1) .

شعبة الاستئناف : (2)

تتألف شعبة الاستئناف من الرئيس وأربعة قضاة آخرين وتتكون الشعبة من جميع القضاة الذين تتألف منهم، ويعملون كامل مدة ولايتهم بهذه الشعبة، ولهذه الدائرة جميع سلطات الدائرة الابتدائية.

ولهذه الدائرة إذا تبين أن الإجراءات المستأنفة كانت مجحفة على نحو يمس بموثوقية القرار أو حكم العقوبة أو كان مشاباً جوهرياً بلغط في الوقائع أو القانون أو الإجراءات، جاز لها أن تلغي أو تعدل القرار أو الحكم، أو أن تأمر بمحاكمة جديدة أمام دائرة ابتدائية مختلفة، كما تفصل شعبة الاستئناف في أي تساؤل يتعلق بتنحية المدعي العام أو نوابه(3) .

ويصدر حكم دائرة الاستئناف مسبباً بأغلبية آراء القضاة في جلسة علنية. وبجانب الاستئناف تتولى كذلك أمر إعادة النظر في الحكم النهائي بالإدانة أو العقوبة بناء على طلب من الشخص المدان أو من يكلفه بذلك أو ورثته أو المدعي العام في حالة اكتشاف أدلة جديدة لم تكن متاحة وقت المحاكمة ، شريطة أن تكون على قدر كاف من الأهمية، أو إذا تبين أن أدلة حاسمة استخدمت أثناء المحاكمة ترتب عليها الحكم كانت مزيفة أو مزورة، أو أن واحدا أو أكثر من القضاة قد ارتكبوا مخالفة جسيمة لدرجة تكفي عزل القاضي،وبعد نظر الشعبة بهذا الطلب فهي إما أن ترفضه إذا اتضح أنه من غير أساس، أو أنها تقوم بـ (1) :

- دعوة الدائرة الابتدائية الأصلية إلى الانعقاد من جديد.

- تشكيل دائرة ابتدائية جديدة.

- أن تبقي اختصاصها بشأن المسالة وذاك بهدف التوصل بعد سماع الأطراف على نحو ما هو مبين بالقواعد الإجرائية وقواعد الإثبات، والتقرير بشأن ما إذا كان ينبغي إعادة النظر في القرار أو الحكم.

ثانياً : الجهاز الادعائي في المحكمة الجنائية الدولية :

تم إيلاء هيئة الادعاء اهتماما كبيرا من قبل الفريق العامل المعني بوضع نظام أساسي لمحكمةً جنائية دولية أثناء إعداد مشروع هذا النظام، فهذه الهيئة وإن تكن جهازا متصلاً بالنظام القضائي الدولي الجنائي الشامل ينبغي أن تظل مستقلة في أداء وظائفها وأن تكون منفصلة عن هيكل هيئة القضاء(1)، من هنا جاء التركيز على ضرورة أن يتم انتخاب المدعي العام ونائب المدعي العام عن طريق أغلبية الدول الأطراف في النظام الأساسي للمحكمة لا عن طريق هيئة القضاء،كما تم التشديد كذلك على ضرورة عدم جواز تلقي المدعي العام أي تعليمات من قبل أي حكومة كونه يعمل فعلاً كممثل للمجتمع الدولي بأسره(2) .

ويتكون الجهاز الادعائي أو هيئة الادعاء في المحكمة الجنائية الدولية من مكتب المدعي العام الذي يتألف من المدعي العام ونائباً أو نواباً له ومن يلزم من الموظفين المؤهلين.

ومكتب المدعي العام جهاز منفصل من أجهزة المحكمة، ويكون مسؤولاً عن تلقي الإحالات أو أي معلومات موثوقة عن جرائم تدخل ضمن اختصاصات المحكمة لدراستها قصد الاضطلاع بمهام التحقيق.

ويتمتع المدعي العام بسلطة كاملة في تنظيم وإدارة المكتب، ويكون المدعي العام ونائبه أو نوابه من جنسيات مختلفة، يعملون على أساس التفرغ .

وينتخب المدعي العام بالاقتراع السري وبالأغلبية المطلقة لجمعية الدول الأطراف(1)، كما ينتخب نوابه بنفس الطريقة، لكن من لائحة من ثلاثة مرشحين يقترحها المدعي العام، ويتولى المدعي العام ونوابه مهامهم لمدة تسع سنوات ما لم يتقرر لهم وقت انتخابهم فترة أقصر، كما لا يجوز إعادة انتخابهم، ويمكن للمدعي العام أن يعين مستشارين من ذوي الخبرة القانونية في مجالات محددة، على أن يشترط في من يشغر منصب المدعي العام أو نوابه أن يكون من ذوي الأخلاق الرفيعة والكفاءة العالية والخبرة الواسعة، وللمدعي العام من تلقاء نفسه أو بناء على شكوى مرفوعة إليه أو إحالة أن يباشر التحقيق على أساس المعلومات المتعلقة بجرائم تدخل ضمن اختصاص المحكمة، حيث يحلل جدية المعلومات ويجوز له التماس معلومات إضافية من الدول أو منظمة الأمم المتحدة أو المنظمات غير الحكومية أو أية مصادر موثوق بها (2) .

وإذا استنتج المدعي العام أن هناك سبباً للشروع في التحقيق يقوم بطلب إذن الدائرة التمهيدية مشفوعا بالبيانات والمعلومات التي حصل عليها للبدء في إجراء التحقيق، وإذا رأت الدائرة أن هناك أسباباً تدعو للتحقيق أو أن الدعوى تقع ضمن اختصاص المحكمة تصدر إذناً للمدعي العام بالشروع فيه، دون أن يخل ذلك بما قد تقرره المحكمة فيما بعد بما يتصل بمسألة اختصاصها من عدمه.

وحتى إذا رفضت الدائرة التمهيدية إعطاء الإذن بالشروع في التحقيق لا يمنع ذلك المدعي العام بإعادة الطلب مرة ثانية مشفوعاً بمعلومات إضافية بغرض الشروع في عملية التحقيق من جديد، وفي كل الأحوال على المدعي العام القيام بإبلاغ الدول الأطراف بأية شكوى بارتكاب جرائم دولية أو أية إحالة مرفوعة إليه بهذا الخصوص، كما عليه أيضاً في حالة استنتاجه أن المعلومات المقدمة والمتعلقة بشكوى أو إحالة ما لا تشكل أساساً كافياً لإجراء التحقيق إبلاغ الجهة مقدمة الشكوى أو الإحالة، وكذلك إبلاغ الدائرة التمهيدية بذلك(1) .

لكن وإذا كان من حق المدعي العام أثناء مواصلة التحقيق أن يعدل أو يسحب أياً من التهم الموجهة إلى متهم ما مع إبلاغه قبل فترة معقولة من موعد الجلسة وكذا إبلاغ الدائرة التمهيدية- وذلك قبل اعتماد لائحة الاتهام- ، فإنه بعد اعتماد اللائحة وقبل بدء المحاكمة لا يمكن تعديل التهم الموجهة إلا بإذن من الدائرة التمهيدية، أما إذا بدأت المحاكمة فلا يمكن إجراء أي تعديل أو سحب إلا بإذن من الدائرة التمهيدية.

على أن أي تعديل يشمل إضافة جريمة أو أكثر بعد أن تكون لائحة الاتهام قد اعتمدت يتطلب من جديد عقد جلسة لآعتماد لائحة اتهام جديدة.

وفي جميع الحالات فإن المدعي العام مطالب بأن يدعم بالدلائل الكافية كل التهم وإثبات وجود أسباب جوهرية تدعو للاعتقاد بأن الشخص المتهم قد ارتكب الجريمة المنسوبة إليه.

كما وللمدعي العام الحق في الطعن في قرارات الدائرة التمهيدية وله خلال خمس سنوات الطعن في حكم براءة لإكتشاف أدلة جديدة أو اعتراف الشخص المحكوم عليه ببراءته أنه مذنب وبالتالي يطالب بإعادة النظر في الحكم.

وقبل ذلك للمدعي العام كما للمتهم أن يطلب من الدائرة الابتدائية الأصلية أو أي دائرة ابتدائية جديدة إذا لم توجد الأصلية إعادة النظر في حكم الإدانة أو العقوبة، كما له حق استئناف الحكم بعد صدوره إذا وقع غلط في الإجراءات أو غلط في الوقائع أو غلط في القانون.

ويعزل المدعي العام أو نائبه إذا ارتكب سلوكاً مشيناً أو أخل إخلالاً جسيما بواجباته..أو عندما لا يكون قادراً على ممارسة المهام المنوطة به بموجب هذا النظام الأساسي للمحكمة وذلك بالأغلبية المطلقة للدول الأطراف في حالة المدعي العام، أما النائب فيتخذ قرار العزل بتصويت الأغلبية المطلقة للدول الأطراف بناء على توصية من المدعي العام بذلك(1) .

ثالثاً : الجهاز الإداري في المحكمة الجنائية الدولية : (2)

يشمل الجهاز الإداري كلا من قلم المحكمة والموظفون الإداريون:

-قلم المحكمة: هو المسؤول عن الجوانب غير القضائية من إدارة المحكمة وتزويدها بالخدمات دون المساس بسلطات المدعي العام، ويرأس المسجل رئاسة قلم المحكمة وهو المسؤول الإداري والرئيسي لها،ويمارس مهامه تحت سلطة رئيس المحكمة(3) .

وينتخب القضاة المسجل بطريقة سرية(4)، وبالأغلبية المطلقة للقضاة آخذين في اعتبارهم أي توصية تقدم من جمعية الدول الأطراف، ويمكن بحسب الحاجة انتخاب نائب للمسجل بنفس الطريقة وبتوصية من المسجل،كما يتم عزله كذلك هو أو نائبه باتخاذ قرار العزل بالأغلبية المطلقة للقضاة.

ويشغل المسجل منصبه لمدة خمس سنوات، ويجوز انتخابه لمرة واحدة، ويعمل على أساس التفرغ، ويشترط فيه أن يكون من ذوي الأخلاق العالية والكفاءة الكبيرة في ميدان عمله، ويمارس عدة أعمال مهمة منها: استيداعه للائحة الاتهام من المدعي العام وتوجيه الإخطارات وإعداد سجل كامل بالمحاكمات والحفاظ عليها،...

وينشئ المسجل وحدة تسمى"وحدة المجني عليهم والشهود"ضمن قلم المحكمة، وتوفر هذه الوحدة مع المدعي العام تدابير الحماية والترتيبات الأمنية والمشورة والمساعدة الملائمة للشهود والمجني عليهم الذين يمثلون أمام المحكمة وغيرهم ممن قد يتعرضون للخطر أثناء إدلائهم بشهاداتهم، ويجب أن تضم هذه الوحدة موظفين ذوي الخبرة في هذا المجال ...

- الموظفون: تطرقت المادة(44)من النظام الأساسي إلى الموظفين الإداريين عندما نصت على أنه لكل من المدعي العام والمسجل تعيين الموظفين المؤهلين اللازمين لمكتبيهما،ويكفل في تعيينهم توافر أعلى معايير الكفاءة، مع مراعاة النظم القانونية والتوزيع الجغرافي العادل.

وللمسجل بموافقة هيئة الرئاسة والمدعي العام اقتراح نظام أساسي للموظفين يشمل شروط التعيين والمكافأة والتنقل على أن يوافق على هذا التنقل جمعية الدول الأطراف.

المطلب الثاني :الأحكام المتعلقة بتكوين المحكمة

تضمن النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية جملة من المبادئ والأحكام المتعلقة بتنظيم عمل المحكمة سواء كيفية إنشاء المحكمة وطبيعة المحكمة وعلاقاتها بالأمم المتحدة وبالدول وسريان نظامها الأساسي، وما إلى ذلك من الأحكام التي سنتناولها وفقاً للترتيب التالي.

أولاً : الأحكام ذات الطبيعة الإجرائية :

1 - طريقة إنشاء المحكمة :

بما أنه لا توجد سابقة دولية لإنشاء هذا النوع من القضاء الدائم،فقد ترددت أثناء الأعمال المتعلقة بإعداد مشروع النظام الأساسي للمحكمة عدة وسائل تتصل بكيفية إنشاء المحكمة، سواء في الفترة الأولى من الجهود الدولية الهادفة لإنشائها والممتدة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حتى مطلع التسعينيات، خاصة مع لجنتي جنيف ونيويورك، أو حتى بعد اتخاذ الجمعية العامة للأمم المتحدة لتوصيتها رقم47/33-في 25 نوفمبر سنة 1992 والتي طلبت من خلالها من لجنة القانون الدولي إنجاز صياغة مشروع النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية.

ويمكن إجمال مختلف المقترحات الواردة بهذا الخصوص في أربع وسائل أساسية : (1)

1-أن تنشأ المحكمة هيئة مساعدة للأمم المتحدة وذلك بناء على توصية تصدرها الجمعية العامة استنادًا إلى الفقرة الثانية من المادة السابعة وكذلك المادة الثانية والعشرين من الميثاق باعتبارها فرعاً رئيسياً للأمم المتحدة بجانب الجمعية العامة ومجلس الأمن والمجلس الاقتصادي والاجتماعي ومجلس الوصايا ومحكمــــة العـــــدل الدوليــــة (2) .

2- أن تنشأ بتعديل الميثاق خاصة المادة الثانية والتسعين المتعلقة بمحكمة العدل الدولية بحيث يشمل التعديل إنشاء دائرة جنائية تابعة لمحكمة العدل الدولية.

3-أن تنشأ المحكمة بطريقة مختلطة عن طريق توصية عن الجمعية العامة توصي فيها بقيام المحكمة، إلا أن المحكمة لا تنشأ بموجب هذه التوصية وحدها، وإنما تعقد الدول اتفاقاً يمنحها الاختصاص بنظر الجرائم الدولية.

4- أن تنشأ المحكمة عن طريق اتفاقية دولية جماعية من خلال مؤتمر ديبلوماسي يعقد تحت رعاية الأمم المتحدة،بحيث لا تقام المحكمة إلا إذا وافق على إنشائها عدد معين من الدول وصادق كذلك على نظامها الأساسي عدد معين من الدول.

وهذه الطريقة الأخيرة هي التي تبناها الفريق العامل المعني بوضع نظام أساسي للمحكمة الجنائية الدولية، حيث أوصى بأن يتم إنشاء المحكمة كجهاز قضائي مستقل عن طريق معاهدة متعددة الأطراف وملزمة للدول التي ترتضي أن تصبح أطرافاً في هذه المعاهدة.

وقد اعتبر هذا النهج القائم على الموافقة الصريحة للدول متفقاً مع مبدأ السيادة وعدم التدخل في الشئون الداخلية، علاوة على كفالة السلطة القانونية للمحكمة،بموجب نظامها الأساسي الذي سوف يرتب وينظم علاقة المحكمة مع منظمة الأمم المتحدة والدول، كما عكسته ردود وتعليقات كثير من الدول، التي اعتبرت"أن مشروعية جهاز من هذا القبيل لا يمكن أن يكفل إلا بموجب معاهدة دولية متعددة الأطراف(1)"، وأن إنشاء المحكمة المقترحة لا يتسنى إلا بموافقة صريحة من الدول تتجسد في معاهدة دولية، ويكون دائماً محدوداً بالقدر الذي تريد الدول أن تلتزم به(1) "

وبناء عليه كان الحل الأنجع أن تنشأ المحكمة عن طريق اتفاقية دولية جماعية من خلال مؤتمر ديبلوماسي يعقد تحت رعاية الأمم المتحدة، وهو ما تم بالفعل في روما عندما اعتمد النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية بواسطة اتفاقية دولية رعتها الأمم المتحدة.

وهي معاهدة دولية ملزمة للدول التي ستصبح أطرافاً فيها إما بالتوقيع أو التصديق أو القبول أو الموافقة أو الانضمام إلى هذه المعاهدة وبالشروط والكيفية التي حددتها المادة المائة والخامسة والعشرون من النظام الأساسي للمحكمة،بحيث يخضع النظام الأساسي للتصديق أو القبول أو الموافقة من جانب جميع الدول الموقعة عليه،وتودع صكوك التصديق أو القبول أو الموافقة لدى الأمين العام للأمم المتحدة، أما باب الانضمام إلى هذا النظام فهو مفتوح أمام جميع الدول، وتودع الصكوك المتعلقة بذلك أيضاً لدى الأمين العام للأمم المتحدة.

2- علاقة المحكمة بمنظمة الأمم المتحدة.

من بين أكثر المسائل التي نوقشت في إطار هذه المبادئ والأحكام طوال مراحل إعداد النظام الأساسي للمحكمة مسألة العلاقة بين المحكمة الجنائية الدولية ومنظمة الأمم المتحدة. (2)

ففي التقارير الأولية خاصة التقرير الحادي عشر المقدم من المقرر الخاص اعتبر هذا الأخير في تقريره المتضمن لمشروع نظام أساسي لمحكمة جنائية دولية أنه من الضروري أن"تنشأ المحكمة باعتبارها هيئة قضائية تابعة للأمم المتحدة"معللاً ذلك بالقول أنه يجب التوكيد على المنفعة الكبرى من جعل المحكمة هيئة تابعة للأمم المتحدة، معتبرا أن وجود محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية كهيئة من هيئات الأمم المتحدة أمر لا يتعارض مع ميثاق الأمم المتحدة،كما أن المادة الأولى من النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية تنص على أن هذه المحكمة هي الأداة القضائية الرئيسية للأمم المتحدة، مما يترك المجال مفتوحا أمام هيئة قضائية أخرى تكون لها الولاية في الشؤون الجنائية (1) .

ويبدو أن هذا ما أكده قرار مجلس الأمن الدولي رقم 808 في 22 فبراير 1993 الذي أنشأ بموجبه المجلس محكمة جنائية دولية لمحاكمة مقترفي جرائم الحرب في يوغوسلافيا السابقة .

على أنه داخل الفريق العامل المعنى بإنشاء محكمة جنائية دولية دار نقاش كبير بشأن الشكل الذي ينبغي أن تكون عليه طبيعة هذه العلاقة .

ففي حين فضل البعض الرأي السابق بهدف ضمانة الصفة العالمية للمحكمة وتعزيز سلطاتها الأدبية، وبالتالي فمن الأفضل أن تنشأ المحكمة كجهاز من أجهزة الأمم المتحدة، عبر تعديل الميثاق باللجوء إلى المادة 109 منه خاصة وأن النقاشات تدور حالياً حول ضرورة إعادة تشكيل مجلس الأمن الدولي(1)، ذهب آخرون إلى إبراز الصعوبات التي تكتنف هذا الخيار، ودعوا بالمقابل إلى قيام نوع من العلاقة مع المنظمة مثل إبرام معاهدة للتعاون على غرار المعاهدات المبرمة بينها وبين وكالاتها المتخصصة،أو حتى معاهدة مستقلة تنص على تولي الجمعية العامة انتخاب القضاة، كما رؤى كذلك أن وجود رابطة رسمية على الأقل بين المحكمة ومنظمة الأمم المتحدة سينطوي على ميزة ليس فقط من حيث السلطة والدوام الذي ستحرزهما المحكمة بذلك، بل لأن جزء من اختصاصها قد يتوقف على قرارات من مجلس الأمن الدولي(2) .

هذه الفكرة الأخيرة كانت مدعومة في الواقع بردود وتعليق كثير من الحكومات التي وردت على تقرير الفريق العامل المعني بوضع نظام أساسي لمحكمة جنائية دولية بعد إنجازها لهذا المشروع(3)، والتي ذهبت إلى ضرورة قيام علاقة وطيدة بين منظمة الأمم المتحدة والمحكمة الجنائية الدولية وأن تؤدي الأمم المتحدة دوراً مهماً في إنشاء المحكمة وفي سلطتها الفعلية، وفي نفس الوقت لا ينبغي مطلقاً أن يتم تنظيم المحكمة في إطارها،بل يجب أن تتوفر نقاط مهمة للاتصال بين المحكمة والمنظمة لتصبح مرتبطة بها ارتباطاً وثيقاً دون أن تشكل جزء منها.

هذا التأكيد على أن الأمم المتحدة يجب أن تؤدي دوراً مهماً في إنشاء المحكمة وفي أنشطتها الفعلية، دون أن يتم تنظيمها في إطار المنظمة الأممية يأتي في الواقع بالاستناد إلى جملة من الأسباب، فعلاوة على الأسباب الشكلية المتعلقة بأن إنشاء المحكمة في إطار منظمة الأمم المتحدة يتطلب تعديل ميثاق المنظمة الأمر الذي قد يؤخر الإسراع في إنشاء المحكمة فإن هذه الأخيرة متصلة أصلا بالمنظمة بعدة نقاط اتصال من أهمها السلطة المخولة لمجلس الأمن بموجب النظام الأساسي للمحكمة(1) .

وبالتالي كان من الأنسب قيام رابطة واضحة عبر اتفاق لتسهيل التعاون بينهما،بما أن جانباً من اختصاص المحكمة قد يتوقف على قرارات مجلس الأمن الدولي، وهذا الاتفاق سيكون تيمناً بالاتفاقات المبرمة بين الأمم المتحدة ووكالاتها المتخصصة عملاً بالمادتين 57/63 من ميثاق الأمم المتحدة(2) .

و ترتيباً على مجمل الرؤى السابقة فقد تم التوصل عند اعتماد النظام الأساسي للمحكمة إلى تحديد العلاقة بين المحكمة الجنائية الدولية ومنظمة الأمم المتحدة،بحيث تنشأ المحكمة كجهاز قضائي مستقل عن طريق معاهدة متعددة الأطراف،باعتبار أن هذا النهج يتفق مع مبدأ سيادة الدول،ويكفل السلطة القانونية للمحكمة في ضوء الصعوبات التي سينطوي عليها إنشاء المحكمة كجهاز من أجهزة الأمم المتحدة،شريطة أن ترتبط المحكمة بالمنظمة برابطة قانونية عبر اتفاقية تحدد طبيعة هذه العلاقة.

وبالفعل ففي ديباجة النظام الأساسي للمحكمة تم التأكيد على "إنشاء محكمة جنائية دولية دائمة مستقلة وذات علاقة بمنظمة الأمم المتحدة " ، كما تضمنت المادة الثانية من النظام الأساسي الإشارة إلى "ضرورة أن يتم تنظيم العلاقة بين المحكمة والمنظمة الأممية،بموجب اتفاق تعتمده جمعية الدول الأطراف في هذا النظام الأساسي ويبرمه بعد ذلك رئيس المحكمة نيابة عنها"

إن تنظيم العلاقة على هذا النحو في الواقع طريقة مناسبة لإقامة الصلة المطلوبة للتعاون الوظيفي بين الهيئتين مع المحافظة في نفس الوقت على استقلال المحكمة.

فالمحكمة هي الهيئة القضائية الجنائية الدولية،على أن معظم القضايا التي ستثار أمام المحكمة هي بالأساس تدخل ضمن نطاق مهام الأمم المتحدة وأهم الأهداف التي قامت لأجلها (حفظ السلم والأمن)، كما أن معظم وأهم النقاشات التي تمت حول فكرة المحكمة الجنائية الدولية تمت في إطارها وتحت رعايتها وبالأخص مؤتمر روما الذي اعتمد فيه النظام الأساسي للمحكمة.

وفوق ذلك فالنظام الأساسي مراعاة لكل هذا التداخل والتكامل الوظيفي - علاوة على أن جزءا ًمن اختصاص المحكمة سيتوقف على قرار يتخذ من مجلس الأمن - ، أعطى للأمين العام للأمم المتحدة عدة وسائل للعمل بجانب المحكمة كمسائل: تلقي قبول الدول للنظام الأساسي، واستيداعه، للتصديقات عليه وانضمامها إليه، وما يتعلق بإجراء أي تعديلات تدخل عليه واستعراض النظام الأساسي، وحتى الانسحاب من هذا النظــــــــام (1) .

3- سريان أحكام النظام الأساسي :

تضمنت المشروعات المقدمة للنظام الأساسي عدة اقتراحات حول بداية سريان النظام الأساسي للمحكمة ودخوله حيز النفاذ. ففي تقرير الفريق العامل عن أعماله في الدورة الخمسين مثلاً تمت مناقشة عدة رؤى حول هذه النقطة، ففي حين ذهب البعض إلى ضرورة توافر عدد كبير نسبياً من التصديقات أو الانضمامات - (60تصديقا) - اللازمة لبدء سريان هذا النظام وذلك بهدف كفالة القبول العام للنظام الأساسي، أعرب آخرون عن القلق إزاء التأخير الذي قد يترتب على اعتماد مثل هذا النهج، وبالتالي تم اقتراح ألا يشترط سوى توافر 20-25 تصديقاً لضمان دخول النظام الأساسي حيز التنفيذ،كما جرى في نفس الوقت التشديد على الحاجة إلى تعزيز المقبولية العامة للنظام الأساسي للمحكمة عبر جعله معبراً على النحو الواجب عن مختلف النظم القانونية في العالم (2) .

ولعل تلك الحاجة إلى تعزيز المقبولية العامة لهذا النظام بجعله معبرا عن مختلف النظم القانونية، هو الدافع إلى أن يتضمن آخر المشروعات المقدمة قبل اعتماد النظام الأساسي خياراً بموجبه لا يبدأ سريان هذا النظام إلا بعد أن يكون عضوا أو عضوين أو أربعة أعضاء من كل مجموعة جغرافية قد وضعوا وثيقة التصديق أو الموافقة أو الانضمام إلى هذا النظام،وذلك في اليوم الستين من تاريخ إيداع وثيقة التصديق أو الموافقة أو الانضمام (1) .

بيد أن التخوف من الصعوبات التي قد يخلقها التقيد بضرورة اشتراط الحصول على تصديقات من عضو إلى أربعة أعضاء من كل مجموعة جغرافية لدخول النظام الأساسي حيز التنفيذ، والذي من شأنه تأخير إنجاز هذه المهمة، قد جعل من تلك الاشتراطات غير عملية ولا تنسجم بالتالي مع المناخ السياسي والفكري الداعم لفكرة استعجال إنشاء المحكمة .

وأخذاً في الحسبان لمختلف الاعتبارات السابقة ، ورغبة في تعزيز المقبولية العامة بالنظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية،وتجنباً للصعوبات التي يمكن أن يثيرها اشتراط توافر مجموعة من التصديقات عن كل مجموعة جغرافية، جاءت المادة 126 من النظام المعتمد في روما مراعية لكل تلك الاعتبارات عندما أكدت على أن " بدء نفاذ هذا النظام لا يكون إلا عقب تصديق أو موافقة أو انضمام 60 دولة، شريطة أن يكون في أول يوم من الشهر الذي يعقب اليوم الستين من تاريخ إيداع صك التصديق أو الموافقة أو الانضمام لدى الأمين العام للأمم المتحدة.

وفي نقطة أخرى تتعلق أيضاً بسريان النظام الأساسي قررت المادة 123 أنه عقب انقضاء سبع سنوات على بدء نفاذ هذا النظام، يعقد الأمين العام للأمم المتحدة مؤتمراً استعراضياً للدول الأطراف للنظر في أي تعديلات عليه،ويجوز أن يشمل هذا الاستعراض قائمة الجرائم محل اختصاص المحكمة دون أن يقتصر عليها(1)، كما يكون للأمين العام في أي وقت تال عقد مؤتمر استعراضي بموافقة أغلب الدول الأطراف بناء على طلب أي دولة طرف ولنفس الأغراض السابقة .

والأصل أن تتم التعديلات على النظام الأساسي بتوافق الآراء داخل جمعية الدول الأطراف،كما يلزم توافر 2/3 من الدول الأطراف لاعتماد أي تعديل يتعذر بصدده التوصل إلى توافق داخل جمعية الدول الأطراف في المؤتمر الاستعراضي.

ويبدأ نفاد هذا التعديل بالنسبة لجميع الدول بعد سنة واحدة من إيداع صكوك التصديق أو القبول لدى الأمين العام من قبل 7/8 من أعضاء جمعية الدول الأطراف،أما الدول التي لا تقبل التعديل يكون على المحكمة أن لا تمارس اختصاصاتها فيما يتعلق بأي جريمة مشمولة بالتعديل،عندما ترتكب هذه الجريمة من قبل أحد مواطنيها أو في إقليمها.

وإذا قبلت 7/8 من جمعية الدول الأطراف التعديل جاز لأي دولة طرف لم تقبل التعديل أن تنسحب من النظام الأساسي انسحاباً نافذاً في الحال،بشرط أن لا يعفيها انسحابها من أي التزامات تكون قد نشأت إزاءها بموجب هذا النظام أثناء كونها طرفاً فيه وبشرط أن تكون قد قدمت إشعاراً في موعد لا يتجاوز سنة واحدة من بدء نفاذ التعديل...

 

4-مقر المحكمة :

الغرض من تحديد مقر المحكمة هو توفير مكان ذي ظروف مناسبة لإجراء محاكمة عادلة للأشخاص المتهمين بجريمة أو أكثر من الجرائم التي تدخل تحت اختصاص المحكمة في ظروف قد لا تكون الإجراءات الأخرى للمحكمة متاحة فيها أو قد تكون فيما عدا ذلك أقل تفضيلا.

ويفضل الفقه الدولي جعل مقر المحكمة الجنائية الدولية في مدينة لاهاي بهولاندا ، على أساس أنها تحتضن مقر محكمة العدل الدولية، ويمكن الاستعانة بالجهاز الإداري المعاون لقضاتها في عمل المحكمة الجنائية وتخفيف المصاريف (1) كذلك.

وبما أن المحكمة الجنائية الدولية هي محكمة دائمة، وبما أن تعيين مقر المحكمة يعد بصورة أساسية مسألة سياسية فكان من الأفضل أن يكون مقر الهيئة القضائية الدولية في مكان تتوفر فيه افضل الضمانات لاستقلال الحكم وحريته.

ومن ضمن عدة مقترحات لتعيين مقر المحكمة(2)، تم اختيار مدينة لاهاي بهولندا لتكون مقراً للمحكمة الجنائية الدولية عندما نصت المادة الثالثة من النظام الأساسي على أن يكون مقر المحكمة في لاهاي بهولندا الدولة المضيفة، بحيث تعقد الدولة المضيفة اتفاق مقر تعتمده جمعية الدول الأطراف ويبرمه بعد ذلك رئيس المحكمة نيابة عنها.

على أنه يمكن للمحكمة حسب الفقرة الثالثة من نفس المادة أن تعقد جلساتها في مكان أخر عندما ترى ذلك مناسباً وعلى النحو المنصوص عليه في هذا النظام الأساسي.

 

 

5- اللغات الرسمية للمحكمة ولغات العمل :

فرقت المادة 50 من النظام الأساسي بين اللغات الرسمية للمحكمة ولغات العمل بداخلها.فبالنسبة للغات الرسمية حددت نفس اللغات الرسمية المعترف بها في ميثاق الأمم المتحدة (الإسبانية والإنجليزية والفرنسية والصينية والعربية والروسية) بحيث تتساوى في الحجية وحرر النظام الأساسي للمحكمة بهده اللغات، كما تنشر بها الأحكام الصادرة عن المحكمة وكذلك كل القرارات الأخرى المتعلقة بحسم مسألة أساسية معروضة عليها.

أما لغات العمل بالمحكمة فهي الإنجليزية والفرنسية، على أنه يجوز في بعض الحالات استخدام لغات رسمية أخرى كلغات عمل، كما أنه في حالات أخرى وهي حالة طلب أي طرف في الدعوى أو دولة يسمح لها بالتدخل في الدعوى إذن من المحكمة بالسماح باستخدام لغة غير الإنجليزية والفرنسية، شريطة أن ترى المحكمة مبرر لهذا الإذن.

ثانياً : الأحكام ذات الطبيعة المؤسسية :

1- طبيعة المحكمة :

كان الهاجس الكبير عند اعتماد مشروع النظام الأساسي لهذه المحكمة منصباً حول أن وجود محكمة تتحقق فيها صفة الديمومة والاستمرار كفيل بجعلها تتصرف بصورة أكثر تماسكاً والتحاماً بالأحداث تجنبا لأية إمكانية للحديث عن عدالة انتقائية محتملة، فباستحضار الانتقادات الموجهة إلى محاكمة نور مبرج وطوكيو باعتبارهما تحقيق لعدالة المنتصرين، وبحكم أن حركة المحاكم الخاصة قد تحدد ضمن حدود معينة لا يمكن تجاوزها، علاوة على التكاليف الباهضة التي تصاحب إقامة محاكم خاصة يمكن أن تضعف الإرادة السياسية بإقامة مثل هذه المحكمة، فقد روعي ضرورة تشييد محكمة جنائية دائمة،بحيث لا يكون إنشاؤها مؤقتاً أو لتحقيق غاية معينة.

على أن هذه الفكرة لم تكن واضحة تماماً عند البدء في مناقشة مشروع النظام الأساسي للمحكمة وحتى التقرير المنقح للفريق العامل المعني بوضع مشروع نظام أساسي لمحكمة جنائية دولية سنة1994، في الدورة السادسة والأربعين للجنة والمتضمن لمشروع النظام الأساسي، تمت الإشارة إلى أنه ينبغي أن"تكون المؤسسة مفتوحة للدول الأطراف في النظام الأساسي...وأن تعقد جلساتها عند الاقتضاء للنظر في قضية تعرض عليها (1) " .

ذلك أن كثير من التقارير السابقة وكذلك مختلف ردود وتعليقات الدول حول تلك المشاريع، كانت تذهب إلى ضرورة أن لا تكون المحكمة المنشأة في مرحلة عملها الأولى على الأقل هيئة دائمة متفرغة،بل ينبغي أن تعمل فقط عند الطلب وفقاً لآلية قانونية محددة حيث ستشكل في كل مناسبة يلزم فيها انعقادها،وكان تبرير ذلك في حجم العمل المحدود للمحكمة الذي قد تواجهه في سنوات عملها الأولى على الأقل والتكاليف التي قد تتكبدها الدول نتيجة لإنشاء محكمة جنائيًة متفرغة تضم مجموعة كاملة من القضاة المتفرغين وهيكلاً إداريا ًكاملا....، هذا علاوة على أن كون المحكمة أصلاًً مكملة للولايات القضائية الوطنية الأمر الذي سيجعل حجم العمل فيها أكثر محدودية. ومن ناحية ثانية لا يمكن التنبؤ بما سوف يكون عليه نشاط المحكمة، كما أن اشتراط ديمومتها قد يحرمها من المرونة اللازمة علاوة على مضاعفة التكاليف (1) . وعليه فقد اعتبر أن كون المحكمة مؤسسة دائمة لكنها لا تنعقد إلا عند الاقتضاء مسألة تعكس مزايا المرونة وتقليل التكاليف، حيث يتأكد من ناحية الطابع الدائم للولاية القضائية للمحكمة، ومن ناحية ثانية عمل المحكمة غير الدائم،باعتبار أن عمل المحكمة لا يتعارض مع العمل المتقطع لأجهزتها، وأن انعقاد المحكمة عند الاقتضاء للنظر في قضية معينة تعرض عليها لا يتنافى مع الاستقلال والاستقرار اللازمين للمحكمة (2) .

ومع ذلك فقد رأى البعض أن"القاعدة التي تقضي بأنه لا تنعقد المحكمة إلا عند الاقتضاء يتنافى مع ضرورة دوام محكمة جنائية دولية حقيقية وضرورة استقرارها واستقلالها (1) " .

كما أن جعل أجهزة المحكمة غير متفرغة سينتج عنه إثارة عدد من التساؤلات تتعلق باتساق أو عدم اتساق وظائف القاضي مع أي وظائف أخرى علاوة على كون ديمومة المحكمة واستمرارها سيسهل عملية التئامها عند الضرورة، فالحاجة إلى إنشاء هيئة قضائية دائمة قادرة على تحقيق التناسق و الاتساق في تطبيق القانون الدولي الجنائي وزيادة تطوره،بوصفها بديلاً عن المحاكم التي قد تنشأ لغرض معين،يتطلب أن تتوفر في بنية هذه الهيئة التفرغ التام وديمومة في العمل والإنجاز، ومن هنا فقد رؤي أن دوام المحكمة واستقلالها سيتعززان إذا جرى تعيين قضاة المحكمة والمدعي العام والمسجل على أساس التفرغ (2)، وهذه الفكرة الأخيرة كانت هي النهج الذي تم الموافقة عليه عند اعتماد النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، حيث تأكدت الطبيعة الدائمة للمحكمة منذ الديباجة بوصفها"محكمة جنائية دولية دائمة ومستقلة"، تمارس اختصاصها على الأشخاص الطبيعيين إزاء"الجرائم الأشد خطورة التي تثير قلق المجتمع الدولي بأسره"وأن المحكمة المنشأة ستكون مكملة للولايات القضائية الوطنية.

2- ميزانية المحكمة :

بما أن عدم توفر الموارد المالية قد يحول دون التماس تحقيق العدالة، وحتى لا يؤدي عدم الاستقلال المالي إلى عرقلة عمل المحكمة (1)، فقد تمت مناقشة عدة أفكار حول الكيفية التي سيتم بها تمويل المحكمة، ويمكن إجمال مختلف الاتجاهات السائدة طوال مراحل إعداد النظام الأساسي في ثلاثة اتجاهات :(2)

- الاتجاه الأول : يذهب أصحاب هذا الاتجاه إلى ضرورة تمويل تكاليف المحكمة من الميزانية العامة للأمم المتحدة، وهذا الرأي في الواقع كان منسجماً مع الاقتراح الذي كان يقضي بأن تكون المحكمة مؤسسة في إطار منظمة الأمم المتحدة للاستفادة من طابعها العالمي.

وعليه ولإتصال عمل المحكمة كذلك بمسائل تتعلق بالسلم والأمن الدوليين، كان من الضروري أن تتمكن جميع الدول من تحريك الإجراءات أمام المحكمة دون أن تتحمل أعباء مالية، وهو هدف لا يمكن تحقيقه إذا لم تساهم في تمويل المؤسسة سوى الدول الأطراف في نظامها الأساسي.

- الاتجاه الثاني: يذهب أصحاب هذا الاتجاه إلى ضرورة أن تتحمل تكاليف المحكمة الدول الأطراف في النظام الأساسي ويؤسسون وجهة نظرهم،على الأهمية التي ستعطى للمحكمة انطلاقاً من الأعمال الجليلة التي ستقوم بها، وهذا الاهتمام الكبير بالمحكمة من جانب الدول ستنجم عنه مشاركة كبيرة من قبلها في النظام الأساسي، وعليه سيكون هناك عدد كبير من الأطراف المساهمين في ميزانية المحكمة.

- الاتجاه الثالث: ويربط أصحاب هذا الرأي بين طبيعة الدور الذي ستلعبه المحكمة وتكاليفها بحيث يرى أن مناقشة مسألة الميزانية بالتفصيل أمر غير ممكن إلى حين اتضاح طبيعة المحكمة ودرجة ما تلقاه من تقبل عام وكيفية علاقتها بالأمم المتحدة.

هذه الفكرة الأخيرة في الواقع كانت أقرب إلى الموضوعية،فالسلطات والاختصاصات التي ستعطى للمحكمة وطبيعة المحكمة المنشأة وكيفية علاقتها بالأمم المتحدة،وحجم العمل والإطار القضائي والوظيفي.. كلها أمور سيكون لها أكبر الأثر على حجم الميزانية..

ومن هنا وبعد أن تم الاتفاق على طبيعة المحكمة واختصاصاتها، - عند اعتماد نظامها الأساسي- فقد تضمن هذا الأخير بخصوص الميزانية نظاماً يقوم على أن نفقات المحكمة ستغطى من الاشتراكات المقررة للدول الأطراف، وكذا من الأموال المقدمة من الأمم المتحدة رهناً بموافقة الجمعية العامة وخاصة فيما يتعلق بالنفقات المترتبة نتيجة للإحالات من قبل مجلس الأمن الدولي(1) .

وبجانب ذلك يجوز للمحكمة أن تتلقى وتستخدم التبرعات المقدمة من الحكومات والمنظمات الدولية والأفراد والشركات وأي كيانات أخرى كأموال إضافية، وذلك وفقاً للمعايير ذات الصلة التي تعتمدها جمعية الدول الأطراف وفقا للنظام الأساسي وللنظام المالي والقواعد المالية التي تعتمدها جمعية الدول الأطراف، التي تدفع جميع مصاريفها كذلك من أموال المحكمة.

أما الاشتراكات فإنها تقرر وفقا لجدول متفق عليه للأنصبة المقررة مستندا إلى الجدول الذي تعتمده الأمم المتحدة لميزانيتها العامة، وتعدل وفقا للمبادئ التي تستند عليها،كما تراجع حساباتها من قبل مراجع حسابات مستقل.

وأخيرا وفيما يتعلق بالتكاليف المرتبطة"بطلبات النقل"،فإذا كان الطلب موجهاً من قبل المحكمة إلى دولة، فلا تتحمل هذه الدولة سوى التكاليف العادية لتنفيذ الطلب في إقليمها،أما التكاليف المرتبطة بسفر الشهود والخبراء أو نقل الأشخاص قيد التحفظ وتكاليف الترجمة وسفر القضاة وموظفي المحكمة وأية تكاليف استثنائية تترتب على تنفيذ الطلب، تتحملها المحكمة من ميزانيتها الخاصة، أما إذا كان الطلب موجها من الدولة إلى المحكمة، فلا تتحمل المحكمة سوى التكاليف العادية لتنفيذ الطلب، بينما تتحمل ذات الدولة كل التكاليف الأخرى . (1)

 

 

3- جمعية الدول الأطراف :

وهي الهيئة المسؤولة عن المهام التي تتوقف بالضرورة على قرارات الدول الأطراف، مثل اختيار القضاة واختيار المدعي العام وتحديد الميزانية، وتكون بمثابة قناة اتصال بين المحكمة والدول الأعضاء في شأن المسائل ذات الطابع السياسي.

ولجمعية الدول الأطراف دوراً مركزياً في كل أمور المحكمة، فهي التي توفر الرقابة الإدارية على هيئة الرئاسة والمدعي العام والمسجل فيما يتعلق بإدارة المحكمة، ولها كذلك النظر في ميزانية المحكمة والبث فيها، وتقرير ما إذا كان ينبغي تعديل عدد القضاة والنظر في أي مسألة تتعلق بعدم قيام الدول الأطراف بالتعاون مع المحكمة وتقديم المساعدة اللازمة، والنظر في التعديلات المقترحة واعتماد التعديلات على الأحكام ذات الطابع المؤسسي واستعراض النظام الأساسي، وغير ذلك من المهام المتعلقة بتنحية أو عزل القضاة والمدعي العام، وكذلك الأمور التي تتوقف بالضرورة على قرارات الدول الأطراف ، وكقناة اتصال بين المحكمة والدول بشأن المسائل ذات الطابع السياسي وغيره (1) . ويكون لكل دولة طرف في النظام الأساسي عضو واحد فيها يجوز أن يرافقه مندوبون ومستشارون، ويكون لهذه الجمعية مكتب، يتألف من رئيس ونائبين للرئيس و18 عضوا تنتخبهم الجمعية لمدة ثلاث سنوات، ولهذا المكتب صفة تنفيذية، ويراعى عند تشكيله بصفة خاصة التوزيع الجغرافي العادل والتمثيل المناسب للنظم القانونية الرئيسية في العالم، ويجتمع المكتب كلما كان ضروريا، على أن لا يقل عدد اجتماعات المكتب عن مرة واحدة في السنة، ويعمل المكتب على مساعدة الجمعية في الاضطلاع بمسئوليتها، ويجوز لرئيس المحكمة والمدعي العام والمسجل أو لممثليهم المشاركة حسب المناسبة في اجتماعات الجمعية والمكتب.

وتعقد اجتماعات الجمعية في مقر المحكمة أو في مقر الأمم المتحدة مرة واحدة في السنة أو بحسب الظروف الاستثنائية بمبادرة من المكتب أومن ثلث الدول الأطراف.

ولأهمية وحيوية الدور الذي تلعبه جمعية الدول الأطراف في تنظيم وسير عمل المحكمة نص النظام الأساسي على ضرورة التوصل عند اتخاذ القرارات الأساسية إلى توافق الآراء، أما إذا تعذر اتخاذ أي قرار بتوافق الآراء داخل الجمعية وجب اتخاذ القرارات المتعلقة بالمسائل الموضوعية، بأغلبية ثلثي الأعضاء الحاضرين المصوتين، أما في حالة المسائل الإجرائية فيتم اتخاذ القرارات بالأغلبية البسيطة للدول الأطراف الحاضرة والمصوتة.

على أنه لا يجوز لدولة طرف متأخرة عن سداد اشتراكاتها المالية في تكاليف المحكمة حق التصويت في الجمعية أو في المكتب، شريطة أن تكون المتأخرات مساوية لقيمة الاشتراكات المستحقة في السنتين السابقتين، أو زيادة عنها، ومع ذلك للجمعية النظر في ما إذا كان التأخير ناتج عن أسباب لا قبل لهذه الدولة الطرف بها وعندها يمكن أن تسمح لهذه الدولة بالتصويت.

وأخيرا تضطلع جمعية الدول الأطراف بدور مهم في عملية تفسير النظام الأساسي للمحكمة، ذلك أنه في حالة حدوث أي نزاع بين دولتين أو أكثر من الدول الأطراف حول تفسير أو تطبيق هذا النظام يحال الخلاف إلى الجمعية، ويجوز للجمعية أن تعمل على تسوية النزاع بنفسها أو أن تتخذ توصيات بشأن أية وسائل أخرى لتسوية النزاع بما في ذلك إحالته إلى محكمة العدل الدولية وفقا لنظامها الأساسي(1) .

4-حصانات وامتيازات القضاة والمدعي العام والمسجل :

أشارت المادة 48 من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية إلى جملة من الامتيازات والحصانات التي ينبغي أن يتمتع بها قضاة المحكمة، وهذه الامتيازات من صنف الامتيازات التي تمنح لرؤساء الهيئات الدبلوماسية بموجب القانون الدولي العام. إلا أنه نظر لأهمية ما يقومون به فإنهم يظلون يتمتعون بكل الامتيازات حتى بعد نهاية فترة عملهم، ودلك فيما يتعلق بما كان قد صدر منهم من أقوال أو كتابات بصفتهم الرسمية، ليظلوا بعيدين عن أي ضغوطات أو تأثيرات. وبجانب هده الحصانات والامتيازات الممنوحة للقضاة وبغية إبعادهم كذلك عن أي ضغوطات قد تؤثر على عملهم عالجت المادة 40 مسألة استقلال القضاة والمدعي العام، فاعتبرت أنهم مستقلين في تأدية وظائفهم ولا يزاولون أي نشاط يحتمل أنه يتعارض مع وظائفهم أو يؤثر على استقلالهم، كما لا يزاولون أي عمل ذا طابع مهني.

وبالمقابل فقد تضمن النظام الأساسي الإشارة إلى مجموعة التزامات على القضاة كما فرض جملة من العقوبات تتراوح بين الإجراءات التأديبية العادية في حالة ارتكابهم مخالفة لا تشكل سلوكاً جسيماً، انتهاء باتخاذ قرارا بعزل القاضي أو المدعي العام أو المسجل إذا أتى سلوكاً جسيماً أو أثبت عدم قدرته على أداء مهامه المطلوبة بموجب هدا النظام الأساسي(2) .

المبحث الثاني : اختصاصات المحكمة الجنائية الدولية طبقاً لنظامها الأساسي

كان التحديد الملائم لاختصاصات المحكمة الجنائية الدولية من أهم الأمور الأساسية بالنسبة لمستقبل المحكمة، ولذلك لا غرابة في أن يشكل الباب المتعلق بالاختصاص والمقبولية جوهر نظامها الأساسي لكونه لب عمل المحكمة، ولاتصاله المباشر بمسألة الاختصاص الجنائي الداخلي للدول.

وإذا كان تخلي الدول عن اختصاصها الجنائي المرتبط أوثق الارتباط بمبدأ السيادة من أهم الأمور التي عرقلت إنشاء المحكمة لوقت طويل، فإن التوصل إلى تحديد الجرائم الدولية التي تبلغ من الخطورة إلى الحد الذي ترتضي الدول أن تدمج ضمن اختصاصات المحكمة الجنائية الدولية كان من أهم الخطوات التي ستعجل باعتماد النظام الأساسي وإنشاء المحكمة.

لقد ظلت النقاشات مستمرة للإجابة عن التساؤل حول الكيفية التي سيتم بموجبها إسناد الاختصاص إلى المحكمة عن هذه الجرائم، طالما تعثر التوصل إلى اتفاق حول مدونة الجرائم المخلة بأمن وسلامة البشرية؟ وبالتالي ما هي الجرائم التي تبلغ من الخطورة درجة توجب إدراجها ضمن اختصاصات المحكمة؟ .

كما كان الحرص واضحاً عند اعتماد النظام الأساسي للمحكمة أن لا يدخل في نطاق اختصاصها إلا أشد الجرائم خطورة... وذلك تحقيق لغايتين اثنتين : (1)

- أن لا يتسع اختصاص المحكمة على نحو لا يتفق ولا يتمشى مع الإمكانات المتاحة لها في بداية عملها.

- أن يتحقق مبدأ التكامل بين اختصاص المحكمة واختصاص القضاء الوطني.

المطلب الأول :كيفية إسناد الاختصاص إلى المحكمة في الجرائم الدولية

فكرة المحكمة الجنائية الدولية انبثقت أساسا كمحفل لمقاضاة جرائم الحرب والإبادة التي ترعاها الدول والتي تبقى مع ذلك دون عقاب لولا قيام المحكمة، هذه الملاحظة كانت حاضرة طوال مراحل إنجاز الفريق العامل المعني بوضع مشروع للنظام الأساسي لمحكمة جنائية دولية لهذا المشروع.

بيد أن مختلف التقارير والمشاريع المقدمة كانت توسع من نطاق ذلك الاختصاص ليشمل جميع الجرائم ذات الطابع الدولي(1) ، بحيث سلكت النهج الذي بموجبه يتم إسناد اختصاص المحكمة من حيث الموضوع إلى معاهدات دولية قائمة ومحددة منشئة لجرائم دولية الطابع..، بما في ذلك مدونة الجرائم المخلة بسلم وأمن الإنسانية بعد اعتمادها ودخولها حيز التنفيذ، وذلك عبر اختيار الجرائم ذات الطبيعة الدولية التي تنشئها هذه المعاهدات ويمكن للمحكمة ممارسة ولايتها عليها وإدماجها بالتالي في النظام الأساسي للمحكمة . (1)

أولاً : إسناد الاختصاص إلى المحكمة بموجب معاهدات قائمة :

بناء على أساس إسناد الاختصاص للمحكمة من حيث الموضوع إلى اتفاقيات دولية قائمة ومنشئة لجرائم ذات طابع دولي كان المشروع المقترح والمقدم من قبل لجنة القانون الدولي في الدورة السادسة والأربعين والذي أعدته اللجنة بناء على توصية الجمعية العامة رقم 47/36/1992 متضمناً وجود إطارين من الاختصاص يرتكزان بالأساس على إسناد اختصاص المحكمة من حيث الموضوع إلى معاهدات دولية وذلك على النحو التالي:

1-إسناد الاختصاص إلى المحكمة بموجب معاهدات تعرف الجنايات باعتبارها جرائم دولية :

ويشمل المعاهدات الدولية التي تعرف الجنايات باعتبارها جنايات دولية،بموجب القانون الدولي العام وهذه الجنايات تدخل ضمن اختصاص المحكمة دون الحاجة للتوصل إلى اتفاق بشأن القائمة الدقيقة لمعاهدات القانون الدولي الجنائي، وتشمل تلك المعاهدات جرائم الحرب الجسيمة..، واتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والاتفاقية الدولية لقمع جريمة الفصل العنصري..

وما إلى ذلك من الجرائم التي تضمنتها المادة الثانية والعشرون من المشروع المقترح(1) .

وقد اعتبر الفريق العامل أن المعيارين الأساسيين الذين أديا إلى اعتبار الجنايات التي أوردتها المادة الثانية والعشرون من المشروع المعد جنايات دولية بموجب القانون الدولي هما: (1)

أولا: كون الجنايات المتضمنة في المادة المذكورة معرفة تعريفاً دقيقاً بحد ذاتها في المعاهدات على نحو يمكن به لمحكمة جنائية دولية أن تطبق قانوناً دولياً اتفاقياً أساسياً فيما يتعلق بالجناية المتناولة في المعاهدة.

ثانيا: كون المعاهدة نفسها قد أوجدت فيما يتعلق بالجناية المعرفة فيها، إما نظاماً للاختصاص العالمي يقوم على مبدأ تسليم المتهم أو محاكمته وطنياً، أو إمكانية لأن تحاكمه محكمة جنائية دولية أوكلا الأمرين معاً.

2- إسناد الاختصاص بموجب معاهدات لا تنص إلا على قمع أوجه سلوك غير مرغوب فيه :

ويشمل المعاهدات التي لا تنص إلا على قمع أوجه سلوك غير مرغوب فيه، وتعتبر جناية بموجب القانون الوطني، وهذه الجرائم المتضمنة في هذه المعاهدات لا تدخل مباشرة ضمن اختصاص المحكمة، ولكي تصبح كذلك يتطلب الأمر من الدولة المضيفة قبولاً خاصاً عبر إبلاغ المحكمة بهذا القبول كتابة.

والدول التي يتطلب قبولها قبولاً خاصاً هي الدول التي حدثت تلك الجريمة أو الجرائم موضوع التحقيق في إقليمها، سواء بالفعل أو بالامتناع.

أما بالنسبة للجرائم التي تدخل ضمن هذا الإطار، فبالإضافة إلى الجرائم بموجب القانون الوطني كجريمة المخدرات التي تحمل نصوصاً في معاهدة متعددة الأطراف وكإتفاقية الأمم المتحدة 1988م والتي تشكل بالنظر إلى نصوص تلك الاتفاقية جنايات جسيمة بصورة استثنائية، هناك أيضا كل جناية دولية أخرى وفقاً لقاعدة من قواعد القانون الدولي يقبلها المجتمع الدولي ويسلم بأنها أساسية إلى درجة أن ارتكابها يرتب المسؤولية الجنائية للأفراد(1) .

 

3- تفنيد هذه الفكرة :

يمكن تفنيد هذا النهج القائم على إسناد أساس اختصاص المحكمة إلى المعاهدات الدولية من عدة نواح وذلك على النحو التالي:

1- بالنسبة للمعاهدات التي ستشكل أساساً للولاية القضائية للمحكمة، فإن هذه المعاهدات لم تتضمن أية إشارة إلى إعطاء الدول الأطراف الخيار في تقديم قضايا إلى المحكمة من هذا النوع إذا ما استثنينا اتفاقية إبادة الأجناس في مادتها السادسة والتي تتضمن إمكانية إحالة قضايا إلى محكمة دولية. أما باقي المعاهدات فهي تسند بشكل واضح معاقبة تلك الجنايات إلى الولاية الوطنية، وبالتالي فإن نهجاً مثل هذا النهج لم يراع هذه المسألة الأساسية.

2- يثار تساؤل حول ما إذا كانت هناك دولة طرف في النظام الأساسي للمحكمة إلا أنها ليست عضواً في كل المعاهدات التي ستشكل أساس ولاية المحكمة. فهل سيتم حسم المسألة بقبول الدولة الطرف في النظام الأساسي اختصاص المحكمة فقط بالنظر في المسائل المتعلقة بالمعاهدات التي هي طرف فيها كذلك؟ وهل يحق لمثل هذه الدول أن تتقدم بشكاوى متصلة بحالات ارتكاب الجرائم التي ستؤسسها معاهدات ليست هي أطرافاً فيها؟.

3- بالنسبة لاعتبار مشروع مدونة الجرائم المخلة بأمن وسلام الإنسانية، بجانب المعاهدات الدولية ضمن أسس ولاية المحكمة أمراً يكتنفه الكثير من الصعوبات والعراقيل، إذ علاوة على كون المدونة قد تتضمن جرائم تخضع لولاية المحكمة، فإن الكثير من تعاريف الجرائم الدولية الواردة في المدونة تتداخل مع تعاريف الجرائم التي تتناولها المعاهدات القائمة بالفعل...، حيث تحذف عناصر من جريمة معينة قائمة أو تضيق نطاقها، مما يشكل اضطراباً كبيرًا في سير عمل المحكمة، وسيضاعف الصعوبات التي قد تواجهها، ناهيك عن رفض الكثير من الدول اعتماد المدونة أساساً لولاية المحكمة(1) .

4- فيما يتعلق ببعض الجرائم التي تم استبعادها من مشروع المادة 22 المتضمنة قائمة بالمعاهدات الدولية التي تشكل أساساً لولاية المحكمة (الإطار الأول من اختصاصات المحكمة) والتي تم تضمينها ضمن (الإطار الثاني) من اختصاصات المحكمة والتي تتطلب قبولاً خاصاً من قبل الدول لكي تمارس المحكمة ولايتها إزاءها، كالتي وردت في المادة السادسة والعشرون مثل جريمة المخدرات مثلا التي ينطبق عليها نفس المعايير التي تم الاعتماد عليها في تقرير الفريق العامل بهدف إعطاء المحكمة الولاية إزاءها من دون قبول الدول قبولاً خاصاً، يمكن معادلتها بالاتفاقيات المشار إليها في المادة الثانية والعشرين وذلك من عدة نواح (2) .

1- باعتبار الجريمة جنائية بموجب القانون الدولي وذلك بالإستناد إلى اتفاقية1988م لمكافحة الاتجار غير المشروع بالمخدرات والمؤثرات العقلية.

2- النصوص الرامية إلى جعل الجريمة معاقباً عليها بموجب القانون الداخلي .

3- النصوص المتعلقة باختصاص دولة غير الدول التي ارتكبت فيها الجريمة بالنظر في تلك الجريمة.

4- النصوص التي تقضي بملاحقة ومحاكمة الجاني الموجود في إقليم الدولة التي رفضت محاكمة أو تسليم الجاني.

5- النصوص المتعلقة بمبدأ تسليم المجرمين وبالمساعدة القانونية المتبادلة.

ومع هذا فقد تم التعليق على ما سبق خاصة هذه النقطة الأخيرة بالذات بأنه لا يمكن إدراج مثل هذه الجرائم حتى وإن توفرت فيها الشروط الخمسة السابقة، وذلك فقط لكون تلك الجرائم ليست معرفة تعريفاً كافياً في الاتفاقية لتشكل أساسا قانونياً كافياً يتعين على هيئة القضاء تطبيقه مباشرة دون الرجوع للقانون الوطني هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية فإن الالتزام بمحاكمة وتسليم المتهمين كما في اتفاقية 1988م بشأن مكافحة المخدرات لا تسري إلا على الدول التي جعلت الجناية معاقبا عليها بموجب قوانينها الداخلية وليس على أساس تنفيذ أحكام المعاهدة.

ومن هنا وبالإضافة إلى كل الاعتبارات السابقة وبالنظر إلى عدم كفاية تعريف الجرائم في الاتفاقيات القائمة بما في ذلك عدم الإشارة إلى أوجه الدفاع وعوامل التبرئة والإدانة والعقوبات، ولأنه ينبغي تعريف عناصر الجرائم تعريفاً دقيقاً بحيث يسهل إثبات أن سلوك الشخص المتهم يشمل عناصر جريمة بعينها (1) فإن لجنة القانون الدولي قد لاحظت أنه يلزم فيما يتعلق ببعض المعاهدات تضييق نطاق الجرائم التي تدخل ضمن اختصاصات المحكمة..، وأن يحدد بجلاء في النظام الأساسي فقط الجرائم الأشد خطورة ومدى خطورتها وكونها ذات طابع دولي حقيقي، بما يبرر إدماجها ضمن اختصاص المحكمة.

لكن ظل التساؤل حول كيف سيتم تحديد تلك الجرائم الأشد خطورة ؟ وما هي المعايير التي ينبغي مراعاتها لتحديد أن جريمة ما ذات طابع دولي حقيقي وخطير إلى حد يسوغ إدراجها ضمن اختصاصات المحكمة؟

ترددت في الواقع ثلاثة معايير أساسية تمت مراعاتها عند وضع الصيغة النهائية للنظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية وهذه المعايير هي : (2)

1- أن تلحق الجريمة المعنية الضرر لا بمصالح دولة أو دول معينة فحسب ، وإنما بمصير البشرية بأسرها أو المجتمع الدولي بأكمله.

2- أن تعتبر الأفعال المعنية جرائم بموجب مبادئ القانون الجنائي المعترف بها دولياً، وأن تقر هذه الطبيعة جميع الأطراف المعنية .

3- أن ينطوي مكافحة هذه الجرائم في أقل تقدير على التعاون بين الدول مما يفضي إلى محاكمة مرتكبها أمام محكمة جنائية دولية.

وانسجاماً مع روح النظام الأساسي وفلسفته العامة النابعة عن توجه المجتمع الدولي نحو تحديد نطاق عمل المحكمة بالجرائم الأشد خطورة ..، لم يعد ممكناً قبول معيار وجود معاهدة دولية تعرف الجريمة أو حتى كون المعاهدة قد أوجدت فيما يخص الجناية المعنية نظاماً للاختصاص العالمي بالمحاكمة. وعليه كان من الضروري التوصل إلى اتفاق حول ضرورة خلق نطاق معين من الاختصاص الدولي المشترك، على أساسه يتم إسناد الاختصاص في جرائم محددة بدقة إلى المحكمة الجنائية الدولية.

ثانياً : خلق نطاق معين من الاختصاص الدولي المشترك :

إن أي جناية بمقتضى القانون الدولي العام يقبلها المجتمع الدولي ككل، ويسلم بأنها أساسية إلى درجة أن انتهاكها يرتب المسؤولية الجنائية للأفراد، تعتبر جرائم جسيمة وأشد خطورة مما يوجب إدماجها ضمن اختصاصات المحكمة كما ذهب إلى ذلك الفريق العامل المعني بوضع مشروع النظام الأساسي لمحكمة جنائية دولية، ومن أبرز الأمثلة على ذلك جريمة العدوان مثلاً الذي ليس معرفاً في معاهدة محددة، وكذلك جريمة الإبادة الجماعية في حالة الدول الغير الأطراف في اتفاقية قمع جريمة الإبادة، وكذلك الجنايات المرتكبة ضد الإنسانية والغير مشمولة باتفاقية جنيف 1949، وهي جرائم من الأهمية بحيث أنه من غير المعقول في هذه المرحلة الأساسية من تطوير القانون الدولي في اتجاه إنشاء محكمة جنائية دولية أن لا يتم إدخال هذه الجنايات ضمن اختصاص المحكمة(1) كونها جرائم خطيرة وذات طابع دولي حقيقي. لكن هل يكفي نعت جريمة بأنها ذات طابع دولي حقيقي وخطير لإدراجها ضمن اختصاصات المحكمة؟! إن جرائم متنوعة ومحددة في معاهدات دولية ومن بينها جريمة الإرهاب والتعذيب والمخدرات والفصل العنصري هي أيضاً جرائم خطيرة وذات أهمية دولية مما يستوجب إدماجها ضمن اختصاصات المحكمة ومع ذلك لم يتم إدماجها!، وهي مسألة لاحظتها العديد من تعليقات الدول.

أ-قصر اختصاص المحكمة في عدة جرائم يتوفر حولها إجماع دولي :

تمشياً مع الرأي السائد عند إعداد الصيغة النهائية للنظام الأساسي، والتوجه الدولي العام نحو قصر اختصاص المحكمة على جرائم بعينها، تم اختيارها باعتبارها الأشد خطورة لإرتباطها بمصير البشرية كلها ولكونها تحظى بإجماع عالمي وبأهمية بالغة كونها من الجسامة بحيث تصدم وجدان المجتمع الدولي وتزعزع أمنه واستقراره ، وتهدد نظامه القانوني.

معيار خطورة هذه الجرائم في الواقع لم يكن ممكناً أن يتضمنها النظام الأساسي للمحكمة، لكن كثيراً من الرؤى التي أبديت داخل اللجنة المختصة لإنشاء محكمة جنائية دولية، وكذا تعليقات عديد من الدول ركزت على ضرورة الاسترشاد فيما يتعلق بهذه النقطة بفقرات المواد 2-5 من النظام الأساسي للمحكمة الدولية ليوغسلافيا السابقة وكذلك المواد 2-4 من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية الخاصة برواندا(1 )، المهم وكما لاحظت (ببلاروس) في تعليقاتها " أن يتم إدراج أخطر الجرائم وأكثرها عنفاً باعتراف دولي إلى الحد الذي يكون من المستحيل أن ترفض أي دولة اختصاص المحكمة فيما يتعلق بهذه الجرائم، وأن تصبح مع ذلك طرفاً في النظام الأساسي"(2) ويبدو أن هذه الفكرة الأخيرة هي التي تحكمت في إقرار الصيغة النهائية المتعلقة بنقطة جوهرية في النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية.

وبناء على ما سبق وباستقراء الكثير من تعليقات الدول وللنقاشات التي دارت حول مواد النظام الأساسي المتعلقة بهذه المسألة، يمكن القول أن قصر اختصاص المحكمة على عدد قليل من الجرائم الدولية التي يتوفر إجماع دولي على خطورتها نقطة مهمة يترتب عليها عدة أمور إيجابية بالنسبة لمستقبل المحكمة من أهمها:

1- تيسير النظر في مسائل أخرى ذات أهمية كذلك في عملية إنشاء المحكمة .

2- تبني نهج موحد ومنسق إزاء مختلف متطلبات الاختصاص بما في ذلك متطلبات موافقة الدول والتزاماتها بالتعاون مع المحكمة وتقديم المساعدة القضائية .

3- حتى يتم تشجيع أكبر عدد ممكن من الدول على قبول المحكمة مما يعزز مصداقيتها وفعاليتها .

4- تجنب إثقال كاهل المحكمة بقضايا يمكن أن تتناولها المحاكم الوطنية على النحو المناسب وكذلك التخفيف من العبء المالي الملقى على المجتمع الدولي..

5- العمل على خلق نطاق معين من الاختصاص المشترك فيما يتعلق بجميع الدول الأطراف وتوسيع نطاق هذا الاختصاص تدريجيا مع الزمن(1) .

لكل هذه الاعتبارات جاء التشديد في النظام الأساسي للمحكمة منذ الديباجة على "ضرورة إنشاء محكمة جنائية دولية دائمة ومستقلة وذات علاقة بمنظومة الأمم المتحدة وذات اختصاص على الجرائم الأشد خطورة والتي تثير قلق المجتمع الدولي بأسره"(1) .

ولأهمية المسألة أعيد هذا التأكيد مرة ثانية في المادة الأولى من النظام الأساسي عندما نصت على"...ويكون لها السلطة لممارسة اختصاصاتها على الأشخاص إزاء أشد الجرائم خطورة موضع الاهتمام الدولي".

ب-العمل على توسيع نطاق اختصاص المحكمة مستقبلاً.

بما أن الهدف ليس فقط إنشاء المحكمة في حد ذاتها، وإنما التطوير التدريجي للممارسة القانونية، وسن القوانين على الصعيد الدولي، كان لابد من العمل على خلق نطاق معين من الاختصاص المشترك بين جميع الدول وتوسيع نطاقه تدريجياً. لذلك كان هناك حرص شديد على إيجاد آلية مناسبة لتمكين الدول الأطراف في النظام الأساسي من النظر في إضافة جرائم أخرى في مرحلة لاحقة وهي مسألة ما انفكت مختلف الرؤى تشدد على أهميتها(2) .

ولذا فقد تم تضمين النظام الأساسي للمحكمة الإشارة إلى تلك الآلية عندما نصت المادة 123 منه على أنه بعد انقضاء سبع سنوات على بدء نفاد هذا النظام، يعقد الأمين العام للأمم المتحدة مؤتمراً استعراضياً للدول الأطراف للنظر في أية تعديلات على محتويات هذا النظام، ويجوز أن يشمل الاستعراض قائمة الجرائم المدرجة ضمن اختصاصات المحكمة..

وهي الجرائم الدولية الأشد خطورة والتي أصبحت لا تستمد طابعها الإجرامي بموجب القانون الدولي فحسب وإنما تستمده كذلك من التنصيص على تلك الطبيعة في النظام الأساسي نفسه كونها تشكل نظاما مشتركا من الاختصاص فيما يتعلق بجميع الدول الأطراف، من هنا وحتى في حالة عدم وجود تعريف لأي من تلك الجرائم في صكوك دولية سابقة ينبغي أن يتضمن النظام الأساسي نفسه مثل هذا التعريف وأن يبت في هذه المسألة انطلاقا منه.

فما هي الجرائم الدولية الأشد خطورة والتي أدرجت ضمن اختصاص المحكمة الجنائية؟ وكيف تمت معالجة إشكالية عدم وجود تعاريف واضحة ومحددة لأي من هذه الجرائم؟ .

المطلب الثاني : الجرائم الدولية المدرجة ضمن اختصاصات المحكمة

انصرفت نية المجتمع الدولي بالإجماع في إطار المحكمة الجنائية الدولية إلى خلق نطاق معين من الإختصاص المشترك فيما يتعلق بجميع الدول الأعضاء، يشمل أربع جرائم أساسية اعتبرت أشد الجرائم الدولية خطورة، وأكثرها تهديداً لبنية وقيم النظام القانوني الدولي.

وهذه الجرائم الأربع كما حددتها المادة الخامسة من النظام الأساسي للمحكمة هي : (1)

1- جريمة الإبادة الجماعية .

2- الجرائم ضد الإنسانية .

3- جرائم الحرب .

4- جريمة العدوان .

ولأن المحكمة أنشئت خصيصاً كمحفل لمقاضاة تلك الجرائم، نعتقد أن من الأهمية بمكان الإلمام بمفهوم تلك الجرائم وتعديد عناصرها وفقاً لما بينته مواد النظام الأساسي، والاستفادة عند الاقتضاء بالتحديد الذي بينته أية اتفاقيات أو صكوك دولية سابقة تناولت هذه الجرائم، باعتبار أن النظام الأساسي نفسه كان مستنداً في تحديده لتلك الجرائم الدولية على كثير من المعاهدات الدولية الكاشفة عنها، وعلى التعاريف الواردة في تلك المعاهدات دون أن يكون ممكناً تضمينه لتلك المعاهدات وبالتالي صور وأركان الجرائم التي كشفت عنها(1) .

أولاً : الإبادة الجماعية : (2)

عرفت المادة السادسة من نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية جريمة الإبادة الجماعية أنها تعني لغرض هذا النظام. أي فعل من الأفعال التالية يرتكب بقصد إهلاك جماعة قومية أو عرقية أو دينية بصفتها هذه إهلاكاً كلياً أو جزئياً :

1- قتل أفراد الجماعة .

2- إلحاق ضرر جسدي أو عقلي جسيم بأفراد الجماعة .

3- إخضاع الجماعة عمداً لأحوال معيشية يقصد بها إهلاكها الفعلي كليا أو جزئيا .

4- فرض تدابير تستهدف منع الإنجاب داخل الجماعة .

5- نقل أطفال الجماعة عنوة إلى جماعة أخرى .

وتنصرف عبارة " إهلاك جماعة... إهلاكاً كلياً أو جزئياً " كما تم توضيح ذلك أثناء مناقشة هذه الجريمة داخل اللجنة المعنية بإعداد نظام أساسي للمحكمة الجنائية الدولية، إلى القصد المحدد لإهلاك ما هو أكثر من عدد صغير من الأفراد الأعضاء في جماعة ما .." كما أن الإشارة إلى الأذى العقلي تعني ما هو أكثر من التعطيل البسيط أو المؤقت للقدرات العقلية. (1) "

وبالرجوع إلى الأفعال التي حددتها المادة السادسة من النظام الأساسي للمحكمة نلحظ أنها نفس الأفعال التي كانت حددتها المادة الثانية من الاتفاقية الدولية لمنع جريمة الجنس التي وقع عليها في 9 ديسمبر 1948م، ودخلت حيز النفاذ 2 يناير 1951م .

وجوهر هذه الجريمة كما خلصت إلى ذلك الجمعية العامة في مشروع قرارها للاتفاقية السابقة والذي أصدرته سنة 1946 يتمثل في " إنكار حق البقاء لمجموعة بشرية بأجمعها" نظراً لما ينطوي عليه من خطر على الضمير العام وإصابة البشرية كلها بأضرار بالغة من كل النواحي التي تساهم بها هذه المجموعات فضلا عن منافاتها للأخلاق ولمقاصد الأمم المتحدة...

ولما كانت قد وجدت أمثلة كثيرة لجرائم إبادة الجنس... ، ولما كانت مسألة معاقبة جريمة إبادة الجنس مسألة ذات اختصاص دولي، لذلك تؤكد الجمعية العامة أنها جريمة في نظر القانون الدولي ويدينها العالم المتمدن ويعاقب مرتكبوها سواء كانوا فاعلين أصليين أو شركاء، بصرف النظر عن صفاتهم حكاماً أو أفرادا عاديين، سواء قاموا بارتكابها على أسس تتعلق بالدين أو السياسة أو الجنس أو أي أساس آخر... ، وتدعو الجمعية العامة الدول الأعضاء إلى سن ما يلزم من قوانين لمنع وعقاب هذه الجريمة وتوصي بتنظيم التعاون الدولي لتسهيل التجريم العادل لهذه الجريمة والعقاب عليها (1) ".

وعليه فإضفاء صفة التجريم هنا نابعة من طبيعة المصلحة الجوهرية المعتدى عليها لذا فعند مناقشة مشروع النظام الأساسي طوال مراحل إعداده، انصرفت الآراء وكذا ردود الدول إلى ما يشبه الإجماع حول ضرورة إدماج هذه الجريمة ضمن أولويات اختصاص المحكمة المنشأة، بل ولأكثر من ذلك أن الحديث عن فكرة القضاء الدولي الجنائي المنظم وبداية الجهود الحقيقية في إطار منظمة الأمم المتحدة نحو إنشاء محكمة جنائية دولية ارتبط بمناسبة التوقيع على اتفاقية قمع ومعاقبة جريمة الإبادة.

فعلاوة على التعريف الواضح للجريمة في الاتفاقية المذكورة وتحديد عناصرها وصورها، فإن الاتفاقية نفسها قد تضمنت شروط الملاحقة الدولية ضد مرتكبي هذه الجريمة، بل شددت كذلك على أن مسألة الاختصاص الدولي بالمحاكمة عن هذه الجريمة يمثل الضمانة الأساسية للحيلولة دون إفلات مرتكبها من العقاب لذلك سارعت الجمعية العامة إزاء هذا التطور الإيجابي على إصدار توصية مهمة تضمنت ثلاث مسائل أساسية كانت بمثابة اللبنة الأولى لجهود الأمم المتحدة نحو إنشاء المحكمة الجنائية الدولية كما أشرنا إلى ذلك، وهذه الأمور الثلاثة هي: (1)

1- الاعتراف بأنه في مجال تطور المجتمع الدولي سوف تزداد الحاجة إلى وجود قضاء دولي جنائي يختص بالنظر ببعض الجرائم التي تستمد صفتها الدولية من خلال القانون الدولي العام.

2- دعوة لجنة القانون الدولي لدراسة ما إذا كان ممكناً إنشاء هيئة قضائية دولية لمحاكمة المتهمين بارتكاب جريمة إبادة الجنس أو الجرائم الأخرى التي تصبح من اختصاص هذه الهيئة وذلك بموجب الاتفاقيات الدولية المعقودة.

3- مطالبة لجنة القانون الدولي التي سوف تضطلع بهذا العمل أن تراعي مدى إمكانية إنشاء دائرة جنائية ضمن دوائر محكمة العدل الدولية.

والواقع أن اتفاقية 9 ديسمبر 1948 رغم أنها أتت خالية من الإشارة إلى العقاب، وهو الشق الثاني لمبدأ الشرعية، كما أنها أغفلت كذلك الإشارة إلى الجماعات الاجتماعية والسياسية، إلا أنها بالفعل شاملة في تعريف الجريمة وتحديد عناصرها والإفصاح عن طابعها الجرمي سواء ارتكبت في أوقات السلم أو الحرب، وبالتالي لم يعد ممكن تركها ضمن المجال المحفوظ للدول لأنها تنطوي على مس خطير بالسلم والأمن الدوليين، وعادة ما تمارس من قبل السلطات العامة أو بمعرفتها بحيث يغدو الاعتماد على المحاكم الداخلية عديم الجدوى.

وإزاء هذا التحديد الدقيق والمفصل للأفعال التي تكون جريمة إبادة للجنس في هذه الاتفاقية، والذي يعبر عن الرغبة الحقيقة في حماية المصالح الجوهرية للمجتمع الدولي، كان طبيعياً أن يرد تعريف النظام الأساسي للمحكمة لهذه الجريمة بنفس الطريقة التي عرفتها بها الاتفاقيــــة المذكـــــورة (1) .

وعليه كان من الطبيعي أن تجمع مختلف الرؤى عند اعتماد الصيغة النهائية للنظام الأساسي للمحكمة إلى أن هذه الجريمة تفي بمعايير الإدماج المبينة في ديباجة هذا النظام والمؤكد عليها في مادته الأولى " كونها من أشد الجرائم خطورة محل الاهتمام الدولي" وتشكل بالتالي أساساً لولاية المحكمة الجنائية وأنها كذلك معرفة تعريفاً يفي بمتطلبات مبدأ الشرعية " إذ أن التعريف الموثوق لهذه الجريمة موجود في اتفاقية 9 ديسمبر 1948 التي لاقت قبولاً واسع النطاق من جانب الدول بحيث اعتبرت مجسدة للقانون الدولي العرفي الذي تطبقه محكمة العدل الدولية(1) " وتم إدراجه كذلك في النظام الأساسي للمحكمة.

ومع أن المادة السادسة من النظام الأساسي والتي تصدت لتعريف هذه الجريمة لم تشر إلى الجماعات الثقافية والسياسية (2) في صدد تعدادها للأفعال التي تشكل جريمة الإبادة، إلا أن هذه المسألة تمت معالجتها في سياق الجرائم المرتكبة ضد الإنسانية.

ثانياً : الجرائم ضد الإنسانية:

عرفت المادة السابعة من نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، الجرائم ضد الإنسانية عبر تعداد الأفعال التي تشكل في حالة ارتكابها في إطار هجوم واسع النطاق أو منهجي موجه ضد مجموعة من السكان المدنيين عن علم بهذا الهجوم باعتبارها جرائم ضد الإنسانية وهذه الأفعال التي تشكل جرائم هي :

1- القتل العمد .

2- الإبادة التي تعني هنا تعمد فرض أحوال معيشية من بينها الحرمان من الحصول على الطعام والدواء بقصد إهلاك جزء من السكان.

3- الاسترقاق وتعني ممارسة أي من السلطات حق الملكية على شخص ما بما في ذلك ممارسة هذه السلطات في سبيل الاتجار بالأشخاص لا سيما النساء والأطفال.

4- إبعاد السكان أو النقل القسري لهم أي نقلهم قسراً من المنطقة التي يتواجدون فيها بصفة مشروعة بالطرد أو بأي فعل قسري أخر من دون مبررات يسمح بها القانون الدولي.

5- السجن أو الحرمان الشديد على أي نحو آخر من الحرية البدنية بما يخالف القواعد الأساسية للقانون الدولي.

6- التعذيب أي تعمد إلحاق ألم شديد أو معاناة شديدة سواء بدنياً أو عقلياً بشخص موجود تحت إشراف المتهم أو سيطرته، على أن لا يشمل هذا المعنى أي ألم أو معاناة ينجمان فحسب عن عقوبات قانونية أو تكون جزء منها أو نتيجة لها.

7- الاغتصاب أو الاستعباد الجنسي أو الإكراه على البغاء أو الحمل القسري أو التعقيم القسري بقصد التأثير على التكوين العرقي لأي مجموعة من السكان أو أي شكل أخر من أشكال العنف الجنسي على مثل هذه الدرجة من الخطورة.

8- اضطهاد أي جماعة محددة من السكان أو مجموع السكان لأسباب سياسية أو عرقية أو دينية، وذلك فيما يتعلق بأي فعل مشار إليه هنا، أو بأي جريمة تدخل ضمن اختصاصات المحكمة. ويعني الاضطهاد حرمان أي جماعة من السكان حرماناً متعمداً وشديداً من الحقوق الأساسية بما يخالف القانون الدولي وذلك بسبب هوية هذه الجماعة أو مجموع السكان .

9- الاختفاء القسري للأشخاص ويعني إلقاء القبض على أي أشخاص واحتجازهم أو اختطافهم من قبل دولة أو منظمة سياسية أو بإذن ودعم منها لهذا الفعل أو سكوتها عليه، ثم رفضها الإقرار بحرمان هؤلاء الأشخاص من حريتهم أو إعطاء معلومات عن مصيرهم أو عن أماكن وجودهم بهدف حرمانهم من حماية القانون لفترة طويلة .

10- الفصل العنصري: أية أفعال لا إنسانية تماثل في طابعها الأفعال السابقة وترتكب في سياق نظام مؤسسي قوامه الاضطهاد المنهجي والسيطرة المنهجية من جانب جماعة عرقية إزاء جماعة أو جماعات أخرى وترتكب بغية الإبقاء على ذلك النظام.

11- أي أفعال غير إنسانية أخرى ذات طابع مماثل تتسبب عمداً في معاناة شديدة أو في أذى خطير يلحق بالجسم أو بالصحة العقلية أو البدنية.

بالنسبة لهذا النوع من الجرائم الدولية فقد انصرفت أراء كثيرة من أعضاء الفريق العامل المعني بوضع نظام أساسي للمحكمة الجنائية الدولية إلى ضرورة إدماجها ضمن الولاية القضائية الجنائية الدولية للمحكمة، مع مراعاة أن يكون اختصاص المحكمة فيما يتعلق بهذه الجريمة مرهوناً بمزيد من الوصف للتأكد من إفساح المجال لتحقيق معيار الجسامة...، وبما أنه لا توجد اتفاقية تشمل تعريفاً قضائياً لهذا النوع من الجرائم معترف به بصفة عامة ودقيق بما فيه الكفاية، فقد اعتبر أن التعريفات الواردة في لائحة نورمبرج المادة السادسة والمادة الخامسة من النظام الأساًسي لمحكمة يوغسلافيا السابقة والمادة الثالثة من محكمة رواندا توفر توجيها مناسباً عند وضع مثل هذا التعريف الدقيق، وبالاستفادة كذلك من ردود وتعليقات الدول الواردة حول هذه النقطة (1) .

والواقع أن مثل هذه الأفعال التي تنطوي على عدوان صارخ على إنسان أو مجموعات إنسانية، قد اعتبرت في ظل الاتجاهات الحديثة في القانون الدولي العام جرائم دولية بالنظر إلى المكانة التي أصبح الفرد يحتلها في النظام القانوني الدولي الحديث، وللخطورة التي تشكلها هذه الجريمة على بنيان وقيم النظام القانوني الدولي.

وعلى الرغم من حداثة مفهوم الجرائم ضد الإنسانية(2) في القانون الدولي العام" فإن تأتيم الأفعال المكونة لهذه الجرائم وسيلة فعالة لتوفير الحماية الجنائية لحقوق الإنسان وقت السلم والحرب، بل ويمثل أحد الضمانات الأساسية للحد من طغيان الحكام الذين يتنكرون للقيم الإنسانية العليا ويهددون حقوق بعض الفئات أو الجماعات الإنسانية لأسباب سياسية أو دينية أو عرقية. (1) "

وفوق ذلك فقد تضمنتها العديد من الاتفاقيات الدولية التي أعقبت الحرب العالمية الأولى خصوصاً المتعلقة بحماية الأقليات، وكذلك المعاهدات الدولية التي شكلت بداية للمسألة الجنائية وتقرير المسؤولية الجنائية الشخصية ...، كما تضمنها المبدأ السادس من مبادئ محاكمات نور مبرج والمتعلق بتعيين وتحديد الجرائم الدولية عندما صنف أن الجرائم ضد الإنسانية جرائم دولية خطيرة.

لكن ومع ذلك فإن مختلف التأكيدات والاتفاقيات الدولية تلك، وما نتج عنها كانت تنظر إلى هذه الجرائم بارتباطها بجرائم الحرب، ومن هنا لم تستطع محكمة نورمبرج مثلاً أن تدين الألمان عن ارتكاب مثل تلك الجرائم التي ارتكبت منذ سنة 1939، لأنه كما ذهبت المحكمة إلى ذلك " يتعذر عليها أن تعلن أن تلك الأفعال كانت تمثل جرائم ضد الإنسانية بالمعنى الذي حدده ميثاق نورمبرج، أما بالنسبة للأفعال المرتكبة بعد هذا التاريخ فقد أكدت المحكمة وجود علاقة بينها كجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب التي تدخل ضمن اختصاص المحكمة ومن ثم أصدرت حكمها بالإدانة على هذا الأساس".

فهذه الجرائم اللاإنسانية التي وجهها الإدعاء- كما جاء في حكم المحكمة-، تم ارتكابها بعد نشوب الحرب لكنها ليست جرائم حرب بالمعنى المعروف، إلا أنها ارتكبت بسبب ارتباطها ولعلاقتها بها يمكن اعتبارها جرائم ضد الإنسانية.

التساؤل المتعلق بارتباط ارتكاب هذه الأفعال المكونة للجرائم ضد الإنسانية بمناسبة ارتكاب جريمة أخرى وهي جريمة الحرب نوقش كذلك داخل اللجنة المكلفة بإعداد مشروع النظام الأساسي للمحكمة، فذهبت كثير من الآراء إلى أن النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية برواندا والقرار الذي اتخذته المحكمة الجنائية الدوليـــة بيوغسلافيا من قضيــــة (دتاديتسTadec ) وكذلك التطورات التي حدثت منذ سابقة نورمبرج ترجح استبعاد أي شرط يتعلق بالنزاع المسلح،(1) على أنه تم الإعراب كذلك على أن الجرائم المذكورة كانت ترتكب عادة أثناء نزاعات مسلحة ولم ترتكب وقت السلم إلا بصفة استثنائية(2). ومع ذلك فهذه الجريمة تعد جريمة دولية مستقلة عن جرائم الحرب وذلك لإمكان وقوعها في غير زمان ومكان القتال وإن تيسر ارتكابها في أثنائه، نظرا لما تنطوي عليه من إنكار لحقوق الإنسان الأساسية(1) ، وإضراراً خطيراً بمصلحة جوهرية للنظام الدولي.

وعليه فقد حرص واضعوا النظام الأساسي عند إعداد صيغته النهاية " كما ذهبت كذلك أيضا مختلف تعليقات وردود الدول حول المشروع المقدم (2) ". إلى ضرورة تعيين وتحديد الأفعال المكونة لهذه الجريمة بوضع تعريفات دقيقة ومركزة لها بحيث يمكن تجنب الخلط مثلاً بين فعل الإبادة كجريمة من الجرائم ضد الإنسانية وجريمة الإبادة الجماعية ( ( Génocideوكذلك القتل العمد الذي يمكن تصنيفه ضمن جريمة إبادة الجنس إذا ارتكب ضد أي مجموعة كما أشارت إلى ذلك المادة السادسة من النظام، وفي نفس الوقت يمكن أن تشكل كذلك إحدى الجرائم ضد الإنسانية إذا ارتكبت في مناسبات أخرى وما إلى ذلك من الأفعال التي حرص على وضع تعريفات ومعاني محددة لها في المادة السابعة من النظام الأساسي للمحكمة.

كما تم التشديد في ذات النظام على أن هذه الجريمة تتحقق في إطار هجوم واسع النطاق موجه ضد أية مجموعة من السكان المدنيين " متى كان ذلك نهجاً سلوكياً يتضمن الارتكاب المتكرر للأفعال التي تشكل هذه الجريمة ضد أية مجموعة من السكان المدنيين عملا بسياسة دولة أو منظمة تقضى بارتكاب هذا الهجوم، أو تعزيزا لهذه السياسة" حسب الفقرة الثانية من المادة السابعة(1) .

وبناء على ما سبق ولأنه قد ثم تحديد وتعيين وتعريف مختلف الأفعال التي تشكل الجرائم ضد الإنسانية والتي يشكل اقترافها إنكاراً صارخاً لحقوق الإنسان الأساسية، واعتداءاً جسيماً على مصلحة جوهرية من مصالح النظام القانوني الدولي، فقد اعتبرت الجرائم ضد الإنسانية جريمة تنطبق عليها المعايير المحددة في الفقرة التاسعة من ديباجة النظام الأساسي وكذلك المادة الأولى من هذا النظام بوصفها من أشد الجرائم الدولية خطورة وأفظع الجرائم التي تثير قلق المجتمع الدولي بأسره، وذلك وفقاً للتحديد والتعيين الذي جاءت به المادة السابعة من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية.

ثالثاً : جرائم الحرب :

تعني جرائم الحرب لغرض هذا النظام الأساسي كما حددت ذلك المادة الثامنة من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية ما يلي :

أ - الانتهاكات الجسيمة لاتفاقيات جنيف المؤرخة في 12 أغسطس 1949م بمعنى أي فعل من الأفعال التالية ضد الأشخاص أو الممتلكات الذين تحميهم أحكام اتفاقيات جنيف ذات الصلة وهذه الأفعال هي:

1- القتل العمد .

2- التعذيب أو المعاملة اللاإنسانية بما في ذلك إجراء تجارب بيولوجية.

3- تعمد إحداث معاناة شديدة أو إلحاق أذى خطير بالجسم أو بالصحة.

4- إلحاق تدمير واسع النطاق بالممتلكات والإستيلاء عليها دون ضرورة عسكرية وبالمخالفة للقانون وبطريقة عابثة.

5- إرغام أي أسير حرب أو شخص مشمول بالحماية على الخدمة في صفوف قوات دولة معادية .

6- تعمد حرمان أي أسير أو أي شخص مشمول بالحماية من حقه في أن يحاكم محاكمة عادلة ونزيهة.

7- الإبعاد أو النقل غير المشروعين أو الحبس غير المشروع.

8- أخذ الرهائن.

ب- الانتهاكات الخطيرة الأخرى للقوانين والأعراف السارية على المنازعات الدولية المسلحة في النطاق الثابت للقانون الدولي لأي فعل من الأفعال التالية :

1- تعمد توجيه هجمات ضد السكان المدنيين بصفتهم هذه أو ضد أفراد مدنيين لا يشاركون مباشرة في الأعمال الحربية .

2- تعمد توجيه هجمات ضد مواقع مدنية ( المواقع التي لاتشكل أهداف عسكرية).

3- تعمد شن هجمات ضد موظفين مستخدمين أو منشآت أو مواد أو وحدات أو مركبات مستخدمة في مهمة من مهام المساعدة الإنسانية أو حفظ السلام عملاً بميثاق الأمم المتحدة ما دامو يستحقون الحماية.

4- تعمد شن هجوم مع العلم بأنه سيسفر عن خسائر تبعية في الأرواح أو عن إصابات بين المدنيين أو عن إلحاق أضرار مدنية أو إحداث ضرر واسع النطاق وطويل وشديد للبيئة الطبيعية بالقياس إلى مجمل المكاسب العسكرية.

5- مهاجمة أو قصف المدن والمساكن العزلاء التي لا تكون أهدافاً عسكرية بأي وسيلة كانت.

6- قتل أو جرح مقاتل استسلم مختاراً لكونه قد ألقى السلاح ولم يعد له وسيلة للدفاع.

7- إساءة استعمال علم الهدنة أو علم العدو أو شارته وزيه العسكري أو علم وزي الأمم المتحدة أو الشارات المميزة لاتفاقيات جنيف، مما يسفر عن موت الأفراد أو إلحاق أي ضرر بهم.

8- قيام دولة الاحتلال على نحو مباشر أو غير مباشر بنقل أجزاء من سكانها المدنيين إلى الأرض التي تحتلها أو إبعاد أو نقل كل سكان الأرض المحتلة أو أجزاء منهم داخل هذه الأرض أو خارجها.(1)

9- تعمد مهاجمة المباني المعدة للأغراض الدينية والتعليمية أو الآثار التاريخية أو المستشفيات أو أماكن تجمع المرضى والجرحى. 10- إخضاع الأشخاص الموجودين تحت سلطة طرف معادي للتشويه البدني أو لأي نوع من التجارب الطبية أو العلمية التي لا تبررها الحالة الطبية للشخص، أو أي معالجة لا تجرى لصالحه وتتسبب في وفاته أو تعرض صحته للخطر.

11- قتل أفراد منتمين إلى دولة معادية أو إصابتهم غدراً.

12- إعلان أنه لن يبق أحد على قيد الحياة.

13- تدمير ممتلكات العدو أو الاستيلاء عليها ما لم يكن هذا التدمير أو الاستيلاء مما تحتمه الضرورة العسكرية.

14- إعلان أن حقوق ودعاوى رعايا الطرف المعادي ملغاة أو معلقة أو لن تكون مقبولة في أية محكمة.

15- إجبار رعايا الطرف المعادي على الاشتراك في عمليات حربية موجهة ضد بلدهم وإن كانوا قبل نشوب الحرب في خدمة الدولة المحاربة.

16- نهب أي بلد أو مكان حتى وإن تم الاستيلاء عليه عنوة.

17- استخدام السموم والأسلحة المسممة.

18- استخدام الغازات الخانقة أو السامة أو غيرها من الغازات وجميع ما في حكمها من السوائل أو المواد أو الأجهزة .

19- استخدام الرصاصات التي تتمدد أو تتسع بسهولة داخل الجسم البشري ..

20- استخدام أسلحة أو قذائف أو مواد أو أساليب حربية تسبب بطبيعتها أضراراً زائدة أو آلاماً لا لزوم لها، أو تكون عشوائية بالمخالفة للقانون الدولي للمنازعات المسلحة بشرط أن تكون موضع حظر شامل(1) ، وأن تدرج في مرفق هذا النظام عن طريق تعديل يتفق والأحكام ذات الصلة.

21- الاعتداء على الكرامة الشخصية وخاصة المعاملة المهينة والحاطة للكرامة .

22- الاغتصاب أو الاستعباد الجنسي أو الإكراه على البغاء والحمل القسري أو أي شكل آخر من أشكال العنف الجنسي يشكل أيضاً انتهاكا ًلاتفاقيات جنيف.

23- استغلال وجود شخص مدني أو أشخاص آخرين متمتعين بحماية لإضفاء الحصانة من العمليات العسكرية على نقاط أو مناطق أو قوات عسكرية معينة.

24- تعمد توجيه هجمات ضد المباني والوحدات الطبية ووسائل النقل والأفراد من مستعملي المميزات المبينة في اتفاقيات جنيف.

25- تعمد تجويع المدنيين بحرمانهم من المواد التي لا غنى عنها لبقائهم بما في ذلك عرقلة مواد الإغاثة على النحو المنصوص عليه في اتفاقيات جنيف.

26- تجنيد الأطفال دون الخامسة عشرة من العمر إلزامياً أو طوعياً في القوات المسلحة الوطنية أو استخدامهم للمشاركة فعليا في الأعمال الحربية.

ج-في حالة وقوع نزاع مسلح غير ذي طابع دولي(1)، والانتهاكات الجسيمة للمادة 3 المشتركة بين اتفاقية جنيف الأربعة، وهي أي من الأفعال التالية المرتكبة ضد أشخاص غير مشتركين اشتراكاً فعلياً في الأعمال الحربية بما في ذلك أفراد القوات المسلحة الذين ألقوا أسلحتهم...

1- استعمال العنف ضد الحياة والأشخاص خاصة القتل والتشويه والمعاملة القاسية والتعذيب .

2- الاعتداء على كرامة الشخص .

3- أخذ الرهائن.

4- إصدار أحكام وتنفيذ إعدامات دون وجود حكم سابق صادر عن محكمة مشكلة تشكيلاً نظامياً تكفل جميع الضمانات القضائية المعترف عموما أنه لا غنى عنها .

د-بالنسبة للاعتداء على كرامة الشخص والمعاملة القاسية والحاطة بالكرامة لا تطبق في حالة الاضطرابات والتوترات الداخلية مثل أعمال الشغب وأعمال العنف المنفردة أو المنظمة وغيرها من الأعمال ذات الطبيعة المماثلة.

هـ- الانتهاكات الخطيرة الأخرى للقوانين والأعراف السارية على المنازعات المسلحة غير ذات الطابع الدولي وتشمل كلاً من الأفعال التالية :

1- تعمد توجيه هجمات ضد السكان المدنيين أو أفرادا لا يشاركون مباشرة في الأعمال العسكرية .

2- تعمد توجيه هجمات ضد المباني والوحدات والأفراد من مستعملي الشعارات المميزة وفقاً لاتفاقية جنيف .

3- تعمد شن هجمات ضد موظفي أو منشآت أو وحدات ..مستخدمة في مهمة من مهام المساعدة الإنسانية أو حفظ السلام ماداموا يستحقون الحماية التي توفر للمدنيين أو للمواقع المدنية بموجب قانون المنازعات المسلحة.

4- تعمد شن هجمات ضد المباني الدينية أو العلمية أو التاريخية والأماكن التطبيبية، شريطة إن لا تكون أهدافاً عسكرية .

5- نهب أي بلد أو مكان حتى وإن تم الاستيلاء عليها عنوة .

6- الاغتصاب أو الاستعباد الجنسي أو الإكراه على البغاء والحمل القسري كما وضحته المادة السابعة من هذا النظام الأساسي.

7- تجنيد الأطفال دون سن الخامسة عشرة إلزامياً أو طوعياً أو استخدامهم للمشاركة في الأعمال العسكرية.

8- إصدار أوامر بتشريد السكان المدنيين لأسباب تتصل بالنزاع .

9- قتل أحد المقاتلين من أفراد العدو أو إصابته غدراً.

10- إعلان أنه لن يبق أحد على قيد الحياة .

11- إخضاع الأشخاص الموجودين تحت سلطة طرف آخر في النزاع للتشويه البدني أو لأي نوع من التجارب التي لا تبررها المعالجة الطبية والتي لا تجري لصالحهم .

12- تدمير ممتلكات العدو أو الاستيلاء عليها ما لم يكن ذلك لضرورة عسكرية .

و- بالنسبة لتعمد توجيه هجمات ضد المباني والوحدات الطبية ووسائل نقل الأفراد من مستعملي الإشارات المميزة في اتفاقية جنيف في حالة المنازعات غير ذات الطابع الدولي، لا يمكن تطبيقها على حالة الاضطرابات والتوترات الداخلية مثل أعمال الشغب وأعمال العنف المنفردة وما يماثلها، بينما تنطبق على المنازعات ََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََ التي تقع في إقليم دولة عندما يوجد صراع مسلح متطاول الأجل بين السلطات الحكومية وجماعات مسلحة أو فيما بين هذه الجماعات .

ونشير هنا إلى أن مختلف الأفعال التي عددتها المادة الثامنة من النظام الأساسي للمحكمة تستند في تجريمها إلى كتلة كبيرة من الاتفاقيات والمعاهدات والجهود الدولية في سبيل الحد من الحرب والتخفيف من مآسيها، بدايةً باتفاقية جنيف 1868م مروراً بقواعد مؤتمري لاهاي1896 ، 1907م المتعلقة بقوانين وعادات الحرب إلى اتفاقيات جنيف الأربع 1949م بخصوص الانتهاكات الخطيرة للقانون الدولي الإنساني(1) وغيرها من المبادئ والأحكام التي حازت مركز القانون الدولي العرفي، خاصة المبادئ المستخلصة من محاكمات نورمبرج(2) .

ومراعاة لطبيعة النزاعات التي عرفها العالم في مطلع التسعينيات والتي اتسمت بالطابع الإقليمي، وكذلك النزاعات القومية التي شكلت بالفعل تهديدًا خطيراً للسلم والأمن الدوليين وللقيم الإنسانية والحضارية، كان لابد من التركيز على المادة الثالثة المشتركة في اتفاقيات جنيف الأربع 1949م وبرتوكولها الإضافي الثاني كذلك، وذلك أسوة بالنظام الخاص بالمحكمة الجنائية الدولية برواندا وأيضاً القرار الذي أصدرته المحكمة الجنائية الدولية ليوغسلافيا السابقة والتي اعترفت فيه بأن المادة الثالثة المشتركة من اتفاقيات جنيف الأربع قد حازت المركز القانوني العرفي(3) . هذه النقطة الأخيرة كانت موضع نقاش كبير بين أعضاء اللجنة المخصصة لإنشاء محكمة جنائية دولية حيث أثيرت تساؤلات عن مدى انسجام ذلك مع كون المحكمة مكملة للإجراءات القضائية الوطنية، ثم كيف يمكن التصرف إزاء الأطراف الأخرى غير الدول والتي قد تكون ذات تأثير كبير على الأحداث الجارية في المنازعات المسلحة الداخلية خاصة أن البرتوكول الثاني لاتفاقية جنيف لم يحز مركز القانون الدولي العرفي ولا يلزم إلا الدول الأطراف فيه .

وبالإضافة إلى ذلك فقد اعتبرت بعض الوفود أيضاً أن الإشارة إلى الانتهاكات الخطيرة للقوانين والأعراف التي تسري على المنازعات المسلحة ليست دقيقة بما يكفي لأغراض مبدأ الشرعية، كما أن مفهوم الجسامة نفسه بحاجة إلى توضيح وإرفاقه بمعايير تبين الانتهاكات التي هي أكبر أو أقل خطراً أو اتساعا ًأو نطاقاً ، والتأكد من إدراج الانتهاكات الأكبر خطورة ضمن اختصاصات المحكمة... (1)

من هنا أعيد التأكيد على أن المحكمة بالفعل مكملة للإجراءات الوطنية، وأن تضمين المادة الثالثة المشتركة في اتفاقيات جنيف الأربع وكذلك البرتوكول الإضافي لها لا يتنافى مع ذلك.

أما بخصوص مسؤولية الأطراف من غير الدولة إزاء هذه النزاعات المسلحة غير الدولية، فقد حسم فيها مند 1955 عندما أكدت لجنة الخبراء "أن احترام المبادئ الإنسانية ليس قاصراً على الحكومات وحدها فقط بل يتعداها ليشمل جميع الأشخاص المشتركين في الاضطرابات الداخلية". (2)

ومراعاة لكل الاعتبارات السابقة فقد تم الاهتداء عند إعداد الصيغة النهائية للنظام الأساسي بمختلف التعاريف الواردة في المعاهدات السابقة المتناولة لهذه الانتهاكات المؤثمة، كما تم الاستئناس بالأحكام ذات الصلة في محاكمات نورمبرج والنظام الأساسي لمحكمة رواندا والنظام الخاص بالمحكمة الجنائية الدولية ليوغسلافيا، بحيث تضمنت المادة الثامنة من نظام روما الأساسي للمحكمة وضع تعاريف واضحة ومفصلة لكل العناصر الأساسية لمختلف الانتهاكات المكونة لهذه الجريمة تحقيقاً لمبدأ شرعية الجرائم والعقوبات، وحتى تستوفي معايير الإدماج الضرورية المتضمنة في النظام الأساسي باعتبارها كذلك من أشد الجرائم خطورة، بحيث يكون للمحكمة اختصاص فيما يتعلق بهذه الجريمة، لاسيما عندما ترتكب في إطار خطة أو سياسة عامة أو في إطار عملية ارتكاب واسعة النطاق لهذه الجرائم حسب الفقرة الأولى من المادة الثامنة .

بل إن المحكمة كما لوحظ أثناء مناقشة هذه المسألة عند إعداد مشروع النظام الأساسي انبثقت بالأساس كمحفل لمقاضاة جرائم الحرب والإبادة والتي تبقى لولا إنشاء المحكمة بدون عقاب .

رابعاً : جريمة العدوان : (1)

بدأت المحاولات الحقيقية لتعريف العدوان عقب إنشاء منظمة الأمم المتحدة وفي إطارها، وما عدا ذلك فقد ظلت هذه الجريمة مفهوماً سياسياً تفسره الدول حسب رغبتها، واستمرت الصراعات الإيديولوجية أثناء الحرب الباردة عائقا دون التوصل إلى تعريف محدد ودقيق للعدوان.. بالرغم من التوصل إلى تعريف إرشادي للعدوان بموجب توصية الجمعية العامة بتاريخ (1) 4 سبتمبر 1974 ، حصره في استخدام القوة المسلحة من قبل دولة ضد سيادة دولة أخرى أو سلامتها الإقليمية أو بأي شكل يتنافى مع ميثاق الأمـــــم المتحدة (1) .

ورغم أن المادة الثالثة من توصية الجمعية العامة قد حددت مجموعة من الأفعال التي تكون شروط الفعل العدواني، فقد ظل المفهوم عموما غير دقيق ولا واضح، وظل دور مجلس الأمن الدولي تحكميا هنا إذ بيده السلطة الكاملة والمخولة له بموجب الفصل السابع من الميثاق " بتقدير أي حالة لتهديد السلم أو أي إخلال به أو أي عمل من أعمال العدوان".

ولحساسية هذه المسألة فقد كانت من البداية نقطة خلاف كبير داخل اللجنة المخصصة لإنشاء المحكمة الجنائية الدولية، وفي ردود وتعليقات الدول لإتصالها من ناحية بعمل مجلس الأمن الذي يعتبر الأداة الأكثر فعالية لتحقيق مصالح الدول الكبرى وتنفيذ سياستها وتحقيق التوازن فيما بينها، ولكونها من ناحية ثانية تمثل الشكل الأشد عنفاً في العلاقات الدولية، من هنا ظلت هذه المسألة دون حسم حتى بعد التوقيع على النظام الأساسي للمحكمة .

لقد عارضت عدة دول إدراج العدوان ضمن اختصاصات المحكمة الجنائية الدولية هذه المرة، لا لكونها ليست مستوفية لمعايير الإدماج الواردة في ديباجة النظام الأساسي وفي مادته الأولى، وإنما بدرجة أساسية بسبب أولاً: غياب تعريف واضح ومحدد وثانياً: صعوبة التوفيق بين مسؤولية مجلس الأمن في صون السلم والأمن وتحديد العدوان من جهة، والمسؤولية التي سوف تؤول إلى المحكمة لتقرير المسؤولية الجنائية الفردية عن نفس العمل، من جهة ثانية، وكذا لأنه لا ينبغي التضحية من أجل أهداف سياسية بالهدف النهائي المتمثل في إنشاء جهاز قضائي لتطبيق العدالة بسبب هذه المسألة، والتي سيؤدي النقاش حولها بالضرورة إلى تأخير لا مبرر له في الانتهاء من وضع النظام الأساسي للمحكمة في صيغته النهائية. (1)

وبالمقابل فقد أيد البعض إدراج جريمة العدوان ضمن اختصاصات المحكمة رغم الصعوبات التي تكتنف مسألة تعريف هذه الجريمة، وذلك لاستيفائه المعايير الواردة في ديباجة النظام الأساسي وفي مادته الأولى، بالاستناد إلى المادة السادسة من ميثاق نورمبرج والمادة الأولى من توصية الجمعية العامة 3314 سنة 1974 والتعريف المقترح من قبل لجنة الخبراء 1955. وفوق ذلك ليس بوسع الأمم المتحدة الذي يكرس ميثاقها مبدأ عدم استخدام القوة، والتي أنشئت بالأساس لإنقاذ الأجيال من ويلات الحروب بعد 50 عاماً من إنشائها وقيام أول محاكمات جنائية دولية أن تستبعد العدوان من اختصاصات المحكمة الجنائية الدولية دون أن تكون بذلك قد خطت خطوات إلى الوراء، وتجاهلت الموقف المخالف لذلك الذي اتخذته لجنة القانون الدولي في سياق أعمالها المتعلقة بمشروع مدونة الجرائم المرتكبة ضد الإنسانية .

وفي الواقع فإن أغلب النقاشات وتعليقات الدول فيما يتعلق بجريمة العدوان دارت حول كيفية التوفيق بين مسؤولية مجلس الأمن في صون السلم والأمن وتحديد جريمة العدوان من جهة، ومسؤولية المحكمة في تقرير المسؤولية الجنائية الفردية عن نفس الجريمة. (1)

ومن هنا كان لابد من السعي إلى إيجاد حل وسط يوازن بين استقلالية المحكمة، وضرورة احترام الدور الرئيسي لمجلس الأمن في الحفاظ على السلم والأمن، بحيث يمكن للمحكمة أن تنظر في أي شكوى عن التعرض لعدوان معين إذا لم يكن مجلس الأمن الدولي قد اتخذ قرارا بشأن المسألة، كما أن سلطة مجلس الأمن في اعتبار تصرف معين عدوانا لا يؤدي إلى حرمان المحكمة من دورها في تحديد مسؤولية الأفراد الجنائية فيما يتعلق بنفس الموضوع، ولعل هذا مثل الحل الأمثل حينئذ لكن ظلت مسألة تحديد جريمة العدوان دون حسم شامل فرغم إقرار النظام الأساسي للمحكمة باختصاص هذه الأخيرة بالمتابعة عن جريمة العدوان لاستيفاء الجريمة الشروط الضرورية لإدماجها ضمن الولاية القضائية للمحكمة، إلا أن مختلف التساؤلات ظلت عالقة وبدأ تحديد الأعمال المكونة لجريمة العدوان دون تعيين حقيقي، وبدا أن ممارسة المحكمة على هذه الجريمة لاختصاصاتها حتى وإن دخل النظام الأساسي حيز النفاد، مؤجلة إلى حين .

وعليه وبالرغم من الإجماع على أن جريمة العدوان تمثل الشكل الأشد خطورة على السلم والأمن الدوليين بحيث تستوفي معايير إدماجها ضمن الولاية القضائية للمحكمة، وتم تضمينها فعلاً في نظامها الأساسي إلا أن المحكمة لن تمارس ولايتها على هذه الجريمة إلا متى ما تم اعتماد حكم بهذا الشأن، وذلك عقب استعراض هذا النظام الأساسي، أو إدخال أي تعديلات عليه بموجب المادتين 121 و123 ، بحيث يتم وضع تعريف دقيق لهذه الجريمة وكذلك الشروط التي على أساسها ستمارس المحكمة ولايتها إزاء جريمة العدوان (1) .

هذه هي الجرائم الدولية الأربع التي أمكن إدماجها ضمن الولاية القضائية للمحكمة الجنائية الدولية باعتبارها جرائم من الخطورة بحيث تثير قلق المجتمع الدولي بأسره، وتنطبق عليها بالتالي معايير الإدماج المبينة في ديباجة النظام الأساسي وفي مادته الأولى، وفصلتها بدقة المواد السادسة والسابعة والثامنة من هذا النظام.

وإذا كانت المادة التاسعة من النظام الأساسي قد أحالت على جمعية الدول الأطراف مسألة اعتماد أركان هذه الجرائم، فإنه يمكن الإشارة إلى أن أي جريمة دولية لابد من أن يتوفر فيها ثلاثة أركان أساسية وهي : (1)

1- الركن المادي : المتمثل في سلوك مادي ملموس -سواء كان إيجابياً أو سلبياً- يفضي إلى نهاية يؤثمها القانون.

ويتحقق الركن المادي في حالة جريمة الإبادة عند ارتكاب أي عمل يفضي إلى إحداث عملية الإبادة بصفة كلية أو جزئية، على النحو الذي فصلته المادة السادسة من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، كما يتحقق في حالة جرائم الحرب عند البدء في مباشرة الحرب سواء صدر إعلان رسمي بذلك أو لم يصدر مع ضرورة أن يصاحبها اقتراف للمخالفات الجسيمة التي بينتها المادة الثامنة من النظام الأساسي.

أما في حالة الجرائم ضد الإنسانية فإن الركن المادي يتخذ شكلين اثنين من الممارسة الإجرامية، وهما الفعل المادي اللاإنساني المتمثل في عدوان يصيب أحد المصالح الجوهرية للإنسانية كالقتل والتعذيب وغيرها من الممارسات التي تتنكر لأهم الحقوق الأساسية للإنسانية، وكذا الفعل المتمثل في اضطهاد مجموعة محدودة من السكان لأسباب سياسية أو دينية أوقومية، وفي كلتا الحالتين فإن جسامة الفعل تعد شرطاً جوهرياً لقيام الركن المادي هنا.

2- الركن المعنوي: أوضحت المادة الثلاثون من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية مدلول الركن المعنوي لهذه الجرائم عندما نصت على أنه لا يسأل الشخص جنائياً عن ارتكاب جريمة تدخل في اختصاص المحكمة، ولا يكون عرضه للمقاضاة إلا إذا تحققت الأركان المادية مع توافر القصد والعلم، واعتبرت أن توافر القصد لدى أي شخص يكون عندما:

- يقصد هذا الشخص فيما يتعلق بسلوكه ارتكاب هذا السلوك.

- يقصد هذا الشخص فيما يتعلق بالنتيجة التسبب في تلك النتيجة أو يدرك أنها ستحدث في إطار المسار العادي للأحداث .

أما لفظة العلم فتعني أن يكون الشخص مدركاً أنه توجد ظروف أو ستحدث نتائج في المسار العادي للأحداث. وتفسر لفظتا يعلم أو عن علم تبعاً لذلك.

ويتحقق الركن المعنوي بالنسبة لجريمة الإبادة الجماعية بقصد الجاني وإرادته قتل أفراد الجماعة أو إلحاق أذى بدني أو عقلي جسيم بها بهدف إحداث عملية الإبادة الكلية أو الجزئية لجماعة محددة، وهذا القصد الخاص أساسي في هذه الجريمة بغض النظر عن صفة ومركز الجاني، مع ملاحظة أنه في جريمة الإبادة فإن النية الجرمية والعمد متوفر في كل صور ارتكابها إذ لا توجد أي إمكانية لحدوث خطأ وهو ما يوضح بشاعتها. (1)

أما في جرائم الحرب فيتوفر الركن المعنوي بالاتجاه غير المشروع للإدراك والإرادة الحرة إلى ارتكاب المخالفات والممارسات التي يعد إتيانها بعلم الجاني جرائم دولية لا تقتضيها ولا تتطلبها الضرورة العسكرية، وأخيراً يتحقق الركن المعنوي في الجرائم ضد الإنسانية بتوفر القصد الجنائي الذي يقوم على علم الجاني وانصراف إرادته الحرة إلى أن فعله الإجرامي ينطوي على إهدار صارخ ولا إنساني للحقوق الأساسية والجوهرية لجماعة دينية أو عرقية أو سياسية بهدف الحرمان أو القضاء على هذه الجماعة.

3- الركن الدولي: يتطلب الركن الدولي أن يكون الفعل المرتكب صادراً بناء على طلب الدولة أو رضاها أو تشجيعها ومنطوياً على مساس بالمجتمع الدولي. (2)

ولخطورة الجرائم الدولية المتضمنة في النظام الأساسي للمحكمة فإن الركن الدولي يتوفر فيها حتى ولو مورست صورها من قبل أي دولة إزاء رعاياها كما في حالة جريمة الإبادة أو الجرائم ضد الإنسانية أو حتى جرائم الحرب عندما يتعلق الأمر بالمنازعات الداخلية، ومرد ذلك في الواقع نابع من الطبيعة الجوهرية للمصلحة المعتدى عليها والمتمثلة بحماية حياة وأرواح البشر أولاً، والمتصلة كذلك بقضية الإنسانية الأولي وهي قضية السلم والأمن الدوليين ثانياً.

ومن هنا كان من الطبيعي جداً أن يعتبر إتيان أي من هذه الجرائم بمثابة عدوان على قيم ومبادئ النظام القانوني الدولي وتهديد لأركانه الأساسية، لاعتبارها باعتراف كل الدول أنها مستوفية لمعايير الإدماج ضمن اختصاصات المحكمة الجنائية الدولية، والعمل في نفس الوقت على خلق نطاق معين من الاختصاص الدولي المشترك وتوسيع نطاقه تدريجياً بما يكفل تطوير النظام القانوني الدولي وصون قيمه السامية، خاصة الحقوق الأساسية للإنسان، وكفالة استمرار الحياة الدولية وثبات مظاهر العلاقات الودية بين الدول، وذلك وفقاً للمحددات الأساسية لعمل المحكمة كما تضمنها نظامها الأساسي ، وبالمراعاة للتوازنات التي تقتضيها طبيعة العلاقات الدولية. فماهي محددات دور المحكمة الجنائية الدولية؟ وما مدى مساهمتها في تعزيز وتطوير النظام القانوني الدولي؟.

دون أن ننسى التأكيد على أن عملية إنشاء المحكمة يُعد في حد ذاته نجاحاً يوازي النضج الذي وصلت إليه البشرية ، وتقدم الوعي بأهميتها الحالية والمستقبلية وانعكاساً لما بلغته القيم العليا في المجتمع الدولي من تنظيم . ولأن الهدف الحقيقي من هذه الدراسة لا ينحصر فقط في محاولة الإجابة عن التساؤل حول إمكانية قيام عدالة جنائية دولية ، بل يمتد إلى النظر للمحكمة بوصفها حتمية إنسانية وضرورة عملية لتجاوز حالات القصور التي أبانت عنها تجربة المحاكم الدولية الخاصة ، ومحاولة لسد ثغرة كبيرة في النظام القانوني الدولي من أهم أسبابها خلو ذلك النظام من محكمة جنائية دولية ، والعمل بالتالي من أجل أن تكون المحكمة الجنائية محكمة فعلية ذات كفاءة واستقلال ، وفاعلة من حيث قدرتها على المبادرة والتصرف بهدف تفعيل وتعزيز القانون الدولي ؛ لذلك فإننا سنحاول الإجابة عن التساؤلات المتصلة بمدى مساهمة المحكمة في تعزيز وتطوير النظام القانوني الدولي ؟ وماهية المعيقات التي قد تعرقل عمل المحكمة ، والشروط الضرورية لتفعيل دور المحكمة.

 

 

What's Your Reaction?

like
0
dislike
0
love
0
funny
0
angry
0
sad
0
wow
0