لماذا اختار المغاربة المذهب المالكي

لماذا اختار المغاربة المذهب المالكي

كثرت الإجابات وتشعبت ، وبعد بحث مستفيض بتقص وتتبع  لجلها وجدت : أن كل ما وقفت عليه من الدراسات والبحوث لم يهتد فيها أصحابها إلى المقصد الأساس ،  وذلك لأسباب :

-الخلط الموجود في حديثهم عن المذهب في أقطار الغرب الإسلامي : الأندلس والمغرب الأقصى وتونس ، مع وجود اختلاف كبير بين هذه الجهات من نواح عدة 

-التركيز على الأسباب المساعدة على الانتشار والاستقرار ، والتي جاءت متأخرة وفي فترات متباينة ومتلاحقة ، مما جعل كلامهم  يتسم  بالعموم والسطحية 

-تجاهل ما كتبه فقهاء المذهب وناشروه والذابون عنه في الموضوع والإعراض عنه ، مع أن كلامهم ينبغي أن يؤخذ بعين الاعتبار  

-عدم مراعاة  الفروق الموجودة بين الطور الأول : الاقتداء وبين طور الالتزام الذي كان متأخراً بعد ما عرف الناس المذهب وفسر وشرح ، فالاختيار كان من أجل الاقتداء ، أما الالتزام به وحده في القضاء والفتوى ، فهو راجع إلى أسباب أخرى ستأتي في حينها  

 -إغفال الطريقة التي تناول بها الفقهاء الموضوع ، والتي كان ينبغي أن تعتمد وتتخذ أساساً ومرجعاً ومنطلقاً ، فإنهم رحمهم الله أجابوا عن السؤال ، وصرحوا بالمقصد الأصلي وهو : ما يرجع إلى قانون الاقتداء  ، وتحدثوا عن الأحوال والأطوار التي عرفها تاريخ المذهب بالمغرب .

 نصوص أئمة المذهب :

يقول الإمام أبو عبد الله محمد بن عمر بن الفخار في كتابه الانتصار : ” قال أبو  عبد الله محمد بن عمر رحمه الله : فإن قال لنا قائل : فإذ أنت قد ذكرت فساد هذه المسائل عن الشافعي وعن أبي حنيفة رحمهما الله ، وصححت المسائل التي ذهب إليها مالك رحمه الله وأهل المدينة ، وثبتت صحة براءتهم وصحة ما نقلوه ، أقلدت دينك مالكا أم كيف الأمر ؟ قلت : ما أتبع مالكا ولا غيره ، ولا أتبع إلا ما فرض الله علي وعلى جميع الناس اتباعه ، وإنما أتبع كتاب الله تعالى ومحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وما أجمع المؤمنون عليه . قال الله عز وجل: (اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم[1]) وقال : (وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم[2]) وقال عز وجل : (من يطع الرسول فقد أطاع الله[3]) وقال عز وجل : (ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون[4]) وقال الله عز وجل : (فآمنوا بالله ورسوله النبيء الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون[5]) وقال الله عز وجل : (لقد كان لكم في رسول الله إسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر[6]) وقال عز وجل : (وما آتاكم الرسول فخذوه ، وما نهاكم عنه فانتهوا[7]) وقال : (فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم[8]) وقال عز وجل : (وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله[9]) وقال عز وجـل : (فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ، ذلك خير وأحسن تأويلا[10]) وقال عز وجل : (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما[11]) وقال عز وجل : (.. ويتبع غير سبيل المؤمنون نوله ما تولى ونصله جهنم ، وساءت مصيرا[12]) فهذا الذي أتبع ، وبما قدمت ذكره أقتدي ، وبه أدين ، لا أتخذ من دونه آلـهة ، ولا رسوله ولا المؤمنون وليجة ، قائدنا كتاب الله ، وهادينا إليه محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأعواننا وأعلامنا على ذلك وإلى ذلك المؤمنون جملتهم . ولكن مالكا رحمه الله رجل أمسك بحبل الله من أمر من مضى قبله فمن لنا في اتباعهم الهدى لاتباعهم من قبلهم ممن أدركوا قرنا فقرنا حتى انتهى ذلك إلى من عاين رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاينه[13] وأخذ عنه بداره التي اختارها الله لهجرته وسنته ، فكان القوم على ميراث من الرسول صلى الله عليه وسلم في قرب العهد الذي أدركه مالك رحمه الله ، فرأيت مالكا رحمه الله قد أتقن الحفظ ، وأحسن العناية بما حكى ، فأتقن الحكاية ، ودلنا فيها على محاسبة نفسه واستقصائه عليها    [14]     بين عن قبله وعن بعده ، حتى أراد أن يؤدي إلى هؤلاء عن أولئك ، فروى الأحاديث فساق في الرواية عن أهل العلم ما فتحا[15] به الرجال ، فحمل العلم ونقله يجهد أن لا يأخذ إلا عن أهله ، وقصد إلى الذي يحتاج إليه دون ما يشغل عما ينتفع به ، ولقد سئل عن حديث فأبى أن يتحدث به قال : سمعت عن ابن شهاب رحمه الله مثل هذا الكتاب لكتابه في المناسك ، وهو من أكبر كتبه ، ما تحدثت منه بشيء، وكان فيما زعموا يقول : إنما نتكلم فيما نرجو بركته ، ولقد وضع كتابه (الموطأ[16]) وأن فيها لأحاديث كثيرة ، فمات عنها وهي أقل ، يلخصها عاما عاما ، ويتركها شيئا شيئا بقدر ما يرى أنه أصلح للمسلمين وأمثل في جمل الآثار والدين ، فهذا علته في الأحاديث : حكى ما مضى من السنن والعمل ببلدهم بلد رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي ثبت تفضيله على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فحكاه حكايات مختلفات، ينسب كل نوع بنسبته ، بعد ما علم أن بعضها أقوى من بعض ، فلا يرفع الأسفل إلى الأعلى ، ولا يحط إليه الأعلى .

فمن ذلك ما يقول فيه : السنة عندنا التي لا اختلاف فيها ولا شك .

ومنه ما يقول : السنة ، مرسلة ، لا يزيدها قوة ولا يدخل عليها وهنا .

ومنه ما يقول : السنة عندنا . فيخبر أن السنة عندهم خاصة دون سائر أهل البلدان بلدان الإسلام ، فيصف السنة على وجهها ليجعل من بعده على مثل علمه في أمر من أدرك قبله ، ثم يقول في أشياء لم يبلغ عنده أن تكون سنة ، لأن السنة عندهم ما جرى عليه أمر بلدهم في القديم والحديث ، لا يعرف به أول حديث فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فكأنما هي الصورة التي حكيت عنه ، واستغنى أن يحكى لحياتها بالعمل فينسبها على أقدارها مناسب آخر ، فمتى ما يقول : الذي لم يزل عليه الأمر ببلدنا ، كأنه عنى بعد افتراق البلدان .

ومنه ما لم يبلغ ذلك فيقول : الأمر المجتمع عليه ببلدنا . والذي لا اختلاف فيه ولاشك ببلدنا يعني فيمن أدركت .

ومنه ما يقول : سمعت أهل العلم يقولون[17] فيه : كذا وكذا .

ومنه : ما يقول : سمعت بعض أهل العلم يقوله .

ومنه ما يقول : الأمر عندنا حتى ينتهي إلى الأمر الضيق الذي قد يحدث في الناس ولم يعلم فيه شيئا ماضيا فيقول : في رأي ، ولعل ذلك في كتابه لا يكون عشرين مسألة . فيفرق بين الرأي والحكاية ، ولا يفعله إلا في أمر يحتاج الناس إليه .

وقد رأينا كتب أصحابه سواه من نظرائه لم يبلغوا فيها هذا المبلغ ، ولم يستقصوا فيها على أنفسهم هذا الاستقصاء ، فاخترت لنفسي كتابه هذا الذي أدى فيه علم ما قبله من الرواية والعمل بدار العمل والسنن ، فهو الأصل الذي أذهب إليه ، لأنه علم من قبل مالك رحمه الله فنسب إلى مالك ، لأنه جمعه ، فأولئك أتباع الجملة والجماعة لا رجلا منفردا ، ثم كانت له سوى هذه مسائل كثيرة جدا استفتي فيها وبحيث كثرت بطول زمانه ودوام فتياه وكتبها أصحابه ، يشتقها من هذه الأصول ويبنيها عليها برأيه واجتهاده عند النازل إذا نزل إن شاء الله تعالى .

نجد الدلائل مع الشواهد على قوله من الكتاب والسنة والآثار عتيدا . فمن ذلك : أنه استفتي في رجل من أهل المدينة حلف في قمري ، وهم يتخذونها للتصويت ، فحلف الرجل بطلاق امرتأه إن كان قمريه يسكت ، ثم ندم الرجل وخاف الحنث وقال : هو يسكت ، فقال مالك رحمه الله : إن كان مكثرا التصويت جدا فلا حنث عليه ، لأن ذلك الذي أراد وعنى ، فنظرنا فيما قال : فوجدنا فاطمة بنت قيس رضي الله عنها تحكي أن رسول[18] الله صلى الله عليه وسلم قال لها في أبي الجهم حين خطبها : إن لا يضع عصاه عن أهله ، وأبو الجهم قد يضعها ، ولكنه كان يكثر ضرب النساء ، فانظر جودة استنباطه ، وصحيح فهمه ، وموافقته المعنى فيه ، ولم نجد ذلك عند غيره لو سألهم سائل لطلقوا عليه وجهلوا المعنى .

وكان رحمه الله فيما زعموا لا يجيب حتى يطرق ، ولا يتكلم حتى يبدأ بذكر الله ، فأين هذا الفهم وصحة هذا الاستنباط ، وسرعة البديهة بعلم الحفيظة مما تقدم ذكره من مسائل الشافعي وأبي حنيفة رضي الله تعالى عنهما ، ووضوح فسادها ؟ والله تعالى أعلم بالصواب . اهـ كما وجد.“

ويقول الإمام القاضي عبد الوهاب في المعونة انظر النص مع المقدمة الأصولية (ص: 248 لأهميته

يقول الإمام القاضي عياض رحمه الله : ~ وأما أهل الأندلس فكان رأيهم منذ فتحت على رأي الأوزاعي إلى أن رحل إلى مالك زياد بن عبد الرحمن ، وقرعوس بن العباس والغاز ابن قيس ، ومن بعدهم ، فجاءوا بعلمه وأبانوا للناس فضله ، واقتداء الأئمة به ، فعرف حقه ودرس مذهبه ، إلى أن أخذ أمير الأندلس إذ ذاك هشام بن عبد الرحمن بن معاوية ابن هشام بن عبد الملك بن مروان الناس جميعاً بالتزام مذهب مالك [19] "

ويقول الإمام ابن العربي رحمه الله في " العواصم من القواصم " : ~ ولما ظهرت الأموية على المغرب وأرادت الانفراد عن العباسية وجدت المغرب على مذهب الأوزاعي ، فأقامت -في قولها -رسم السنة ، وأخذت بمذهب أهل المدينة في فقههم وقراءتهم وكانت أقرب من إليهم قراءة ورش فحملت روايته ، وألزم الناس بالمغرب حرف نافع ، ومذهب مالك فجروا عليه ، وصاروا لا يتعدونه [20]}

ويقول الإمام شمس الدين محمد بن محمد الراعي الأندلسي (ت: 853) في كتابه " انتصار الفقير السالك لترجيح مذهب الإمام مالك " : ” واعلم أن المغاربة وعلماء الأندلس لما أرادوا أن يطلبوا العلم قصدوا إلى مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي هي دار هجرته وموضع إقامته ومهبط الوحي عليه ، ووجدوا عالمها مالكاً وهو أعلم أهل زمانه بالكتاب والسنة وأقوال الصحابة والقياس ، وفهم الألفاظ والمعاني ، ومعرفة الإجماع والاختلاف ، ووجدوا أهل الحل والشد من علماء الأمة من أهل زمانه قد أجمعوا على وفور علمه ودينه وزهده ، ولم يجدوا على ذلك مخالفاً إلا من لم يعتد بخلافه من أهل البدع والأهواء والمتعصبين ، فأخذوا عنه علم أهل المدينة وعملهم ورجعوا إلى بلادهم ، فأخرجوا منها جميع مذاهب أهل العراق وغيرهم ، وكان في المغرب والأندلس : مذهب الأوزاعي والليث وداود وغيرهم حتى وصل إليهم مذهب مالك وعرفوه ، أخذوا به وعملوا بمذهبه رضي الله تعالى عنه ، إذ هو أعلم الناس بشهادة الأئمة الثلاثة المجتهدين وغيرهم ممن هو في رتبتهم في العلم بالحديث والفقه وغير ذلك – حسب ما تقدم – وهو شهود لا مطن فيهم ولا فيما شهدوا به إلا مع قلة الإنصاف والمكابرة والجهل المركب والتعصب ، ونعوذ بالله من مخالفتهم ومن اعتقادغير مااعتقدوه ، ورضي الله تعالى عنهم أجمعين[21]

            ويقول الإمام القاضي عبد الوهاب في كتاب المعونة : ” فإن قيل : أتراكم تعتقدون مذهب مالك بن أنس رحمه الله وتختارونه دون غيره من مذاهب المخالفين ، وتخبرون عن صوابه .. انظر المقدمة الأصولية : ” 248 نقله من المعونة .

ويقول الفقيه أبو عبد الله محمد بن عمار الميورقي في قصيدة له يمدح فيه الإمام ومذهبه

وكن في المذاهب مالكياًّ            مدينيا وسنّيّا متينا

مدينة خير من ركب المطايا   ومهبط وحي رب العالمينا

بها كان النبي وخير صحب    وأكثرهم بها أضحى دفينا

ومالك الرضى لا شك فيه     وقد سلك الطريق المستبينا

نظرنا في المذاهب ما رأينا      كمذهب مالك للناظرينا

فلم تلف الخوارج فيه بتا       ولم تظهر على طول السنينا

ومذهبنا اتباع لا ابتداع       كما اتبع الكريم الأكرمينا

وعندي كل مجتهد مصيب    ولكن مالك في السابقينا

وقد دل الدليل على صواب   يقول به لدى المتحققين [22]

انظر ترجمته في تكملة ابن الأبار : 1/137) ونفح الطيب : 2/60)   

ما يستنتج من ذلك :

فهذه النصوص توضح بجلاء أن تاريخ المذهب بالأندلس والمغرب عرف أطواراً متفاوتة ومختلفة هي :

أولاً طور الاقتداء

ثانياً طور الالتزام

ثالثاً طور الاستقرار والاستمرار

 


[1] الأعراف : 3 .
[2] النساء : 59 .
[3] النساء : 80 .
[4] النور : 52 .
[5] الأعراف : 158 .
[6] الأحزاب : 21 .
[7] الحشر : 7 .
[8] النور : 63 .
[9] الشورى : 63 .
[10] النساء : 59 .
[11] النساء : 65 .
[12] النساء : 115 .
[13] كذا
[14] بياض بقدر ثلاث كلمات .
[15] كذا
[16] زيادة للبيان
[17] الأصل : يقول .
[18] تقدم تخريجه تحت رقم 104 وهو تتمة حديث فاطمة بنت قيس .
[19] " ترتيب المدارك " : (1/26-27)
[20] " العواصم من القواصم " : (2/483-484)
[21] " انتصارالفقير السالك لترجيح مذهب الإمام مالك " : (ص: 165-166)
[22]  انتصار الفقير السالك لترجيح مذهب الإمام مالك : (ص: 245)

What's Your Reaction?

like
0
dislike
0
love
0
funny
0
angry
0
sad
0
wow
0